في قرية "مسجد وصيف" بمركز زفتي محافظة الغربية، تبلور أول صوت مصري يعبر عن مطالب الشعب والسعي إلى استرداد حقوقه واستقلال بلاده، حين فكر سعد زغلول في تشكيل الوفد المصري سنة 1918، حيث دعا أصحابه إلى قصره بالقرية، للتحدث فيما ينبغي عمله للبحث في المسألة الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى، وضمت المجموعة بجانب سعد زغلول، عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وأحمد لطفي السيد ومكرم عبيد وفخر الدين المفتش وآخرين. في 2 مارس 1919، جاءت أول فاعلية سياسية للوفد؛ حين أرسل خطابًا للسلطان فؤاد الأول يطالبونه فيه بإعلان رفضه مطالب الإنجليز، ثم أرسلوا خطابًا آخر بعده بيومين في الرابع من مارس إلى ممثلي الدول الأجنبية يحتجون فيه على منع الإنجليز المصريين من السفر إلى مؤتمر السلام. في 6 مارس، ما جعل الجنرال واطسون قائد القواتْ البريطانية يطلب من سعد وأعضاء الوفد مقابلته، وحذرهم من القيام بأي عمل يعيق الحماية البريطانية على مصر، واتهمهم بتعطيل تشكيل الوزارة الجديدة، ما يجعلهم عرضة للأحكام العرفية، تلا ذلك أن سعد زعلول أرسل احتجاجًا إلى "لويد جورج" رئيس الوزراء البريطاني، وقال فيه " إنه يطلب الاستقلال التام لبلاده، وأنه يرى في الحماية عملًا دوليًا غير مشروع، في 8 مارس، أمرت السلطات البريطانية باعتقال مجموعة الوفد وحبسهم في "ثُكنات قصر النيل- موقع السفارة البريطانية حالياً" ثم تم نفيهم في اليوم التالي إلى "مالطة"، فتأججت مظاهرات الاحتجاج بالقاهرة والمدن الكبرى في 9 مارس. و أشعل نبأ اعتقال سعد ورفاقه غضب المصريين جميعًا، وفي صباح اليوم التالي الأحد 9 مارس تصاعدت الأحداث التي عرفت فيما بعد باسم ثورة 1919، حيث بدأ طلاب المدارس الثانوية والعليا المظاهرات الاحتجاجية، وكان طلبة مدرسة الحقوق أول المضربين، وذهبوا إلى بيت الأمة، والتقوا عبد العزيز فهمي باشا الذي قال لهم: " أنتم تلعبون بالنار، دعونا نعمل في هدوء ولا تزيدوا النار اشتعالًا."، انصرف الطلبة وهم أكثر غضبًا . في 21 مارس اجتمع المارشال اللنبي مع حسين باشا رشدي وأعضاء وزارته وباقي أعضاء الوفد الغير معتقلين، وطلب مساعدتهم في الحد من هذه التظاهرات، وأذاع السلطان فؤاد نداءً إلى الشعب مطالبًا فيه بالكف عن التظاهرات، وعقبه خبر من اللنبي بالإفراج عن المعتقلين، وسمحت إنجلترا للوفد المصري برئاسة سعد زغلول بالسفر إلي مؤتمر الصلح في باريس، ليعرضوا قضية استقلال البلاد إلا أن أعضاء مؤتمر الصلح بباريس رفضوا مطالب الوفد المصري، فعاود المصريون الثورة وازداد حماسهم، وقاطع الشعب البضائع الإنجليزية، وازدادت الثورة اشتعالًا، وحاولت إنجلترا القضاء على الثورة بالقوة، فعاودوا اعتقال سعد زغلول ورفاقه للمرة الثانية في29 ديسمبر عام 1921وتم نفيهم إلى جزيرة سيشيل بالمحيط الهندي، ولما كان ممنوعاً على المصريين طوال سنوات نفي الوفد، ذكر اسم سعد زغلول، إلا أنهم تمردوا وتحايلوا على ذلك، وكان باعة البلح ينادون على ثمارهم " زغلول يا بلح" وهو ماتم استخدامه في أغنيات وأهازيج فيما، وعلى مدى أربع سنوات، لم يستطع الاحتلال وأذنابه من الخونة ان يطفئوا جذوة الثورة التي تنوعت مظاهرها حتى تم الإفراج عن سعد ورفاقه. وجدت بريطانيا أن العنف لن يجدي, فبعثت لجنة بقيادة اللورد ملنر، وقاطعها المصريون، وتم التصدى للجنة بكافة الطرق، لإجبارها على التفاوض مع "سعد" ممثل الأمة، وتم التشاور حول الأوضاع المصرية، فجاء قرار اللجنة بضرورة منح مصر الاستقلال الذي تريده، وعاد "زعيم الأمة للوطن" في عام 1923 فاستقبله الشعب استقبال العاشق لفقيده الذي دفع من عمره أربع سنوات منفياً ومناضلاً من أجل قضية بلده، فكرمه خير التكريم بحصول حزب الوفد على 90% من مقاعد البرلمان وتولي زغلول رئاسة الوزارة. ولما كان شعار الثورة " عاش الهلال مع الصليب" وقد شارك فيها القمص سرجيوس الذي اشتهر أنه خطيب الثورة، منذ أن توجه إلى الجامع الأزهر حيث لقيه الشيوخ بالترحاب، وبدأ يلقى خطبًا ملتهبة تحض على الوحدة الوطنية تأييدًا لسعد زغلول وثورة 1919 واستقلال مصر، واستمر على ذلك مدة 59 يومًا متتالية، مؤكدا على وحدة المصريين، كما ألقى عددا آخر من الخطب الحماسية فى جامع ابن طولون والكنيسة القبطية فى الفجالة، وكان يواجه في شراسة ادعاءات الإنجليز الخاصة بحماية الأقباط، ما دفع السلطات الإنجليزية لنفيه إلى رفح بسيناء. وفى كتابه "الدين والسياسة فى مصر المعاصرة: القمص سرجيوس" يشير الدكتور محمد عفيفى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة، إلى أن القمص سرجيوس قد تميز بروح الدعابة والفكاهة وانعكس ذلك على خطابه الجماهيري، فقد فاجأ الجميع مرةً وهو يهتف قائلا: "يحيا الإنجليز" وأحدث هذا الهتاف صدمة شديدة للجماهير، وزاد سرجيوس من حيرتهم عندما أصر على أنه لن يبدأ حديثه، إلا بعد أن يهتفوا معه "يحيا الإنجليز"، ولم تجد الجماهير بُدًا من الهتاف: "يحيا الإنجليز"، وهنا بدأ القمص سرجيوس حديثه قائلا: "نعم يحيا الإنجليز، لأنهم استطاعوا بظلمهم واستبدادهم وفجاجتهم أن يجعلوا منا هذه الكتلة الموحدة المقدسة الملتهبة"، فغرق الجماهير في الضحك، ثم هتفوا بحياة سعد زغلول والوطن مصر، ويذكر حفيده ادوار حلمي جيد في حوار له نقلاً عن مجلة المنارة "وحينها صوب ضابط انجليزي مسدسه لصدر سرجيوس فطلب منه جمهور الحضور ان يبتعد فقال لهم: هل مثلى يهرب؟ ان مسدسه محشو بالملبّس!" وواصل خطبته حتى النهاية. وينقل القطب الوفدي الراحل فكري مكرم عبيد، عن فخري بك عبد النور أحد أقطاب الوفد الأوائل، وهو والد السياسي المخضرم ووزير السياحة الأسبق منير فخري عبد النور، قوله "ونتيجة إعلان الأحكام العرفية، صار سعد باشا زغلول ممنوعًا من إلقاء الخطب ومن حضور الاجتماعات العامة ومن استقبال الوفود ومن الكتابة في الجرائد ومن الاشتراك في الشئون السياسية وعليه أن يغادر القاهرة بلا توان وأن يقيم بمسكنه في الريف تحت مراقبة مدير المديرية، وسلم مندوب اللنبي إلي بيت الأمة خطابات مماثلة إلي كل من سينوت حنا بك ومصطفي النحاس بك والأستاذ مكرم عبيد وفتح الله بركات باشا وعاطف بركات بك وصادق حنين بك وجعفر بك فخري والأستاذ أمين عز العزب, فرد سعد زغلول من بيت الأمة بخطاب إلي الجنرال كلايتون قال فيه: بما أنني موكل من قبل الأمة للسعي في استقلالها، فليس لغيرها سلطة تخليتي من القيام بهذا الواجب المقدس, لهذا سأبقي في مركزي مخلصا لواجبي وللقوة أن تفعل بنا ماتشاء أفرادا أو جماعات, ونحن مستعدون للقاء ما تأتي به بجنان ثابت وضمير هاديء، أيضًا أرسل من تسلموا الإنذار من الأعضاء ردًا أشبه مايكون أنه جماعي علي الجنرال كلايتون، إذ يقول كل واحد منهم في رده: وردي عليه وهو نفس الرد الذي أرسله معالي رئيسنا سعد زغلول". وما يؤكد صلابة موقف سعد ورفاقه، هو ما رواه "لويد جورج" رئيس وزراء بريطانيا أثناء ثورة الشعب المصري في 1919 بزعامة سعد زغلول، كما سجله مصطفى أمين في كتابه " أسرار ثورة 1919"؛ أنه بعد وفاة سعد زغلول بأربع سنوات، وبالتحديد في 27 ديسمبر عام 1931 نظم عبدالفتاح يحيى باشا، وزير الخارجية المصري، مأدبة كبيرة بفندق هليوبوليس بالاس تكريمًا لضيفه وزير الخارجية البريطاني السابق "مستر لويد جورج"، وكان معه "لورين" المندوب السامي البريطاني، وعدد من الوزراء، إذ قال لويد جورج للحضور: "إنه باشتعال أحداث الثورة قرر أن ينهي الأحداث بنفس الطريقة التي أخمد بها ثورة الأيرلنديين، وذلك من خلال إجراء اتفاق مع زعماء الحركة، وتابع: "وضعنا خطة بأن نرسل أحد ضباط المخابرات الذين يجيدون العربية إلى عدن، بعد أن نعطيه تعليمات بأن يعرض على سعد زغلول أن يكون ملكًا لمصر"، ولكن كانت صدمة الإنجليز، حينما رد سعد رافضًا متحديًّا: الأفضل والأكرم لي أن أكون خادمًا لبلادي المستقلة لا ملكا فيها وهي مستعبدة محتلة.