باتت الأزمات السياسية المتصلة والمتوالية قاسماً مشتركاً في وطننا العربي، مثلما باتت التهديدات المتواصلة والمتنقلة واقعاً مشتركاً في أمتنا الإسلامية، حتى أمسينا جميعاً كلنا في الهم شرق! وبينما تبدو الأزمات العربية بفعل المبررات الداخلية والمقررات الخارجية، مثيرة للقلق وباعثة على الاهتمام، يبدو ضرورياً اعتماد الحلول المشروعة أو البحث عن الحلول الممكنة، وبات المطلوب حلولاً وطنية لا أجنبية، وعربية لا غربية، وسياسية لا أمنية، وسلمية لا عسكرية. وفي ما يتصل بحقوق وحريات الوطن، فلا مخرج آمن من الأزمات الوطنية بين شركاء الوطن الواحد في أي بلد، عند الخلاف حول وسائل إنهاء الاحتلال أو مواجهة العدوان وتحقيق الاستقلال وتأمين سلامة الوطن، سوى باب واحد هو الحوار السياسي والعمل المشترك، وصولًا إلى الوفاق الوطني. ولا طريق ديمقراطي لتجاوز الأزمات الداخلية بين الوطنيين أو الثوريين على شرعية السلطة وتأمين المشاركة العادلة فيها، واستمرار وحدة القوى الوطنية وتحقيق أهداف الشعب، سوى مدخل واحد هو الحوار السياسي وصولاً إلى التوافق الوطني.. والبديل لكل ذلك هو الانتحار السياسي أو الوطني. ولا سبيل للوصول إلى التوافق الوطني بين القوى الوطنية المختلفة، إلا بتفاهمات ومراجعات متبادلة على أرضية الجوامع المشتركة، وهي الأكثر بكثير بين الوطنيين من الفواصل المختلف عليها بين المتحاورين، بشرط ألا يحاول طرف فرض رؤيته بمنطق فرض الرأي أو رفض الحوار، سواء بدكتاتورية الأقلية أو الأغلبية! وعندما يغلق أحد الأطراف الرئيسية أبواب الحوار، بينما تستمر الأزمات وتتصاعد المواجهات، سواء بمحاولة الاستئثار بالسلطة بالقوة بغير استحقاق، أو محاولة فرض رؤاه بالعنف والقفز على السلطة بغير مشروعية، أو بالإصرار على مطالب حزبية لا وطنية، وبمحاولة إملاء شروط تعجيزية لتأكيد أنه الغالب وغيره هو المغلوب، يصبح البديل هو الانزلاق إلى الانقسام الوطني والصدام الحزبي، فتنفرط وحدة الوطن. وفي مثل هذه الظروف، فالحكماء السياسيون وحدهم هم القادرون على شجاعة المراجعة لمواقفهم الحزبية، لحساب المصلحة الوطنية، وهم وحدهم القادرون بفقه الأولويات على المرونة السياسية والتنازل عن ما هو ثانوي لحساب ما هو أساسي، وما هو سياسي لحساب ما هو وطني. والعقلاء من الزعماء السياسيين وحدهم، هم الذين يدركون أن الوحدة أقوى من الفرقة، وأن السلام أجدى من الصدام، وأن السياسة أقوى من السيف، وأن الحوار بالأفكار أجدى من الاقتتال بالنار، حيث الكل فيه خاسر والشعب والوطن هما أكبر الخاسرين. ومع أن هذه من أوليات القواعد السياسية والشراكة الوطنية، فإن المراقب العربي لأوضاع البلاد العربية يشعر بالاستغراب حين ينظر لما حدث ويحدث من تصعيد في ملفات الأزمات العربية، ومواقع التوترات السياسية التي تنذر بالانفجار، ومن بؤر الاقتتال المسلح المأساوية، ويرى فيها أن مصلحة الفرد أصبحت فوق مصلحة الجماعة، ومصلحة الحزب أضحت فوق مصلحة الوطن، بفعل التدخل الخارجي أو قصر النظر السياسي الذي يضع من المشكلات أكثر مما يطرح من الحلول، بل ويقبل المشكلات ويرفض الحلول! وسواء في مصر وتونس وسوريا ولبنان، واليمن وفلسطين والعراق والسودان، أو في ليبيا والصومال، لا مخرج من الانقسامات والأزمات والخلافات، ولا مدخل إلى السلامة الوطنية، إلا بالشرعية الدستورية والوحدة والاستقرار، وبالحوار الديمقراطي، بعيداً عن الحلول الأمنية والمواجهات الدامية، وصولًا إلى الحلول السياسية والمصالحة الوطنية بين الأطراف. والثابت أنه حينما تستهدف الأوطان من خارج الأوطان، لا يكون هناك ضمان لوحدة وسلامة الوطن سوى الانتماء الوطني الذي يجمع ويوحد، ويعلو على الانتماء الحزبي الذي يعدد ويفرق، ولا يكون لهذا الاستهداف من أعوان سوى تنازع الأمر بين الأحزاب إلى حد المواجهة والسقوط في الصدام، مما يفتح الأبواب لأعداء الوطن في الخارج، تحت لافتات خادعة بتوظيف خلافات الداخل وتأجيجها لتقسيم أو إنهاك الوطن. وحينما يكون هناك خلاف وطني، سواء على عدالة المشاركة في السلطة الوطنية أو عدالة توزيع الثروة الوطنية، فلن يحل إلا بالحوار الوطني الشامل بين قوى الوطن وتياراته السياسية كافة، للتوصل إلى توافق وطني يمنع طرفاً واحداً أو طرفين من احتكار الحلول بما يوقعهما وحدهما في تحمل مسؤولية الفشل، ويجمع كل الأطراف على هدف وطني أعلى من أي غرض حزبي. وعندما تبدو الحزبية والطائفية لدى أصحاب المصالح أهم من الوطنية، بل حينما تصبح المصالح الحزبية لدى البعض أعلى من المبادئ الحزبية، فإن كل المساحيق والأقنعة لإخفاء الهدف الحقيقي المناقض لمتطلبات الوحدة الوطنية، سرعان ما تسقط في إطار الصراع الحزبي أمام بريق كراسي السلطة، وفى الصراع الدولي أمام إغراء نفط العرب. ولهذا يستقر في دساتير الدول الديمقراطية أن الشعب هو السيد وأن الأمة هي مصدر السلطات، ليصبح صوت عموم الشعب هو الفاعل الرئيسي فوق كل السلطات والأحزاب والأفراد، ولتكون السلطة التشريعية هي السلطة الممثلة للشعب من خلال نوابه، في التشريع للقوانين والرقابة على أداء السلطة التنفيذية، ممثلة في الحكومة التي تستمد مشروعيتها من ثقة الشعب، والتي يكون أشرف أدوارها وأولى مسؤولياتها أن تحكم له لا أن تتحكم فيه، وخدمة هذا الشعب وليس السيادة عليه. وهكذا في الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية، يمكن أن يتحصن الوطن وتتأكد سيادة الشعب، وتتحقق أمانيه في ظل سلطات متكافئة القوة منفصلة عن بعضها، متصلة في إعلاء إرادة الشعب ومتعاونة في توفير متطلبات تنمية الوطن لصالح كل مواطن. ويمكن أن تتوفر متطلبات الحياة الديمقراطية وإمكانيات الممارسة البرلمانية كما يجب أن تكون، تحت مظلة دستور عادل ومتوازن معبر عن تطلعات الشعب وسيادة القانون، بشرط أن يكون عادلًا ومساوياً بين الجميع. وهذه هي الديمقراطية التي، للإنصاف، تحدث في العالم الغربي، والتي نأمل أن تحدث في العالم العربي، بشرط أن تستند على الشرائع السماوية والثوابت الوطنية والعربية، وتحقق الأماني الشعبية العربية، لا الغربية ولا العبرية. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية