ثار لغط شديد مع حلول ذكرى ثورة 23 يوليو التي قام بها ضباط من الجيش المصري في عام 1952، حول ضرورة استمرار الاحتفال بهذه الذكرى أو التوقف عن ذلك، خاصة بعد ثورة 25 يناير التي قامت أصلا ضد النظام الذي أتت به ثورة يوليو. كما هو معروف، فقد جاءت ثورة يوليو من أجل مواجهة الاستعمار البريطاني لمصر، وكذلك لمواجهة الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي كان يجتاح المجتمع المصري آنذاك، رغم وجود حياة ديمقراطية مقيدة. وتبنت الثورة ستة مبادئ أساسية تتمثل في: القضاء على الاستعمار والإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، وبناء حياة ديمقراطية سليمة وإقامة عدالة اجتماعية وبناء جيش وطني قوي. واستطاعت أن تحقق الكثير من الإنجازات في بعض من هذه المجالات. فقد نجحت في توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، لكن بثمن باهظ تمثل في السماح بضياع ثلثي مساحة مصر من خلال الموافقة على انفصال السودان. وفي المجال السياسي، استطاعت أن تسقط النظام القائم وتقضي على الإقطاع وسيطرة رأس المال. أما في المجال الاقتصادي والاجتماعي فقد قامت بعملية إعادة توزيع للثروة من خلال توزيع الأراضي الزراعية بين الأغنياء والفقراء. كما قامت بتنفيذ العديد من المشروعات القومية التي كان لها الأثر الكبير في تغيير شكل الحياة في مصر، مثل مشروع السد العالي الذي كان له الفضل في تحديث مصر من خلال استخدامه في توليد الكهرباء النظيفة والرخيصة التي تم استخدامها في تشغيل المصانع التي تم إنشاؤها وأيضا في إنارة المدن والقرى. لكن في مقابل هذه النجاحات التي حققتها فشلت في تحقيق الهدف الأهم الذي لو تحقق لتحولت مصر إلى دولة من دول العالم الأول، وهو المتعلق بإقامة حياة ديمقراطية سليمة. إذ إن قادة ثورة يوليو عملوا ضد هذا الهدف منذ اللحظة الأولى التي تسلموا فيها الحكم. فقد قام جمال عبد الناصر بإقالة الرئيس الأول لمصر بعد الثورة، محمد نجيب، لأنه كان يطالب بتحقيق هذا الهدف. كما قام بحل جميع الأحزاب وإلغاء الدستور والبرلمان. وحرص طوال فترة حكمه على القضاء على أي بادرة نحو وجود معارضة حقيقية لحكمه. فانتشرت المعتقلات وقام بإعدام كل من حاول انتقاده حتى لو كان من منطلق الحرص على النظام الذي يمثله. وبعد تولي أنور السادات السلطة، لم يتغير الأمر كثيرا، رغم قيامه بإطلاق سجناء التيار الإسلامي خاصة من جماعة الإخوان المسلمين، حيث كان الهدف هو مواجهة الشيوعيين والاشتراكيين والناصريين الذين كانوا يسيطرون على الحياة السياسية.. فقد استمرت مواجهة النظام لكل من يعارضه. وبرغم الإعلان عن قيام الأحزاب في أواخر حكمه، إلا أن ذلك لم يكن سوى محاولة لتجميل شكل النظام أمام الولاياتالمتحدة التي تحول النظام ناحيتها للتحالف معها بعد أن كان متحالفا مع الاتحاد السوفييتي إبان حكم عبدالناصر. ومع تولي مبارك الحكم، زاد الاستبداد والفساد حتى أصبح هو المسيطر على كافة المجالات، فكانت النتيجة وصول الدولة والمجتمع المصري إلى درجة من الانحطاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي، لم تصل إليها من قبل. حينها انفجرت ثورة 25 يناير التي قام بها الشعب للقضاء على ذلك الانحطاط الذي وصل إليه نظام ثورة يوليو، ولتصحيح طريقها الذي قامت من أجله وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة باعتبارها الأساس لأي نهضة اجتماعية واقتصادية وسياسية. فبدونها لن تكون هناك نهضة في أي من هذه المجالات. وما حدث مع ثورة يوليو خير دليل. حينما حاولت أن تقيم هذه النهضة في ظل استبداد سياسي، فكانت النتيجة انهيار كامل في كل شيء. يقول الرئيس الراحل محمد نجيب في مذكراته بعد أن تم العفو عنه: "رأيت بعد خروجي من الحبس، أنات ضحايا الثورة الذين خرجوا من السجون والمعتقلات.. ضحايا القهر والتلفيق والتعذيب. وحتى الذين لم يدخلوا السجون ولم يجربوا المعتقلات، ولم يذوقوا التعذيب والهوان كانوا يشعرون بالخوف، ويتحسبون الخطى والكلمات. وعرفت ساعتها كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة. وعرفت ساعتها أي مستنقع ألقينا فيه الشعب المصري. لقد فقد حريته.. وكرامته.. وأرضه.. وتضاعفت متاعبه.. المجاري طفحت.. المياه شحت.. الأزمات اشتعلت.. الأخلاق انعدمت.. والإنسان ضاع". لكن يبقى السؤال: هل يستمر الشعب المصري في الاحتفال بثورة يوليو أم يتوقف؟ رغم كل الخطايا التي ارتكبها قادة ثورة يوليو في حق الشعب المصري، خاصة في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنها تبقى جزءا من التاريخ المصري الذي لا يمكن محوه، والذي يمثل صورا للنجاح كما أنه يمثل صورا للإخفاق، شأنه شأن كل أحداث التاريخ الكبرى. وأعتقد أنه يجب الاستمرار في الاحتفال بها كثورة فشلت في تحقيق النهضة الحقيقية عبر بناء ديمقراطية سليمة، ليكون ذلك عبرة وتذكيرا لقادة النظام الجديد الذي أتت به ثورة يناير حتى لا يقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه قادة ثورة يوليو نقلا عن صحيفة الشرق القطرية