سعد زغلول أقدر رجال النخبة السياسية فهمًا للجماهير وتعبيرًا عن آمالها القمص سرجيوس اعتلى منبر الأزهر خطيبًا للوطنية فى لحظة مضيئة ونادرة الثورة عززت فكرة المواطنة واكتشفت الذات المصرية «نموت وتحيا مصر».. صرخة واصف غالى التى رددتها كافة طبقات الأمة لابد فى البداية من الاعتراف أن هذه قراءة منقوصة لهذا العدد الفريد والنادر عن مئوية ثورة 1919 م، والذى يحمل رقم ستة وثلاثين من مجلة ذاكرة مصر التى تصدر ربع سنوية عن مكتبة الإسكندرية، حيث استطاعت هذه المجلة وبحق ومن خلال فريق من الباحثين والدارسين برئاسة الدكتور خالد عزب أن تتحول من مجلة دورية تهتم بتاريخ مصر وما طرأ عليها من تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية لوثيقة لا غنى عن عشاق المحروسة من قراءتها فهى ضوء ساطع يكشف مناطق مجهولة وثرية فى تاريخ الوطن مصر. أما العدد المحتفى به هنا فهو روشتة وطنية لمن يريد أن يتعرف على كفاح الآباء والأجداد فى نيل مصر استقلالها. فيكشف العدد فى 180 صفحة من القطع الكبير والذى صدر مؤخرًا، أثناء اللقاء السنوى للمثقفين والمفكرين، بتصميم فنى رائع للأعمال الجرافيكية من محمد شعراوى، وخطوط خالد مصطفى عن وثائق مصرية وبريطانية تنشر لأول مرة، مثل مناقشات مجلس العموم البريطانى حول الثورة فى مصر، ووثيقة تفويض محمد محمود لتمثيل مصر فى الولاياتالمتحدة. «نهضة مصر وقضية التمثال»، و«الوفد والدعاية للقضية المصرية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية»، و«مراسلات السيدة صفية زغلول من المنفى»، و«سيكولوجية التفاوض وإدارة الأزمات» فى فكر «سعد زغلول»، و«الخيال المعرفى» و«بناء صورة جديدة لثورة 1919م»، و«ثورة مصر فى مجلس اللوردات البريطانى»، و«ثورات مصر الشعبية فى العهد المملوكى»، و«الأغنية وثورة 1919م»، و«بدائل المصريين لمواجهة الظلم والخطر»، و«قراءة خاصة عن الثورة العرابية»، ويكشف العدد عن تفاصيل مثيرة عن «كيف يرى الإنجليز الزعيم الوطنى سعد زغلول». كاريزما سعد الاهتمام بثورة 1919 م وزعيمها الخالد سعد زغلول لم يتوقف طوال المئة عام الماضية بل مع كل إضافة سنة جديدة من عمر هذه الثورة الفريدة فى حياة المصريين يزداد الهوى بها وتتعلق قلوب الباحثين والدارسين لتاريخ مصر المعاصر بأحداثها والاقتراب من تفاصيلها بالكشف والتنقيب، ففى عام 1989 م ومن خلال احتفاء الجمعية المصرية للدراسات التاريخية بمرور سبعين عامًا على ثورة 1919 م يقترب المؤرخ الراحل الكبير رؤوف عباس من شخصية سعد زغلول الكاريزمية والتى يرجعها إلى فهم الجماهير وتعلقهم به فى صورة الزعيم المتشدد الحريص على حقوق الأمة، والتى عمقها سعد زغلول بقدراته الخاصة الخطابية وخاصة قدرته على التأثير فى سامعيه بفضل تمرسه الطويل بالعمل السياسى وفهمه العميق لنفسية الجماهير بحكم اتصاله بمختلف طبقات الشعب من الريف إلى الحضر، من أروقة الأزهر إلى مقاهى القاهرة، إلى صالونات الطبقة الأرستقراطية، فكان أقدر رجال النخبة السياسية فهمًا للجماهير وتعبيرًا عن آمالها. اندلاع الثورة أما أستاذ التاريخ الدكتور أحمد زكريا الشلق فيمسك بتلابيب اللحظة التاريخية الفارقة فى ثورة 1919 م وتلاحم طبقات الشعب المصرى فى مد ثورى أشبه بالطوفان الوطنى الذى لم يعد أحد يستطيع أن يوقفه قائلًا عن عشية ليلة 13 نوفمبر 1918م: جرت المقابلة المشهورة بين سعد زغلول وعلى شعراوى وعبدالعزيز فهمى من جهة والمندوب السامى البريطانى السير ريجنالد وينجت من جهة ثانية وطلب الزعماء بصفتهم نوابًا عن الأمة التصريح لهم بالسفر لعرض قضية البلاد على مؤتمر السلام فى فرساى. وأبدوا خلال المقابلة استعداد مصر للارتباط مع بريطانيا بمعاهدة صداقة إذا ما اعترفت بريطانيا باستقلال مصر، على أن تحافظ على مصالح إنجلترا وتمكنها من احتلال قناة السويس إذا دعت الضرورة ذلك. غير أن المندوب البريطانى رفض طلبهم على اعتبار أنهم ليست لهم صفة، وأضاف أن مصر غير جديرة بالاستقلال. وكان ذلك وراء سعى سعد وزملائه لطلب «توكيل» من الأمة لوفدهم ليتمكنوا بموجبه من طلب استقلال مصر بالطرق السلمية. وسرعان ما انتشرت نسخ التوكيل فى أنحاء البلاد التى تدافع مواطنوها على توقيعها فى حماسة منقطعة النظير، وبتأييد وتشجيع من رشدى باشا وأجهزة الإدارة، حتى يكتسب الوفد الصفة التى يتحدث بها أمام الجانب البريطانى. وأبدت البلاد من أقصاها إلى أقصاها تجاوبًا عظيمًا مع حركة الوفد والمطالبة بالاستقلال، وعرفت هذه الحركة بحركة التوكيلات. ويتابع الدكتور أحمد زكريا الشلق الأحداث المتلاحقة فيما بعد والتى أدت إلى هذا المد الثورى مفسرًا الأمر على هذا النحو: لتتوالى اجتماعات زعماء البلاد وخطبهم الحماسية، وأعلن سعد فى فبراير 1919 م بطلان الحماية البريطانية على مصر فى خطاب عام، فاضطرت السلطات البريطانية إلى أن تلفت نظر سعد ورفاقه إلى خطورة مسلكهم، وقد أنذرهم القائد العام البريطانى بنفسه فى 7 مارس 1919م، وفى اليوم التالى 8 مارس ألقت السلطات البريطانية القبض على سعد زغلول ومحمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقى، ونفتهم إلى جزيرة مالطا، فأثار ذلك الرأى العام، وبدأت أحداث الثورة تندلع فى أنحاء البلاد. وقد بدأت أحداثها بإضرابات الطلاب 9 مارس، ثم أضرب الموظفون والمحامون عن أعمالهم. وشملت الثورة الفلاحين والعمال والتجار، بل والوزراء والأعيان، كما اشترك فيها النساء، اللاتى اشتركن فى المظاهرات وتقدمن الاحتجاجات. واصف غالى وبنظرة مختلفة يعيد الدكتور خالد عزب ترتيب أحداث ثورة 1919م، قائلًا: قدمت ثورة 1919 م مصر للمصريين، فاكتشفوا مصر المقاومة، واكتشفوا الذات المصرية، وبدأوا مرحلة جديدة فى تاريخهم قوامها أين هم من محيطهم العربى؟ وأين هم من العالم؟ وتساءلوا.. لماذا تأخرت بلدهم؟ وما أسباب التقدم التى يجب أن يأخذوا بها؟ كانت السنوات من عام 1919 م إلى عام 1924 م سنوات حراك حملت متغيرات كبيرة فى رؤية المصريين لكل شىء وصعد معها جيل جديد على أكتاف جيل سابق حمل لواء الوطنية والذود عن الوطن، من هنا كانت هذه الثورة ثورة غير تقليدية تمحورت حول تشريح الواقع للوصول إلى مشكلاته والقفز عليها للمستقبل، فبزغت نزعة حداثية وطنية من حماس شعبى عارم وزخم سياسى وفكرى قدما ما يمكن أن نسميه مشروع شعب للوطن. كما يقدم الدكتور خالد عزب أحد رجال تلك الثورة المرموقين وصاحب عبارتها الخالدة «نموت وتحيا مصر» وهو واصف أفندى غالى والذى ظهر بكامل صفات النضج بعد حادثة والده بطرس باشا غالى عام 1910 م، حيث عمد إلى تجاوز تلك المحنة بروح وطنية عالية، حيث وقف فى وجه محاولات مشعلى الفتنة. ورفض واصف أفندى غالى بشدة فكرة انعقاد المؤتمر القبطى عام 1911 م، وأعلن معارضته الشديدة والصريحة لفكرة المؤتمر، وكتب يقول : « أننا لن نتحرر ولن نجبر العالم على احترامنا واحترام إرادتنا إلا إذا اتحدنا وأصبحنا أمة واحدة، حينئذ ستخطب ودنا الدول الكبرى». وبعد ذلك انضم واصف أفندى غالى إلى الوفد المصرى عقب وصوله إلى باريس، وشارك فى جميع تحركاته، خطيبًا ومناضلًا ففى خطابه الأول الذى ألقاه أمام رابطة حقوق الإنسان بباريس وقف واصف بك غالى كاشفًا الحالة السياسية فى مصر، فاضحًا سياسة الاحتلال. واستمر واصف افندى غالى فى تأييد الزعيم سعد زغلول وسياسته فى قيادة الوفد المصرى، وحينما اعتقلته السلطات العسكرية فى 1922م تذكر الصحف ان واصف أفندى غالى أثناء المحاكمة وقف متحديًا غطرسة الإنجليز بقوله: «لكم أن تحكموا علينا ولكن ليس لكم أن تحاكمونا»، وما إن نطقوا بالحكم عليه وعلى رفقائه بالإعدام، هتف فى وجههم: «نموت وتحيا مصر»، وردد الأبطال المحكوم عليهم هذا الهتاف ثم رددته القاعة ثم رددته مصر كلها. على أن السلطة العسكرية ما لبثت أن أفرجت عن واصف أفندى غالى وعن أعضاء الوفد المعتقلين. القمص سرجيوس يريدنا أستاذ التاريخ الدكتور محمد عفيفى أن نتذكر اللحظات الحميمة فى ثورة 1919 م والتى لم يسلط عليها الضوء الكافى لانشغال الجميع بالتطورات السياسية للثورة والمفاوضات المضنية للوفد المصرى بزعامة سعد زغلول مع السلطة البريطانية لحصول مصر على الاستقلال، فيحدثنا بشغف ومحبة عن أحد رجالات ثورة 1919 م ملتمسًا للقارئ العذر إذا لم يعرف سريعًا من هو سرجيوس؟ قائلًا: بالنسبة إلىّ، فقد تعرفت إلى شخصية سرجيوس لأول مرة من خلال فيلم «بين القصرين»، حيث يعرض المخرج فى نهاية الفيلم بعض المشاهد عن ثورة 1919 م ومن هذه المشاهد يسترعى الانتباه هذا القس الذى يعتلى منبر المسجد خطيبًا للوطنية، ورمزًا للوحدة الوطنية فى لحظة نادرة ومضيئة فى سجل أيامنا المصرية. وعلى ذلك فليس لدينا معلومات مهمة عن نشأة سرجيوس (واسمه الأصلى ملطى سرجيوس عبدالملاك) سوى أنه ولد فى جرجا فى صعيد مصر فى عام 1883 م. وأما عن الأصول الاجتماعية له، فهو ينتمى إلى أسرة توارثت سلك الكهنوت، فكان أبوة قسيسًا وكذلك جده. ومن هنا كان طبيعيًا كما يروى سرجيوس نفسه أن يكون كاهنًا، وأن يتمرس فى الخطابة والوعظ. ولا تتوافر لدينا أى معلومات عن سرجيوس من عام 1883 م إلى عام 1899 م عندما يحدث التحول الكبير فى حياته برحيله إلى القاهرة للالتحاق بالمدرسة الإكليرية. ويتابع الدكتور محمد عفيفى قائلًا: هكذا تبدو نشأة سرجيوس عادية لا تختلف عن كثير من أقرانه آنذاك، غير أننا لابد أن نرى جيدًا هذه النشأة فى إطار ظروف العصر. فأولًا وكما نرى فقد ولد سرجيوس عقب الاحتلال البريطانى لمصر فى عام 1882 م. من هنا فقد شارك فى معاناة هذا الجيل الذى عاش تحت وطأة الاحتلال، ثم شاهد بدايات الحركة الوطنية ضد الاحتلال، وقمعها قبل الحرب العالمية الأولى. كما أحس هذا الجيل جيدًا بمعاناة مصر فى أثناء هذه الحرب، ومن ثم لم يكن غريبًا أن يقود هذا الجيل ثورة 1919 م حين كان سعد زغلول منفيًا خارج البلاد. ففى عام 1919 م كان سرجيوس قد بلغ من العمر ستة وثلاثين عامًا، إنها ذروة الشباب والتوهج الوطنى، وهى تقريبًا المرحلة العمرية نفسها للجيل الثانى من «الوفد» الذى قاد التحرك الشعبى والعمل السرى للثورة. وتميز سرجيوس فى خطاباته بأسلوب سلس ولاذع ومثير للجماهير فى الوقت نفسه وربما ساعده على ذلك قربه الدائم من الناس عن طريق الوعظ والإرشاد، خاصة للفئات المتوسطة والفقيرة. وهناك عديد من الأمثلة على الخطابات المثيرة التى كان يلقيها سرجيوس على الجماهير، فمن على منبر الأزهر وجه سرجيوس خطابًا ساخرًا إلى الجماهير، محرضًا على الثورة قائلًا: كنت أسير يومًا فى شارع كلوت بك، فوجدت أطفالًا يلعبون أمام منزلهم، فتحدثت معهم حديثاُ، قالوا بعده: إن أمنا فى المنزل، وهناك بعض الجنود يعتدون عليها، فعجبت لأمرهم وسألتهم: كيف ذلك؟ قالوا: ماذا نفعل؟ فصعدت إلى المنزل فوجدت امرأة يعتدى عليها الجنود الإنجليز. أتدرون من هم هؤلاء الأطفال؟ ومن هذه الأم؟ الجمهور: لا. فأجاب سرجيوس: هم فئة الموظفين، والأم هى مصر. عندئذ ثار الموظفون أمام سرجيوس، فقال لهم: اظهروا شعوركم حيال أمكم مصر. ويحلل الدكتور محمد عفيفى خطاب القس سرجيوس بقوله: يوضح النص السابق مدى القدرة الفائقة لسرجيوس فى استخدام الأسلوب اللاذع فى إثارة الجماهير، ومدى تواصله مع الجماهير وفهمه لتقاليدهم واستخدامه عامل الشرف والأمومة فى إعطاء شحنة عاطفية للجماهير، موجهة ضد الاحتلال. مذكرات شاهد عيان أجمل ما فى الحدوتة ما يأتى على أفواة من عايشوها حتى لو تساقطت كلماتهم عفوية وبسيطة ودون حسابات سياسية.. لذلك تكتسب مذكرات يوسف درويش عماعايشه من أحداث الثورة وتجلياتها حدوتة شجية فى كتاب مصر المحروسة فهو يقدم نفسه سريعًا لقرائه قائلًا: اسمى يوسف موسى فرج درويش الشهير بيوسف درويش، من مواليد القاهرة 1910 م بالعباسية، عندما كنت طالبًا بمدرسة الفرير بالظاهر وكان عمرى آنذاك 9 سنوات، شهدت تطورات وأحداث ثورة 1919 م من مظاهرات طلابية واضطرابات عمالية، خاصة عمال ترام القاهرة والمدرسة الإعدادية الثانوية بأول العباسية. كنت وفديًا كباقى غالبية شباب مصر، فالوفد كان كل شىء، وهو الحزب الشعبى الوحيد فى الساحة، إذ التفت حوله الجماهير العريضة من العمال والفلاحين والمثقفين والتجار وأصحاب الورش وغيرهم من مختلف فئات الشعب. أذكر أنه حين توفى سعد زغلول فى 23 أغسطس 1927 م، شاركت فى الجنازة الشعبية الكبرى التى نظمت فى القاهرة، وكان حزنى كبيرًا على وفاته، فارتديت الملابس السوداء شهرًا كاملًا ثم الكرافتة السوداء سنة كاملة. إن تعلقى بالوفد حزبًا شعبيًا مطالبًا بالاستقلال والجلاء كان قويًا لغاية، كما اتضح عدائى للسراى وللملكية. وأذكر بهذه المناسبة أنه عندما أقيلت وزارة النحاس باشا فى طريق عام 1930 قبيل سفرى إلى فرنسا بأيام، كنت أشاهد جلسة مجلس النواب مع صديقى حامد سلطان، حين أعلن إقالة الوزارة الوفدية، فخرجنا من البرلمان ونظمنا مظاهرة احتجاج سارت بجوار قصر عابدين منددة بقرار الإقالة.