يثير موضوع إعارة وندب القضاة أو أعضاء الهيئات القضائية عموما عديدا من الأسئلة والاعتراضات، وخاصة عندما يبدو التعارض بين استقلال القاضي وحيدته، وانتدابه أو إعارته مع وزير أوغيره بإحدي الجهات التنفيذية، حيث يثور الاعتراض عن كيف يكون القاضي مستقلا ومحايدا في قضائه بمحكمته، حسبما يوجب الدستور والقانون ويكون في ذات الوقت منتدبا مستشارا قانونيا لدي وزير أو في وزارة معينة، لديها قضية منظورة لدي هذه المحكمة، أي ان يكون القاضي رئيسا أو عضوا في محكمة بالنهار ومنتدبا مستشارا قانونيا للوزير أو بالوزارة بعد الظهر!! وهذا التساؤل مهم وخطير، وسبق أن صدر في الستينيات حكم من المحكمة الإدارية العليا يقرر عدم وجود أي تعارض في هذا الشأن، استنادا إلي أن الطرف في الدعوي القضائية ليس شخص الوزير، ولكنه الدولة، والوزارة ذاتها كشخصية معنوية وذلك بصفته ممثلا قانونيا للدولة، وفقا لأحكام الدستور والقانون، وفي الحقيقة، فإن هذا الحكم الفريد، يقوم علي تجاهل أن الوزير المنتدب لديه القاضي، يشرف علي أدائه لعمله بالوزارة، وله مصلحة شخصية، في أن يكسب القضايا التي تكون موجهة ضد قرارات أو عقود أبرمها الوزير - وبافتراض - ما يجب أن يكون - فإن القاضي سوف يحافظ علي استقلاله وحياده بأن يتنحي عن نظر القضية، التي يكون الوزير المنتدب لديه شأن فيها، إلا أنه بمجرد وجود حالة الندب، تحدث الشك في وجود تأثير للوزير علي المستشار المنتدب لديه والذي قد يكون عضوا ورئيسا للدائرة التي تنظر الدعوي مجلس الدولة علي سبيل المثال. ويكون الحرج أشد بالطبع، إذا كان القاضي يحصل بقرارات من الوزير - كالمعتاد- علي بدلات ومرتبات ومزايا عينية مقابل ندبه بالوزارة، كما ان هذا الندب، يوجد صلة يومية بين القاضي والوزير مع قيادات الوزارة، وقد ينشئ ذلك افتراضا علاقات من المصالح المتبادلة، بين القاضي المنتدب وقيادات هذه الوزارة، ولا توجد قواعد في قانون السلطة القضائية أو في قانون مجلس الدولة، أو في قوانين الهيئات القضائية الأخري تحدد الحد الأقصي لمدة الندب أو الإعارة، أو الحد الأقصي لقيمة المقابل الذي يحصل عليه المنتدب أو المعار من الوزارة!! ولا توجد أيضا قواعد في تلك القوانين تفرض ضرورة التفتيش الفني والقانوني، لمراجعة عمل القاضي في الجهة المعار أو المنتدب إليها، لتقدير كفاءته بناء علي عمله القانوني في هذه الجهة وذلك تأسيسا علي «سرية الأعمال» التي يؤديها المنتدب أو المعار!! ونتيجة لهذه السلبيات، فإنه قد ثار بالطبع الجدل في مدي شرعية هذه الانتدابات والإعارات للجهات الإدارية وغيرها، ومدي تحقيقها للصالح العام حيث تحرم السلطة القضائية من مساهمة القضاة المعارين والمنتدين في إقامة العدالة، مع النقص الحاد في عدد القضاة بالنسبة لعدد القضايا الواجب الفصل فيها، هذا فضلا عن عدم المساواة بين مرتبات وبدلات ومزايا القضاة غير المنتدبين أو المعارين، مع المنتدبين أو المعارين من بينهم، كما أن هؤلاء يرقون مهما طال ندبهم وإعارتهم بينما نظام العاملين العاديين يوقف ترقية من يتجاوز أربع سنوات بعيدا عن عمله الأصلي!!! وذهب البعض لكل ذلك إلي إلغاء وحظر الانتدابات والإعارات للقضاة بصفة مطلقة، وهذا الرأي في الحقيقة غير سديد وذلك لان القضاة المنتدبين أو المعارين يفيدون الجهات الإدارية بالخبرات القانونية الكبيرة لهم!! كما أنهم يستفيدون خبرة واسعة من إطلاعهم علي كيفية سير وإدارة المؤسسات والوزارات والشركات العامة التي يعملون فيها خلال الندب أو الإعارة، ويتبع مجلس الدولة الفرنسي نظاما يختلف عما يتبع في مصر، إذ يتم اختيار مستشار من مجلس الدولة الفرنسي لكل وزير بقرارات من مجلس الدولة ذاته فور التشكيل الوزاري، وليس بناء علي اختيار أي وزير ولا يترتب علي هذا الاختيار حصول المنتدب أو المعار علي أية مزايا نقدية أو عينية من الوزارة بل تدرج المبالغ اللازمة في ميزانية مجلس الدولة، ويحصل عليها المنتدب أو المعار كما يخضع للتفتيش والرقابة من مجلس الدولة علي العمل الذي يؤديه ليكون الأساس في تقدير كفاءته السنوية، ولا يجوز أن تزيد مدة الندب أو الإعارة علي أربع أو خمس سنوات، ولا يجوز للوزير أن يرفض مشورة أو فتوي المستشار المنتدب أو المعار إلا بقرار مسبب وعلي مسئوليته السياسية!! ولا يجوز أن يكون المنتدب عضوا في المحكمة في أية قضية فتكون للجهة الإدارية المنتدب إليها مصلحة فيها، ولعل النظام الذي يتبعه مجلس الدولة الفرنسي هو الأفضل بالاتباع لتحقيق الهدف من الإعارة أو الندب سواء في إفادة الجهات الإدارية من الخبرة القانونية لأعضاء مجلس الدولة أو لغيرهم من القضاة ولضمان عدم المساس باستقلالهم وحيدتهم في أداء عملهم القضائي بالمحكمة!!! ويحتاج الأمر إلي تقرير هذه القواعد المتبعة بمجلس الدولة الفرنسي بمصر في أحكام قانون السلطة القضائية وقانون مجلس الدولة وقوانين هيئة قضايا الدولة، والنيابة الإدارية ولا محل لإدراج هذه القواعد بالدستور الجديد كما ذهب البعض في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور لذلك. رئيس مجلس الدولة الأسبق