تعتبر محنة خلق القرآن أيام الخليفة العباسى عبدالله المأمون من القضايا المحيرة للكتابات التاريخية المنحازة لفريق دون آخر وخاصة تلك التى تلق باللوم على فريق المعتزلة، فإن التأمل الحيادى لهذه المحنة يظهر الأدلة الواضحة على براءة المعتزلة من التورط بتلك الفتنة. ولقد تميز عصر الخليفة المأمون بمزيد من العقلانية، حيث ترك المأمون المجال مفتوحا أمام حركة الترجمة التى نهلت من الثقافات الأخرى ونقلت الكثير من عيون الفكر والفلسفة، وشهد عصرة حركة واسعة فى النهضة العلمية والفلكية والفكرية، كما شهد صراعا عرف تاريخيا ب «محنة خلق القرآن» انحاز فيه الخليفة لأحد التيارات ضد تيار أهل الحديث والأثر وكان على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل. واستطاع الخليفة المتوكل أن ينهى ذلك الصراع ويحذر من الخوض فيه ويعيد المكانة من جديد لأهل الحديث والأثر، فيستغلون عودتهم ومكانتهم الجديدة فى التخلص من كل التيارات التى وقفت ضدهم بل والمخالفة لهم بشكل عام ولا سيما فرقة المعتزلة التى كانت على النقيض من فكرهم. وتم إلصاق التهمة بالمعتزلة وأنهم من أقنعوا المأمون بالقول بخلق القرآن وفرضه على الناس والعلماء بالقوة، والدارس لفلسفات المعتزلة يدرك أنهم أهل عقلانية وحرية، ومع الحوار، ودحض الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، وضد إكراه الناس على معتقد بالقوة، والقوة الوحيدة التى يرونها فى مثل هذه المسائل هى قوة البرهان العقلى، ولا يليق بهم أن يفتنوا أهل الحديث فى دينهم وإن خالفوهم، ويظل السؤال: لماذا فعل المأمون - صاحب العصر العقلانى، والمنفتح على كل الثقافات المختلفة والمغايرة للثقافة الإسلامية هذه المحنة الكبيرة؟ بعد وفاة هارون الرشيد، حدث صراع بين ابنيه الأمين والمأمون على الخلافة، ووقتها اصطف أهل الأثر وعلماء الحديث وراء الأمين، فأسرها لهم المأمون فى نفسه، فلما ظفر بالأمر، واستتب له الحكم، قرر امتحانهم، وكثير ممن امتحن المحدثين كان من الجهمية والضرارية وغيرهم ممن يقول بخلق القرآن، فبشر المريسى وابن أبى داود وحفص الفرد وأبو عيسى البرغوث كلها أسماء لم تكن من المعتزلة، وليست المعتزلة المدرسة الوحيدة التى تقول بأن القرآن مخلوق، وابن تيمية نفسه يقر فى «مجموع الفتاوى» إن الذين قادوا امتحان علماء الأثر ليسوا من المعتزلة بل من تيارات عقائدية أخرى. ولم تكن سياسات المأمون سياسات رجل مؤمن بأفكار المعتزلة، فلقد أمر بطرح لبس السواد وهو شعار الدولة العباسية وأمر بلس الأخضر، وكتب بولاية العهد لعلى بن موسى الرضا وهو إمام علوى، وخلاصة القول: إن فتنة خلق القرآن يبدو أن الباعث عليها الصراع السياسى على كرسى الخلافة بالإضافة لرغبة أهل الأثر فى التخلص من المدرسة العقلانية المتمثلة فى تيار المعتزلة فانتهزوا فرصة استحكام الأمر لهم فى زمن المتوكل فجاهدوا فى التخلص من خصومهم.