مصطفى عبيد كان معاوية بن أبى سفيان مُحنكا وداهية. عرف بذكائه كيف يستميل الناس ويجذبهم إلى جواره. وضرب المؤرخون به المثل فى الحلم والعفو، غير أن ذلك لم يكُن خلُقاً أصيلاً لديه، فكان يُظهر التجبر، ويأمر بالظلم فى مواضع عِدة. كان زياد بن أبيه سيفه البتار فى العراق المعروفة بالتشيع لعلى بن أبى طالب غريمه الدائم وخصمه اللدود حتى وهو فى قبره. وكان الناس يخافونه خاصة أنهم اختبروه، عندما قتل كثيرًا من الخلق بعد خطبته البتراء التى ذكر فيها أنه سيأخذ البرىء بالجانى، والمُحسن بالمُسىء . وبين الحين والآخر كان زياد يبعث ببعض أفراد شرطته ليجلسوا متخفيين بين الناس ويستمعوا لأحاديثهم ويتعرفوا على آرائهم، وهو ما تسميه الأجهزة الأمنية حالياً ب«تقرير الرأى العام». فى يومٍ ما سمعت شُرطة زياد بن أبيه بالكوفة أن جماعة من مُحبى على بن أبى طالب يجتمعون بدار الصحابى حجر بن عدى الكندى، ويترحمون على أيام علي ويذكرونه بخير ويتحدثون عن مظالم بن أبيه. ووقف زياد خطيباً فى المسجد، وكان مفوهاً بليغاً يتوعد ويُهدد قائلاً «إن هؤلاء أمنونى واجترأوا على الله، ولئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشىء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأدعه نكالاً لمن بعده. وطلب زياد إحضار حجر، فأبى فأمر رجاله بالقبض عليه ومَن معه فى البيت بالقوة، وبالفعل قبضت الشرطة على اثنى عشر رجلاً منهم حجر الكندى، وجئ بهم إلى زياد، فقال لحجر: على نفسها تجنى براقش. فردّ حجر وهو يعلم حلم معاوية أنه ما خلع طاعة ولا فارق جماعة وأنه على بيعته. لكن زياد، الذى لا يعترف بحرية التعبير عن الرأى بشكل سلمى، حبس حجر وصحبته، ثُم مارس الضغط النفسى والجسدى عليهم حتى جعلهم يعترفون على حجر بأنه شتم الخليفة ودعا إلى حربه. وأحضر بعد ذلك أهل الكوفة واحداً تلو الآخر ليشهدوا بالأمر نفسه، ثُم بعث بالجمع إلى معاوية فى دمشق ومعهم صحيفة اتهامات بمحاولة العصيان. ورغم ما شاع فى كتب التاريخ عن حُلم ورقة معاوية ونفوره من الدم، إلا أنه أمر على الفور بقتل ثمانية منهم على رأسهم حجر الكندى، وعفى عمَن تبرأوا علانية من علي بن أبى طالب وسبوه . ويحكى الشيخ محمد الخضرى فى محاضراته عن تاريخ معاوية بن أبى سفيان أن السيدة عائشة حاولت إنقاذ رقبة الصحابى حجر فأرسلت عبدالرحمن بن الحارث إلى معاوية، لكنه وصل بعد تنفيذ الاعدام. فقال له عبدالرحمن: أين غاب حلم أبى سفيان؟ فردّ معاوية : غاب عندما غاب عنى مثلك من حلماء قومى وتركتمونى لابن سمية. وعلمت أم المؤمنين بالأمر فحزنت. والمُثير أن الجبار المفزع زياد بن أبيه كان أسرع المشاركين فى الجريمة لحاقاً بالضحية، فلم تمر شهور على الواقعة حتى أصيب فجأة بمرض الطاعون، ورحل سنة 53 هجرية غير مأسوفٍ عليه .