ازدهرت بعد الثورة بورصة الفتاوي الدينية لدي بعض المنتمين إلي التيارات الإسلامية التي حصلت علي الحرية المطلقة بعد الحرمان، أطلقوا هذه الفتاوي فأثاروا الجدل في المجتمع. وانتقل التشدد من «الرأي» إلي «التطبيق»، فوجدنا من يتأثر بما يقوله شيوخ لا يلقون بالا لما يبثونه من أفكار تهدم المجتمع ولا ترتقي به، وتحمس بعض الشباب ممن لم يكتمل وعيهم، نقلوا فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنهم عاثوا في الأرض فسادا، لأنهم اتخذوا من أنفسهم حكاما وقضاة علي ما في قلوب الناس وعلي أفعالهم، وتحولوا إلي قنابل موقوتة، اتبعوا «الأقوال» فأزهقوا «النفس» التي حرم الله، حرموا خطيبة طالب الهندسة في السويس من حلم الزواج من حبيبها الذي ستظل صورة قتله أمام عينيها ماثلة في ذاكرتها طوال حياتها، وقضوا علي أمل لازم الأب والأم في تخرج ابنهما في واحدة من كليات القمة، ولكن الحلم والأمل ضاعا، لأن العقول قصرت عن التفكير في العاقبة. الإسلام ليس دينا جامدا، بل إنه كائن حي، ووضع هذا الدين في صندوق وأخذ ما نريد منه يضر بنا ولا ينفع. يحتاج الإسلام إلي تفكير وتدبر للوصول إلي عمق الأشياء، والانتقال من السطح إلي الباطن الذي يحوي كنوزا قد لا ننتبه إليها إن لم نبذل المجهود في إدراكها وتلمس الغايات العظمي التي يمنعنا من الوصول إليها إيقاف عقولنا عن استغلال أهم خصيصة يمتاز بها الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، وهي التفكير الذي يعد النعمة التي حقق بها السيادة في الأرض. وكم من آيات وأحاديث نسمعها مرارا في المساجد والإذاعة والتليفزيون، ونقرؤها في الكتب والصحف، لكننا لا نعيرها انتباها، وقد نكتفي بمصمصة الشفاه دون فهم حقيقي أو غوص في المعاني التي يكشف عنها التفكير بعقل سليم، رغم أن القرآن يدعونا دائما إلي إعمال العقل واستخدامه باستمرار، إذ يدعونا خالقنا عز وجل إلي التفكر والتدبر في المعاني، ولم يطلب منا أن نحفظ الآيات ونغلق الأفهام، وإنما دعانا إلي أن ننتقل من النظر والسمع للآيات المقروءة والمسموعة إلي البحث فيما وراء الكلمات الظاهرة والعمل بما تحمل من مضامين، كل حسب اجتهاده وما حصل عليه من علم، وقليل من الناس من يفعل ذلك. لن نصل إلي فهم حقيقي للإسلام إلا بالقراءة الواعية التي لا تقتصر علي كتب بعينها يقررها شيوخ علي تلاميذهم ويحرمون عليهم كتبا أخري بدعوي أنها تضر بالأذهان.. هذه دعوة للانغلاق والإقصاء، إضافة إلي أنها دعوة للكراهية وعدم التسامح، لأنها تري أن الصحيح فقط هو ما يعتقده هؤلاء، أما غيره فإنه خطأ، وقد يصل إلي الكفر.. وهذا يخالف طبيعة الإسلام الذي دعا إلي الانفتاح علي الكون كله منذ بداية الدعوة.. لقد بدأ ربنا عز وجل وحيه إلي خاتم النبيين محمد صلي الله عليه وسلم بتوجيه الأمر (اقرأ) بادئا بالتفكر والقراءة في كتاب الكون المفتوح (اقرأ باسم ربك الذي خلق) قبل أن ينتقل إلي الكتاب المسطور (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم). افتحوا العقول تعيشوا في سلام، وينتشر بينكم التسامح والوئام.