: كتبت - رغدة خالد على وقع خرير الماء تحتضن ضفتي عروس النيل، "دسوق"، وتذوب عشقًا بين طميها، قبل أن تواصل مسيرها إلى مصب المتوسط، تفجرت بساتين الأمل داخلها فقذفت بثمارها بين وجتنين بثت فيهما أشعة الشمس حمرة خلابة، وتسرب دفء قرص الضحى إلى وجدانها فانتعشت روحها بعبق نسائم البحر الندية، التي تهل عليها شمالًا، فطببت جروحها وأينعت في ظلالها موهبتها الفريدة في الحياكة والتطريز. تتفنن "ليندا السيد فرج"، في اصطحابك بجولة إلى عالم الأحلام بين أصابعها الذهبية، حيث تزدهر طفولتها الكامنة على مهل وسط قصاصات الأقمشة، ويشدو خيالها بألحان السعادة بين صفوف الإبر والخيوط وزغب الأقمشة والفايبر، يحلق خيالها مع الفراشات فلا تتوانى عن مد الخيوط إليها لتصمم أجمل الوسائد والدمى المحشوة والألعاب. ترعرعت "ليندا" التي لم تتجاوز الثلاثين، في أسرة عاشقة للفن والجمال، بين والدين أغدقا عليها الحب والرعاية دون إفراط ولا تفريط، واسطة العقد بين أشقاء عرفت الموهبة طريقها إليهم، تركة من رهافة الحس أنبتتها أصولها السكندرية بين أوردة استوطنها الحسن، فشبت طروب ينتزعها وجد ألحان "سيد درويش" من بلادة الطفولة وتصاحبها بلاغة والدها إلى سحر مدن الكلمات. كان انتصارها الأكبر في الخروج سالمة من المعركة الضارية التي أضرمت نيرانها بين جنبات نفسها من اليأس الذي دب فيها إثر العزوف عن تعيينها بالنيابة الإدارية، ولما لا وهي باحثة الدكتوراه التي لم تتدخر جهدًا في سبيل نهل العلم من منابعه، أيام طويلة وساعات لا تحصى قضتها بين أرفف مكتبة جامعة الإسكندرية، ترتوي من روافد المعرفة وتقتنص لنفسها من أسباب النجاح ما يمكن لها من دواعي التفوق وأسباب التميز بين أقرانها. بشهادة أساتذتها ومعيديها كانت مثالًا للنجابة والحيوية، التي مكنتها من تخطي كافة العقبات والترصد لهفواتها وتدارك نواقصها في سباق محموم مع نفسها والزمن، لتتوج بأطروحتها، الماجيستير فتعقبها بالدراسة للدكتوراة، قبل أن تدرك أن الاجتهاد في وطن خامل لا يكفي دائمًا للفوز، فكان عقم فروع شجرة عائلتها عن إنجاب القضاة ووكلاء النيابة؛ شفعاءً لها للتعيين، هو ذنب باطل لم تقترفه. نهاية عبثية لا ترقي بأحلامها الشجية لا تغنى عن أمل ولا تثلج صدر، ليالي طوال ظلت فيها صريعة الذكرى والحلم المَوْءُود فانزوت روحها وتبدل حالها وتكالبت عليها الهموم حتى كادت تجرجرها لهاوية الاكتئاب لولا يد زوجها الحنية وثغر ابنتها الندي، اللذان ربطا على قلبها، وكفكفا دمعها فهضمت خيبة الأمل العسيرة ومضت في دربها مكللة بالرضا. تجرعت الألم لكنها لم تتوانَ عن إغداق من حولها بجمال قلبها الذي لا يزال يفيض حبًا، وينبض بهجة تشع بنورانها بين حنايا روحها، حيث حظت بسجية فريدة أهلتها لمجابهة كل هذا، إنها الصبر، فانتشلتها من كبوتها، لنهضت حاملة لواء العزيمة التي تصدت بها للجور، ونثرت فيها براعم الإصرار على ملاحقة حلمها الوردي الدفين الذي طوته الأيام، لكنه لم يخبُ تحت صليل سجالات المدعيين وصياح المظاليم، بل أرهف له حسها ومالت به أحاسيسها. اكتسب النجاح لدى "ليندا" نكهة جديدة وغلفته الأيام المتعاقبة ببهجة أزالت رواسب الأسى القديم، بعد معركة خلفت لديها ندوبًا عميًقا، لكنها لم تزعزع ثقتها في نفسها أو تضل بها بعيدًا عن دروب أحلامها، خبت نيران الصراع المرير وداعة موهبتها، وذابت الثلوج المتنامية بين جوانب روحها على وقع إنسيابية حلقات تصنعها ذراعيها فيما تتضفر غرز الإيتامين بين أصابعها في سلاسة، فبينما أحكمت أشلاء الأحزان قبضتها على روحها واعتصر القلق قلبها أرخت تلك الهبة سدول النسيان على شظايا الماضي، بعد أن وجدت بين الخيوط والأبر ونعومة الجوخ والموهير عزاء لها على ما منيت به سلفًا، فحمل لها الصباح في كل يوم جديد معجزة خاصة ولحظة ساحرة، وقفت عندها تتطلع لمستقبل براق، من قبس من حنان أسرتها وبراءة طفلتها، ودعم ومساندة أليفها وشريك حياتها. قصة حب فريدة جمعت بين ليندا وزوجها، لم تكن جذوة الحب هي شرارتها الوحيدة فالتفاني في العمل والشغف للنجاح أضفى مذاقًا آسرًا على حياتهما، وزكت الألفة بين طبائعهما وهواهما الفني الخالص، وأغلظت الصعاب ميثاقهما. عَمَّ الامتنان المتبادل حياة ليست بالتقليدية، توسدت "ليندا" كتف زوجها المحب للفن والرسم بعد أفول نجم "النيابة"، فلم يتوانَ هو عند دعمها والتسرية عنها بمدها بكافة ألوان أدوات التطريز والأقمشة، حى أصبحت هدايا الخيوط والأبر والطارات عادة لا يمل منها حتى تمل هي، لمسات مفاجئة يعبق أريجها بين جدران منزلهما الصغير. مع كل صباح تقطع دروبًا طويلة بحثًا عن أجود الخامات وأفضل العتاد، تؤنسها أشعة الشمس الذهبية الباردة بظلها، وترافقها خيالات أفكارها كفراشات تحوم حول رأسها، معلنة عن وصول إلهام جديد يبشر في كل مرة بتصميم فريد يتنوع بين القطع الديكورية المتقنة ووسائد الأطفال المحشوة بالحب، والمزينة بفيض حنان الأم الذي تناهي إليها قبل 3 سنوات، مع تنامي مشاعر الأمومة التي أينعت داخلها حتى قبل ولادة طفلتها. كفوف "فريدة" وحيدتها الصغيرة بثت الأمل في أوصال ليندا من جديد، فتعود إلى حضنها الصغير تنشد الأنس وتستجدي الراحة وخلو البال اللذان أضاعتهما على طريق المحاماة وبين قاعات المحاكم مطالبة بحقها الشرعي في التعيين، ترشدها بعيدًا عن تيه الخواطر والأفكار، وتشاركها بعفوية روحها الصبية في اختيار أجمل الألوان والتصميمات، متطلعة إلى "ليندا"، بطلتها الأولى بعيون تملؤها الحماسة وتتلألأ ببريق الشغف.