يستقر عقرب الساعة على العاشرة صباحًا، تتخطى «جيهان» الزوجة الأربعينية الباب الحديدى المفضى إلى محكمة الأسرة بالقاهرة الجديدة بخطى مترددة وعينين زائغتين وقلقتين، تتجاوز موجات الزحام المتلاطمة وأجسام الحاضرين المتلاصقة كالبنيان المرصوص، وبعين متفحصة أخذت الزوجة الأربعينية تتنقل بجسدها المنهك بين قاعات وأروقة المحكمة، كانت تبدو كالغارقة التى تبحث عن منقذ لها أثناء بحثها عن إجراءات دعوى الخلع والنفقة اللتين أقامتهما ضد زوجها المدمن- حسب تعبيرها- ليستقر بها المطاف فى النهاية أمام باب زجاجى مدون عليه «مكتب المساعدات القانونية»، لعلها تجد حلًّا «مجانيًا» بمنأى عن أتعاب المحامين التى أثقلت عاتقها وعاتق أهلها الذين تكفلوا بالإنفاق عليها وعلى طفليها، بعدما خصص زوجها كل راتبه الشهرى لشراء المخدرات، حسبما روت. بعبارات متحفظة وكلمات تخرج منها ثقيلة بدأت الزوجة الأربعينية سرد تفاصيل روايتها قائلة: «تزوجته منذ 10 أعوام بطريقة تقليدية، يكبران بسنوات قليلة، كان موظفًا بسيطًا، ودخله الشهرى محدود جدًا، لكن أهلى كانوا يرونه عريسًا مناسبًا، له مصدر رزق ثابت، وسيؤمن لى حياة مستقرة ليس كسابقيه، ورغم ضيق حالنا، كانت حياتنا فى بادئ الأمر مثالًا للحياة الزوجية المثالية الهادئة، وكان زوجى مثالًا للرجل المحب لبيته وزوجته، الغيور عليها من أنفاسها وأعين المقربين إليها، والمخلص لها كإخلاص الثائر الحق لوطنه، كان يقتطع من زاده ليطعم طفليه، ويضحى بمظهره فى مقابل أن يكسوهما بأفضل الثياب، حتى رقى فى عمله وزاد مرتبه، وكأنه لا يصدق ما قصده بين يديه من أموال، وتسلل أصدقاء السوء إليه، فسيطروا على عقله، وعلموه كيف يشد الأنفاس ويبتلع أقراص الترامادول المخدرة، ويقضى ليله يستنشق المساحيق البيضاء على مرأى ومسمع من الصغيرين دون استحياء». تعتدل الزوجة فى جلستها وتغمض عينيها البائستين أثناء مواصلة روايتها لتضيف: «بعد ذلك تحول زوجى إلى رجل قاسٍ القلب، لا يعبأ إلا بنفسه واهتماماته الخاصة فقط، وبتوفير حاجاته من السم الأبيض والأقراص المخدرة، لا يقوى حتى على الحركة، وإن سار خطوة كان يبدو كالذى يتخبط من المس، لا يفيق من تأثير المخدرات، ولا يستحى أن يتعاطاها فى حضرة زوجته، بل ويدعو أصدقاءه المدمنين ليستمتعوا بلحظات سعادتهم المزيفة فى منزلنا، وحينما كنت أعلن رفضى واعتراضى لممارسته واعتراض هذه الأعمال الشيطانية فى بيتى وأمام أطفالى، كان يوجِّه لى اللكمات والصفعات والركلات، وينهال على جسدى الهزيل بالضرب، ورغم كل ذلك تحملت وصبرت من أجل مستقبل الصغيرين، وخوفًا من تحرش أحد المنتشين بى الذين كانوا يتجولون فى منزلى بحرية وكأنه طريق عام، أو تهجمهم على ورجلى غائب عن الوعى، بت أقضى ليلى خائفة وجالسة على حافة سريرى مرتدية عباءتى السوداء البالية وقابضة على أطرافها بقوة حتى ينصرفوا». تتحايل الزوجة الأربعينية على دموعها المنهمرة بابتسامة خفيفة تعلو ثغرها وهى تختتم روايتها: «ازداد زوجى فى طغيانه، وخصص كل راتبه لشراء المخدرات، تاركًا بيتى خاليًا من المال والطعام، لجأت لأهلى ليبقونى أنا والصغيرين على قيد الحياة، حتى فاض بى الكيل، وطلبت منه أن يتحمل مسئولياته كأب وزوج، ويرحمنى من مد يدى للقريب والغريب كى أنفق على البيت، فردد لى بنبرة متبجحة: «تعرفى تخلعى البلاط وتأكلى عيالك؟»، فأجبت على سؤاله:«لأ مش عارفة، بس أعرف أخلعك أنت»، وبالفعل لجأت إلى محكمة الأسرة. أتيت الى بيت العدل لعلى أجد خالتى وأستطيع الحصول على بضع مئات من الجنيهات من زوجى أنفق على طفلى وها أنا أمام مكتب التسويات وربما تعرضون على الصلح كما يفعلون ولكن لم يعد هناك صلح بيننا، كل ما أريده هو المال الذى يكفينى بالكاد وطفلى، وكل ما أرجو هو العدالة الناجزة والفصل فى قضيتي بسرعة والحكم على زوجى ربما يفيق من غفلته التى أصيب بها، فهل من مجيب؟!