شَيْخُ الإِسْلاَمِ الإِمَامُ الحَافِظُ العَالِمُ أَبُو الحَارِثِ اللَّيْثُ بنُ سَعْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الفَهْمِيُّ القَلْقَشَنْدَي، فقيه ومحدث وإمام أهل مصر في زمانه، وصاحب أحد المذاهب الإسلامية المندثرة. وُلد في قرية قلقشند من أسفل أعمال مصر، وأسرته أصلها فارسي من أصبهان. كان أحد أشهر الفقهاء في زمانه، فاق في علمه وفقهه إمام المدينةالمنورة مالك بن أنس، غير أن تلامذته لم يقوموا بتدوين علمه وفقهه ونشره في الآفاق، مثلما فعل تلامذة الإمام مالك، وكان الإمام الشافعي يقول: «اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ». بلغ مبلغًا عاليًا من العلم والفقه الشرعي بِحيثُ إِنَّ مُتولِّي مصر، وقاضيها، وناظرها كانوا يرجعون إِلى رأيه، ومشُورته. عرف بأنه كان كثير الاتصال بمجالس العلم، بحيث قال ابن بكير: «سَمِعْتُ اللَّيْثَ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَمائَةٍ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِيْنَ سَنَةً». ومما كان يتميز به الإمام الليث أنه كان ذا ثروة كثيرة ولعل مصدرها الأراضي التي كان يملكها، لكنه كان رغم ذلك زاهدًا وفق ما نقله معاصروه، فكان يُطعمُ النَّاس في الشتاء الهرائس بعسل النَّحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز في السُكَّر. أما هو فكان يأكل الخبز والزيت. وقيل في سيرته: إنه لم تجب عليه زكاة قط لأنه كان كريماً يعطي الفقراء في أيام السنة. لم تُفصّل كتب السير والتراجم الكثير حول سيرة الليث بن سعد وحياته أكثر من أن أبا الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن بن عقبة قد ولد في قلقشندة في دلتا مصر في شعبان لأسرة من الفرس من أصبهان من موالى خالد بن ثابت بن ظاعن الفهمي، لذا يُنسب الليث إلى بنو فهم بالولاءً. وقد تلقّى الليث العلم على أيدى تابعي مصر، ثم رحل عن مصر وهو في العشرين إلى مكة للحج سنة 113 ه، فسمع من علماء الحجاز. ثم عاد إلى مصر وقد علا ذكره، وجلس للفتيا حتى استقل بالفتوى في زمانه، وعظّمه أهل مصر حتى إن ولاة مصر وقضاتها كانوا يرجعون إلى رأيه ومشورته، بل وتولّى قضاء مصر في ولاية حوثرة بن سهل في خلافة مروان بن محمد، كما عرض أبو جعفر المنصور عليه ولاية مصر، فاعتذر. وكان للّيث مجلس يعقده كل يوم، ويقسمه إلى أربعة أقسام الأول للوالي يستشيره في حوائجه، فكان الليث إن أنكر من القاضي أو الوالي أمرًا كتب إلى الخليفة فيأتي أمر العزل، والثاني لأهل الحديث، والثالث عام للمسائل الفقهية يُفتي السائلين، والرابع للناس ممن يسألونه المال فلا يرد أحدًا مهما كبرت حاجته أو صغرت. لم يهتم الليث بن سعد بتصنيف المصنفات، فلم يصل لأيدينا سوى شذرات مما نُقل من علمه أمثال كتابي «عشرة أحاديث من الجزء المنتقى الأول والثاني من حديث الليث» الذي كان مضمونًا في كتاب «الفوائد» لابن منده. علت منزلة الليث بن سعد في زمنه حتى استقل بالفتوى في زمانه، كما أثنى عليه الكثير من علماء أهل السنة والجماعة، فتناقلت كتب التراجم والسير أقوالهم في حق الليث بن سعد، فهذا يحيى بن بكير يقول: «ما رأيت أحدا أكمل من الليث»، وقال أيضًا: «كان الليث فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة»، وقال أحمد بن حنبل: «الليث ثقة ثبت»، وقال العجلي والنسائي: «الليث ثقة»، وقال ابن خراش: «صدوق صحيح الحديث». وقال الشافعي: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به». كما كان لليث بن سعد علاقات طيبة بعلماء عصره، فكان يتبادل معهم المراسلات ويصلهم بالمال وخاصة مالك بن أنس. تحصّل الليث بن سعد على قدر كبير من العلم من خلال سماعه من تابعي عصره في مصر والحجاز والعراق، حتى قال ابن حجر العسقلاني في «الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية»: «إن علم التابعين في مصر تناهى إلى الليث بن سعد»، كما ألمّ بفقه أبي حنيفة ومالك بل وكان على اتصال بمالك من خلال المراسلات. كان الليث بن سعد في منهجه في الفتيا من أهل الأثر من كتاب وسُنّة وإجماع لا من أهل الرأي، وخالف الليث فقه معاصره مالك بن أنس كثيرًا خاصة فيما يتصل بآراء مالك الفقهية التي بناها على عمل أهل المدينة أحد أصول فقه مالك. وقد فضّل الليث بن سعد الاعتماد في مذهبه الفقهي على ما صحّ عنده من الأحاديث، وإجماع الصحابة. وعلى الرغم من أن مالك بن أنس كان إمامًا لأهل الأثر، إلا أن الشافعي كان يرى بأن: «الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس»، وكذلك كان رأي معاصريهما من الفقهاء الذين ألمّوا بفقه مالك والليث. حظي بمنزلة عظيمة عند الخلفاء الذين عاصروه وعرفوا قدره، فقد روى يحيى بن بكير أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور عرض على الليث أن يُولّيه مصر، فاعتذر الليث بأنه على ذلك الأمر ضعيف كونه من الموالي. كان ولاة مصر وقضاتها لا يقطعون أمرًا دون مشورة الليث، وكان الليث قد خصص لهم جزءا من وقت مجلسه لهذا الأمر، فكان الليث إن أنكر من القاضي أو الوالي أمرًا كتب إلى الخليفة فيأتي أمر العزل. وقد حفظ الولاة لليث قدره منذ كان الليث شابًا، فهذا الوليد بن رفاعة والي الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك على مصر حين حضرته الوفاة سنة 117 ه، يسند وصيته لابن عمه عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي، وإلى الليث بن سعد، والليث يومئذ ابن أربع وعشرين سنة.