للإمام أحمد مواقف حكيمة تدل على حكمته وصدقه مع اللَّه، وإخلاصه، ومن مواقفه ‘: موقفه الحكيم الذي حفظ اللَّه به القرآن الكريم: كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائماً، حتى ظهرت الخوارج، وكفَّرتْ سادات الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب، وفي أواخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمشبهة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها؛ لأن الخلفاء والملوك والولاة لم يكن لهم دور في إظهار البدع والدعوة إليها، إلى ظهور المأمون، فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، ورفع الجهمية والمعتزلة والشيعة رؤوسهم، وأظهر المأمون عام 212ه القول بخلق القرآن، وحمل الأئمة على القول بذلك، ثم امتحن العلماء وعذبهم عام 218ه . وفي آخر حياته قبل موته بأشهر خرج إلى طرطوس لغزو الروم، وكتب إلى نائبه ببغداد يأمره أن يدعو الناس ويلزمهم بالقول بخلق القرآن، فألزم الناس بذلك، وبعث بجماعة من أهل الحديث إلى المأمون، فامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوه وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد، وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء ففعل نائبه ذلك، وأحضر خلقاً كثيراً من أئمة الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم، ودعاهم إلى القول بخلق القرآن عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك، فأجاب منهم جماعة ، ومازال يُهدد من امتنع منهم بالضرب وقطع الأرزاق، حتى أجابوه إلى ذلك كلهم أجمعون إلى أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، ولاشك أن أكثر المحدثين الذين أجابوا إلى ذلك تأولوا قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ . ثم قُيِّد الإمام أحمد ومحمد بن نوح بالحديد، وحملا إلى المأمون، وعندما وصلا إلى جيش الخليفة ونزلا دونه بمرحلة جاء خادم من الجيش وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه، ويقول للإمام أحمد: يعز عليَّ يا أبا عبد اللَّه أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، ويقسم لئن لم تُجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، فجثا الإمام أحمد على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: اللَّهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤونته. فجاء الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، ففرح أحمد، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد ، وأن الأمر شديد، فرد أحمد ومحمد إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ومات محمد بن نوح في الطريق، فصلى عليه أحمد ، ووصل أحمد إلى بغداد في رمضان سنة 218ه وأودع السجن نحواً من ثمانية وعشرين شهراً، وقيل أكثر من ثلاثين شهراً، وقد كان في هذه المدة يصلي بأهل السجن والقيود في رجليه، وكان المعتصم يوجه إليه من يناظره في السجن، فيفوز عليهم الإمام أحمد بحجته ودليله، فيزاد في قيوده، ثم طلب المعتصم حضوره لديه، فحُملَ على دابة وعليه الأقياد، ما معه من يمسكه إلا اللَّه، وكاد أن يسقط على وجهه لثقل القيود، ولكن اللَّه سلم، ثم دخل على المعتصم وأحمد بن أبي دؤاد حاضر عنده، وقد جمع خلقاً كثيراً من أصحابه، ثم قال المعتصم لأعوانه: ناظروه، فقيل له: ما تقول في القرآن؟ فقال أحمد: ما تقول في علم اللَّه؟ فسكت المناظر له، فقال أحمد: من زعم أن علم اللَّه مخلوق فقد كفر باللَّه. فقالوا: يا أمير المؤمنين كَفَرَ وكفَّرنا. فقال بعضهم: أليس قال اللَّه: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ، والقرآن أليس شيئاً؟ فقال أحمد: قال اللَّه: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) ، فدمرت كل شيء إلا ما أراد اللَّه. قال أحمد: فكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين، هو واللَّه ضالّ مُضِلٌّ مبتدع، فيقول المعتصم: كلموه، ناظروه، فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا قال المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب اللَّه وسنة رسوله × حتى أقول به. فيقول أحمد بن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ فقال أحمد: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟ وجرت مناظرات طويلة. قال أحمد: لقد احتجوا عليَّ بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه، أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتى سمعته، وجعلوا يرغون، يقول الخصم كذا وكذا، فاحتججت عليهم بالقرآن: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ﴾ أفهذا منكر عندكم؟ فقالوا: شبَّه يا أمير المؤمنين، شبَّه. وطال المجلس، وقام المعتصم ورُدَّ أحمد إلى حبس في البيت، ثم وجه إليه من يبيت معه ويناظره، ثم أُحضر أحمد في اليوم الثاني وناظروه إلى قرب الزوال، ثم قام المعتصم ورد أحمد إلى مكانه، وفي اليوم الثالث جيء به فناظروه، وفي هذه الأيام كلها يعلو صوته صوتهم، وتغلب حجته حجتهم، فغلبهم بالحجة والبرهان، حتى قال عنه صاحب شرطة المعتصم: ما رأيت أحداً لم يداخل السلطان، ولا خالط الملوك كان أثبت قلباً من أحمد يومئذ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذبان. وطالت المناظرة، فغضب المعتصم وقال لأحمد: لعنك اللَّه طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واسحبوه، خلِّعوه، فأُخِذَ وسُحِبَ وخُلِّع وجُرِّدَ، ووقف به بين الجمهور؛ لجلده وتعذيبه، فقال أحمد: ((يا أمير المؤمنين، اذكر وقوفك بين يدي اللَّه كوقوفي بين يديك )). فلما رأى المعتصم ثباته وتصميمه وصلابته فكأنه أمسك حتى أغراه أحمد بن أبي دؤاد، وقال: يا أمير المؤمنين، إن تركته قيل: قد ترك مذهب المأمون، وسخط قوله، فهاجه ذلك على ضربه، ثم بدأ الجلادون يضربون، فيتقدم الرجل منهم فيجلده سوطين، والمعتصم يقول: شد قطع اللَّه يدك. وأُغمي على أحمد، وذهب عقله مراراً، ويعيدون الضرب ولم يحس بالضرب، وجاء المعتصم إليه ثلاث مرات وهو يُجلد يدعوه إلى القول بخلق القرآن، فيمتنع، ويعيدون الضرب، ثم أمر المعتصم بإطلاقه، بعد أن ضُربَ نيفاً وثلاثين سوطاً، وقيل ثمانين سوطاً، ولكنه كان ضرباً مبرحاً، ولم يشعر الإمام أحمد إلا وهو في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجليه، ثم أمر المعتصم بإطلاقه إلى أهله، وكان ذلك في 25 رمضان سنة 221ه، ووصل إلى بيته، وجاء إليه طبيب في بيته فقال: قد رأيت من ضُرِبَ ألف سوط، ما رأيت ضرباً مثل هذا، وجعل يعالجه ويقطع اللحم الميت من جسده، وأحمد صابر، ويجهر بحمد اللَّه، وبقي أثر الضرب في ظهره حتى مات ، وجعل كل من آذاه في حل بعد أن شفاه اللَّه إلا أهل البدع، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ . وبعد أن توفي المعتصم، وولي الخلافة الواثق ، فأظهر ما أظهر والده من القول بخلق القرآن، ثم جاءت رسالة إسحاق بن إبراهيم إلى أحمد، يقول فيها: ((إن أمير المؤمنين قد ذكرك فلا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكنني بأرض ولا مدينة أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض اللَّه)). فاختفى أحمد ‘ بقية حياة الواثق في غير منزله، ثم عاد إلى منزله عندما طفئ خبره، ولم يزل مختفياً في البيت لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها حتى هلك الواثق، ثم ولي المتوكل الخلافة فأظهر اللَّه السنة، وفرج عن الناس، وقمع البدع وأهلها، ونصر أهل السنة. وكتب الإمام أحمد رسالة عظيمة إلى المتوكل، وبين فيها الرد على من قال بخلق القرآن، واستدل على أن القرآن كلام اللَّه بالبراهين القطعية من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة، ودعا للمتوكل بالتوفيق وحسن العاقبة. اللَّه أكبر! ما أعظم هذه المواقف الحكيمة نحو كتاب اللَّه – تعالى – فإن الناس كلهم في الظاهر قد وافقوا المأمون على القول بخلق القرآن: راغبين وراهبين، ولم يبق مُنكر إلا أحمد ومحمد بن نوح، ثم مات ابن نوح، وبقي أحمد وحده، فثبت واستعان باللَّه، فأثبت للناس أن القرآن كلام اللَّه بقوله ومناظرته وفعله، وصبره على العذاب في عهد المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق، ولولا اللَّه وحده ثم الإمام أحمد لساد القول بخلق القرآن بين المسلمين، وخاصة عامة الناس، ولكن الناس ينظرون إلى أحمد وثباته وحججه وبراهينه، فثبتوا على القول بأن القرآن كلام اللَّه، منه بدأ وإليه يعود، وإن لم يظهروا ذلك للدولة، ولكن يعتقدون ذلك بقلوبهم، فحفظ اللَّه كتابه، وأظهر الحق على يد الإمام أحمد ‘ بهذه المواقف الحكيمة.