العزيز والحبيب الغالى/ هاشم على الرغم من محاولاتى المستميتة لتطهير وطنى من الحزن، فإن ذلك الحزن صار متفشياً داخل روحى وداخل ذلك الوطن الذى طالما جاهدت أن تحمل ملامحه لون بشرتك، وجنسيته من فصيلة دمك، وعبير بساتينه التى تحمل من ريحك، فبات ذلك الحزن أشبه بتنزيل سماوى على أن أتنسمه فى رضا وحالة من الصمت والاستسلام للقضاء والتنزيل. لقد علمتنى الحياة التأدب مع الأقدار، لكننى يا عزيزى صرت أشبه بقطعة من القماش الذابلة التى لم تعد لتحتمل أى شد، إننى أستشعر بإنهاك روحى التى لم تعد قادرة على الركض وراءك مثلما كانت تركض لتلاحقك، صرت أعصاب قدمى غير قادرة على حملى ونغز الألم فى كعب قدمى وكاحلى فلم أعد بقادرة لا على الركض ولا على المسير، صرت فقط أبكى جالسة وأتألم جالسة، هل كنت مخطئة حين أغلقت حياتى عليك فلم تر عينى إلّاك ولم يفتح قلبى لسواك، فصرت عين عين وجودى مثلما كان ينشدنا ياسين التهامى بكلمات سلطان العاشقين سيدى عمر بن الفارض، هل كنت صادقة فى التبتل إلى الله حين دعوته أمام الكعبة المشرفة لأن تكون أنت قرة عينى، فاستجابت السماء لى، فكنت لى يوسف من يعقوب، ويوسف من زليخة، وموسى من أمه، وقد قرت به عيناً. ولا أعلم هل فتنت بك فانشغلت عن العالم بك، هل كان عشقى لك هو تجلى للثناء والحمد للرب الذى منحنى نعمة وجودك بحياتى، وإن كنت أنت معادلاً تكل النعمة والرحمة والتجلى فلما تكون أنت سبب هذا العناء والتيه والألم، هل تكون بكلمات سلطان العاشقين «هل يتداوى الداء بالداء؟». حقيقة لم أعد أعرف سوى أننى لا أستطيع التنفس يوم إن غبت عنى غاضباً، ولم أستطع الحراك وقت أن أصابك ألم اغترابك فى الوطن، كان ألمى من نوع قاس، طلبت من أختى الصغرى فتح كل نوافذ الغرفة رغم أننا كنا فى يناير البارد لكن ثمة خنقة كادت تعتصر روحى وتخنقنى، كونى أفتقد حضورك وطلتك ونظرتك ومسك. لكنى الآن أيها الحبيب بت واهنة متأملة وذابلة. كومة من قصاصات قديمة هى سلواى فى هذا الألم، ذكريات لأول كتاب اشتريناه سويا، وأول وردة وضعتها لى داخل صفحات كتاب أهدته أنت لى، هل ما زلت تذكر هذا الكتاب، أنا أذكره، كان كتاب «طوق الحمامة فى الألفة والإيلاف» لابن حزم الأندلسى الفقيه المعذب بكسر الذال والمعذب بفتحها، كنت أتأمل فصول الكتاب وما إن أصل لفصل علامات من استبد به الهوى، أو علامات المحبين، فاستصرخ ابن حزم لعلنى ألتقيه فأخبره انه كان يجب ليضيف علامة أخرى، وكنت كلما وصلت إلى باب الصبابة، كنت أبكى من لوعة الألم واستبداده بالمحبين، لدرجة تجرح الروح واستنزاف الحشا ونزيفه. الحبيب/ هاشم. ما زادنى حبك سوى مزيد من الألم كونى اقتصرت دائرتى عليك فما عسانى أن أفعل الآن وأنا أشاهد نوبة اغتراب تعتريك، فاستشعرك وكأنك تود أن تبنى دائرة منعزلة من اللا وجود لتستقر أنت فيها، مبتعداً عنى، متناسياً أن دستورنا فى اللقاء والحب مسطور بدستور الفناء، فلا أنا أنا ولا أنت أنت، فكيف لك أن ترتحل روحا داخل دائرتك لتنقض دستورنا القديم، وما عسانى أن أفعل أمام تكرار غيابك الروحى واقفا أمامى بجسدك، منقبة فى رائحتك كيعقوب يتحسس ريح يوسف، يعقوب الذى ابيضت عيناه من الحزن، بينما أنا قد جفت ينابيع عينى من التيه لا الحزن فقط، فصرت أنزف بلا وجود لأثر الدم أو النزيف. أخبرنى ما عساى أن أفعل. هل أعاود طرق باب السماء داعية ربى هذه المرة أن يخفف من وطأة هذا الحب داخل ذلك القلب الذى تألم كثيراً وأعنى كثيراً وأفتقد حضورك كثيراً؟. . أتعرف أيها الحبيب المعذب إننى أخشى عليك من أن يمسك الألم أو يمر بجوارك؟ فما عساى أن أفعل وأنت سبب هذا الألم؟ هل يكون طرق للسماء قوتها أن تستشعرها به نوع من خسة المحب الذى يرجو لحبيبه ألما استشعر مرارته؟ لا أعلم. لكننى فى كل مرة أتراجع، أتراجع مخافة أن تكون أبواب السماء منفتحة فتستجيب دعوتى مثلما استجيبت من قبل وكنت قرة عينى. كبار القوم يقولون إن لكل شيء زكاة، وزكاة القلب هى الحزن، لكنى أيها الحبيب الوطن، مستشعرة أن خزينتى قد نفد مخزونها، فلم يعد هنا قدرة على إنتاج الحزن لأداء فريضة زكاة هذا القلب. إننى أتوق لبعض التفاصيل القديمة فى اللقاء، أتوق لعناق يدك ليدى قابضة على أصابعى فكأنما كنت طفلتك وابنتك وأمك التى تخشى أن تغيب عنك أو تتوه منها، ما زلت أنتظرك طائفة برواقك، متعبدة فى محرابك، حيث هنالك دعوت ربى، مثلما هنالك دعا زكريا ربه، ما زلت مستقبلة قبلتك، ساجدة لله شاكرة. ما زلت أتوق لأن أصنع لك القهوة، أتوق لأن أضحك بصوت طفولى فى حضرة وجودك، لا تحزنك كلماتى، أنت تعلم جيدا أنك الصاحب فى الألم، والصاحب فى الوجع، والمشتكى منه والمشتكى إليه، لقد جفت عينى الآن، وأصبحت تحاصرنى ذكرياتك معى وتفاصيلنا الصغرى، وضحكت الآن. . . ضحكت حين تذكرت، المطر، وتذكرتك تجرى بى تحتضننى، كل ما أرجوه أن تكون بخير ليس إلا، أن تكون بخير فقط. ولا يحزنك قولى، فسبق وقلت لك أنك المشتكى منه والمشتكى إليه. . . . حبيبتك «مريم» دسوق 15 أغسطس 1981