إفترش الأرض بعدما غلبه النعاس فارتكن إلى جوار الحائط وغفل قليلا ، ضوضاء وصراخ ، تراشق بين الأفراد يتدخل البعض الآخر لفض الإشتباك ، بعض المطاعم تفرض موسيقاها وأغانيها الصاخبة التى تزيد من توتر الأعصاب ، عمال يهرولون نحو بعض المغادرين أو القادمين الذين ينبئ مظهرهم أنهم ميسورون ويمكنهم أن يدسون فى جيوبهم بعض الدنانير أو الريالات ،إنتظر الرحلة القادمة من جدة لم يأت ( محمود ) ساوره الشك راح يجوب الحاج ( على ) أرجاء المطار يسأل لماذا لم يأت ولده ؟ هل تبدل الميعاد أم أخطأ الفهم فربما سيأتى على الخطوط السعودية ؟ تسارعت دقات قلبه ، لكنه تذكرعلى الفور أن ( سامى ) ترك له هاتفه عندما زاره بقرية ( ميت خميس ) لإيصال الحقيبة التى أرسلها محمود لإخوته فى بداية العام الدراسى وسرعان ماتحدث اليه - ياسامى يابنى انتظر أخوك محمود منذ الصباح - ياحاج ( على ) محمود سافر على المركب ( الخير ) وطلب منى أبلغك - المركب اللى غرقت أسترها يارب ، سمعت الخبر من الناس الآن دارت الأرض بالأب وخذلته قدماه فتهاوى أرضا يدق الصدر والرأس.... محمود ، محمود كأن صخور العالم صنعت هرما فوق رأسه ، جف حلقه ، خانته أطرافه ، ساعتين وكانت ( ميت خميس ) كلها تطوق الحاج ( على ) أقلتهم الميكروباصات إلى سواحل البحر الأحمر ، الآف البشر الذين هرعوا يبحثون عن ذويهم جلهم من الصعيد ، بعض النساء بأردية سوداء فى انتظار الأمل ربما جاء البعيد سابحا فتطلقن الزغاريد ، وأخريات الرعب ينهل من عيونهم المكتوية بنار الخوف ربما جاء الولد طافيا فيكتب عليهن السواد للأبد ، وقف الحاج ( على ) بين هؤلاء وهؤلاء ينادى فى البحر يا ( محمود ) أنا هنا ياابنى وفرق الإنقاذ والمسئولين يطلبون من الأهالى الإبتعاد عن المكان حتى لايعطلون سير البحث عن الناجين والمفقودين ، وقال بعض المواطنين الذين يتجمهرون فى مثل هذه الحالات إما للمساعدة أو للإستطلاع أنه من المؤكد أن المركب حينما مالت على أحد جانبيها تدافع الركاب هلعا ، العيب فيهم لماذا تكدسوا فى جانب واحد ألم يفهموا أن التوازن مطلوب فى تلك الأحوال ؟ لو تحلوا بضبط النفس ماوقعت الكارثة ، لكنه القضاء والقدر ، سمعنا أن صاحب المركب إنسان طيب ( بتاع ربنا ) أبى إلّا أن يركب الجميع ليلحقوا بأولى أيام الشهر الفضيل ، كلما كان هناك متسعا فى المركب فلن يضن بلم الشمل أبدا ، سمعنا ان أطواق النجاة من فترة طويلة لم يتم التأكد من سلامتها لكن (مكتوب لهم والمكتوب ليس منه هروب ) لااعتراض على أمر الله ، تجمعت الحيتان حول السفينة بشكل غير عادى فتحت شهيتها رغم أنها لم تشعر بالجوع أبدا ، وظهرت للعيان تتساءل هل من مزيد ؟ ، ومن حولها راحت أسماك القرش تبحث عن القطع التى لم تجوسها الحيتان ، وماأن بدأ العمل الدئوب حتى إنهار من جهزوا التوابيت وهناك مقشعرى الأبدان الذين أصابتهم الأمواج العاتية بالهلع فالتحفوا البطاطين وأعطى كل منهم شال ورداء مشروب ساخن وكلمات محفوظة نرددها كثيرا فى تلك المواقف ( قدر ولطف وبركة اللى جت على قد كده ) أما الحاج ( على ) فجلس يسف الرمال يضرب خديه كلما حل المساء ، حاول الأهل والجيران أن يعيدوا إليه بعض التوازن ربما ......تعود الروح اليه ( أنت مؤمن بقضاء الله وقدره ) اليوم أول رمضان ياحاج ( على ) لو لم يعد ولدك فالعشرة أيام الأولى من رمضان هى ( رحمة ) للمتوفى فلتفرح ...هذه نعمة كبيرة نحسدك عليها ياحاج كانت المصيبة أكبر من عمر أبو محمود الذى جاوز الخمسة وسبعون ، لم يسمعهم وظل ينادى على ولده ، مضى أسبوعه الأول أمام السواحل فيما إنفض الناس من حوله ولم يستطع أن يسلم أمره لله كما نصحوه فيعود خائبا، وخلا المكان من أى مسئول غير مسئول ، كان جزء ضئيل من المركب ظاهر للعيان ويدا الحاج (على) للأعالى تنادى ياابنى ، وصل الى مسامع أحد الرعاة أنين أبو محمود - إرجع لم يعد هناك ناجون - من غير محمود ؟ رجعونى ( برجل والا أيد ) - ياعم الحاج إحنا لسه بنصرخ ( المركب بتغرق ياريس مرسى )