* مصطفى عبيد ليس غريباً على كل حاكم أن يتصور أنه جبل من الحكمة وبحر من العلوم، خاصة أنه لا يسمع من حاشيته وجلسائه سوى مدح دائم فيما يفعل وما يرى وما يقرر. كان ذلك أحد أسباب أخطر محنة فكرية مرت بها الدولة العباسية خلال عهد الخليفة المأمون وهى محنة خلق القرآن. ففى عهد الرجل فتحت الآفاق وترجمت عشرات الكتب العظيمة، واتسعت مدارس الفكر، وعرف الناس فكرة المناظرات الفكرية، وشاعت علوم الكلام حتى تحدث الناس فى صفات الله وفى الجبر والاختيار وفى غيرها من الأمور العقائدية. ووصل الأمر طرح سؤال غريب حول القرآن أن كان مخلوقاً أم أزلياً. وراجت مقولات المعتزلة واختلف الناس وتصور المأمون أن إعلانه لرأيه سيُنهى الشقاق ويحسم الخلاف فأقر بخلق القرآن. لكن كان علم الكلام قد انتشر أكبر مما يتصور أحد ووصل رأى الخليفة إلى الناس فتحدثوا فيه ونقدوه ووصل الأمر بالبعض أن عابه وكفّر صاحبه. وشعر المأمون بالغيظ فبعث إلى وإليه على بغداد طالباً منه أن يمتحن الفقهاء فقهياً بعد آخر، فمن قال بخلق القرآن أخلى سبيله، ومَن أبى فيتم حبسه. وأخذ الوالى الجاهل يمتحن العلماء فرفض معظمهم القول بأن القرآن مخلوق وكانوا يجيبونه: هو كلام الله. فأخذ يشد وثاقهم ويجلدهم حتى يُذعن البعض إليه ويضطرون للقول بأن القرآن مخلوق فيقوم بإخلاء سبيلهم أو يرفضون فيتم إعدامهم أو حبسهم واستتابتهم. وكان بعض علماء الدين يستخدم الآية الكريمة «إلا من أكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان..» للنجاة من عذاب الفكر المختلف مع الخليفة. ولم يثبت من العلماء سوى اثنين هما الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، وقيل إن الإمام البخارى هرب من نيسابور خوفاً من التعرض للاضطهاد. وظل ابن حنبل محبوسا مضطهدا حتى وفاة الخليفة المأمون. والمؤسف أن الخليفة المأمون ترك فى وصيته لولى عهده المعتصم بالتشدد فى أمر الرافضين لخلق القرآن، فأحضر أحمد بن حنبل وواصل تعذيبه مما دفع ابن حنبل إلى تبنى موقف مضاد هو القول بكفر مَن يقول بخلق القرآن. وظلت المحنة تتوالى وتنتقل من عصر إلى آخر حتى الخليفة الواثق، الذى جيء له بشيخ مقيد يرفض القول بخلق القرآن، فسأله عن ذلك فقال له: هل تظن أن ما تقول فى القرآن أمر علمه الرسول وأبوبكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم أم جهلوه. فأجاب الخليفة: بل علموه. فقال الشيخ: فهل دعوا الناس إليه أم سكتوا؟ فقال الخليفة: بل سكتوا. فرد الشيخ: فهل وسعك ما وسعهم من السكوت. فأعجب الواثق من منطقه وأمر بإخلاء سبيله. ثُم أمر بوقف امتحان الناس وإطلاق سراح المحبوسين فى ذلك. وهكذا انتهت محنة فكرية سالت فيها دماء كثيرة وعذّب فيها علماء أجلاء لا لشىء سوى لخلافهم مع فكر الحاكم. [email protected]