مهام لجان تلقي طلبات الترشح في انتخابات مجلس النواب اعتبارا من غد    أكاديمية البحث العلمي تشارك في "اليوم المصري–الألماني للمواءمة البحثية"    بمناسبة فوز العناني في اليونسكو، بدر عبدالعاطي يشكر وزير الخارجية السابق سامح شكري على جهوده    وزير الرياضة: كرة القدم مزاج عام للناس ومواجهة جيبوتي لن تكون سهلة    صرف البلوجر أدهم سنجر عقب سماع أقواله في واقعة "فلاح المنوفية"    الداخلية تعلن بدء قبول طلبات التقدم لحج القرعة 2026    جولة ليلية ل رئيس الوزراء لمتابعة سير العمل بمشروع حدائق "تلال الفسطاط" (صور)    العسل والليمون أفضل طرق علاج الكحة الجافة    إزالة قاعة أفراح مقامة على أرض أملاك دولة في المنوفية    رئيس الوزراء: الاحتياطي من العملة الصعبة تجاوز 49.5 مليار دولار    هل نستقبل شتاء لم نشهده منذ 20 عاماً؟ .. الأرصاد تُجيب وتكشف حالة الطقس    مدبولي: استضافة مصر لقاءات بين حماس وإسرائيل دليل على قوتنا الإقليمية    احتفالًا بذكرى نصر أكتوبر.. مكتبة مصر العامة بالإسماعيلية تنظم معرض «صمود شعب» بالأعلى للثقافة    4 أبراج روحهم في مناخيرهم.. العصبية جزء من شخصيتهم    قبل مغادرته.. البابا تواضروس يُدشّن كنيسة أُنشئت بأمرٍ ملكي في عهد الملك فاروق قبل أكثر من 80 عامًا    بحضور شخصيات عامة وسياسية.. أسماء زعفان تناقش رسالة الدكتوراة في طب الأطفال    خاص.. كيشو ممنوع من تمثيل أي دولة أخرى غير مصر حتى يناير 2028    محافظ الغربية يفتتح الملعب القانوني الجديد بنادي السنطة بتكلفة 797 ألف جنيه    وزير الرياضة يطمئن على بعثة منتخب رفع الأثقال المشاركة في بطولة العالم بالنرويج    رابطة الأندية تعلن عقوبات الجولة العاشرة من بطولة الدوري    وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات يزور مدرسة WE للتكنولوجيا التطبيقية (صور)    فتح باب التسجيل لقبول دفعة جديدة من الدارسين برواق العلوم الشرعية والعربية بالأزهر    مجلس جامعة حلوان يستهل جلسته بالوقوف دقيقة حداد على روح رئيس الجامعة الأسبق    كشف غموض اقتحام 3 محال تجارية في قنا    مدير الإغاثة الطبية في غزة: المساعدات الطبية لم تكن يومًا كافية والمأساة تفوق الإمكانيات    الخداع الاستراتيجي ..أحد أسرار النصر في حرب أكتوبر المجيدة    روسيا تحث الغرب على وقف نهج المواجهة وتحمل مسؤوليتها لإعادة إعمار أفغانستان    توزيع جوائز مسابقة أفضل مقال أو دراسة نقدية حول الأفلام القصيرة جدًا بأكاديمية الفنون.. غدًا    أسماء جلال من كواليس «فيها إيه يعني؟»: «كل واحد يخليه في حاله»    فوز جون كلارك وميشيل ديفوريه وجون مارتينيس بجائزة نوبل في الفيزياء 2025    «بصلي وبصوم وبسرق وعاوزة أكفر عن ذنبي».. أمين الفتوى يجيب    رمضان عبد المعز: الإيمان بأقدار الله يُريح الروح ويُهدي القلب    ما حكم سب الدين عند الغضب؟.. أمين الفتوى يُجيب    بمشاركة مصرية.. انطلاق برنامج الزمالة التقنية للشباب العربي 2025    بيان رسمي من برشلونة بشأن افتتاح ملعب كامب نو    تُدشّن مبادرة الكشف المبكر عن أمراض سوء التغذية لطلاب المدارس بالمنوفية..صور    «فوائد بالجملة».. ماذا يحدث لجسمك عند تناول كوب من الشاي الأخضر في الصباح؟    بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم: أحمد عمر هاشم خدم كتاب الله وساند المسابقة    سكرتير عام المنيا يتابع معدلات تنفيذ المشروعات التنموية    وزير الخارجية يلتقي رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري    بسبب معاكسة فتاة.. إصابة شخصين في مشاجرة بالأسلحة البيضاء في أوسيم    "المستشار هشام قطب" يدعو لتفعيل نظام المساعدة القانونية لغير القادرين ماليًا    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 7 اكتوبر 2025 فى المنيا    اليونيسيف: أطفال غزة يعيشون رعبا ينبغي ألا يواجهه أي طفل    قطاع الأمن الاقتصادي يضبط 2691 قضية متنوعة خلال 24 ساعة    طاقم تحكيم مصري لإدارة مباراة أولمبيك أسفي والملعب التونسي في الكونفدرالية    مدبولي يوجه بتوفير التغذية الكهربائية للمشروعات الزراعية الكبرى    كيروش: مواجهة قطر صعبة.. ونطمح للانتصار في بداية مشوار التأهل    أغلقوا المدرسة قبل موعدها، تحويل العاملين بابتدائية قومبانية لوقين بالبحيرة للتحقيق    الأهلي يحيل ملف ثلاثي الفريق إلى لجنة التخطيط لحسم مصيرهم    كريم أدريانو يفوز بجائزة «the best» في ثاني أيام عروض مهرجان «المهن التمثيلية» (تعرف على الفائزين)    محافظ بورسعيد للطلاب: عليكم بالتمسك بالأخلاق الحميدة التي يرسخها الأزهر الشريف    ضبط 99 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    ضبط قضايا إتجار بالنقد الأجنبي بقيمة 5 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    وزير الخارجية: نثق في قدرة الرئيس ترامب على تنفيذ خطة غزة    مفاجآت فى واقعة اختفاء لوحة أثرية من مقبرة بسقارة.. فيديو    وزير الصحة لمجدى يعقوب :الحالات مرضية كانت تُرسل سابقًا للعلاج بالخارج واليوم تُعالج بمركز أسوان للقلب    أسعار اللحوم الحمراء اليوم الثلاثاء 7 أكتوبر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التشيّع في العصر الصفوي ...من الصوفية السنية إلى عقيدة السلالة الملكية
نشر في الوفد يوم 31 - 03 - 2012

ألقى المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي محاضرة عام 1971 بعنوان «التشيّع الصفوي والتشيّع العلوي» حوّلها لاحقاً إلى كتاب بالعنوان نفسه (نشرته بالعربية دار الأمير). كانت منطلقات شريعتي للتمييز بين التشيّعين سياسية وثورية ترتبط بصراع الحركات الثورية المعارضة لحكم الشاه محمد رضا بهلوي
آنذاك. وأراد شريعتي في كتابه القول إن التشيّع العلوي هو التشيّع لأهل البيت الرافض للظلم والاستبداد والذي لا يخشى أتباعه من الشهادة والتضحية في سبيل الحق والحقيقة، مستشهداً بمواقف الإمام علي ونجليه الحسن والحسين وابنته زينب خلال صراعهم مع الظالمين في عصورهم. ويذهب شريعتي إلى أن ذلك الخط الشيعي الثوري المعارض تواصل خلال ثمانية قرون ضد مختلف الحكومات المستبدة القائمة، من الأمويين إلى الإيلخانيين، إلى أن جاء الحكم الصفوي وأقام حكمه في إيران باسم التشيّع وأيده بعض رجال الدين الشيعة، برغم استبداده وفساده وعدم اختلافه عن السلاطين السابقين الذين حكموا باسم أهل السنّة والجماعة. ويرى شريعتي أن التشيّع تحوّل في عهد الصفويين من تشيّع حركة ونهضة إلى تشيّع حكومة ونظام، وبدأ الحكم الجديد بتبنّي طقوس المواطنين الشيعة ويشجع على زيارة المراقد ويقوم بتشييدها وزيارتها.
حركة
الحركة الصفوية بدأت كحركة صوفية سنّية مع الشيخ صفي الدين الأردبيلي ثم تحوّلت مع حفيده الشيخ الجنيد إلى حركة شيعية وغدت لاحقاً سلالة ملكية تعتمد المذهب الشيعي الإمامي رافعة دينية لحكمها. يذهب الباحث الإنكليزي كولن تيرنر في دراسته المنقولة إلى العربية بعنوان «التشيّع والتحوّل في العصر الصفوي» (منشورات الجمل – 2008)، أن «ثمة مفارقة أساسية في التاريخ الديني الإيراني هي أن ما ظل ديناً للدولة في القرون الخمسة الأخيرة، أي التشيّع البراني الطابع، قد فُرض على الغالبية السنية من قبل حاكم غير شيعي الظاهر ولا براني التوجّه. كما أن الصفويين ما كانوا فرساً بالمعنى الأدق، مع أن الأصول الجغرافية الصحيحة للسلالة لم تحدد نهائياً بعد».
إذاً ليس هناك اتفاق بين الباحثين والمؤرخين بصدد عدد من المسائل المتعلقة بالصفويين. المسألة الأولى هي جذور السلالة الصفوية إذ يذهب البعض إلى أنهم من سكان إيران الأصليين ومن عرق آري نقي، غير أنهم كانوا يتكلمون الآذرية، اللغة المحلية في آذربيجان. فيما ذهب آخرون إلى أن أسلاف الصفويين هم أكراد رافقوا الأمير الكردي ماملان بن وهسودان عندما احتل هذا الأخير مدينة أردبيل عام 1025م. أما البعض الثالث فيقول بالأصول التركمانية للصفويين.
لكن من المتفق عليه أن الصفوية كانت في بادئ أمرها طريقة صوفية في بلدة أردبيل في آذربيجان عند بداية القرن الثامن الهجري. دخل مؤسسها الشيخ صفي الدين أو صفي (توفي عام 1335م) في التصوّف على يد الشيخ تاج الدين إبراهيم زاهدي (توفي 1301م)، وهو مرشد من جيلان زوّج ابنته للشيخ صفي. وبعد وفاة عمه وشيخه تاج الدين، غدا الشيخ صفي رأساً للطريقة التي عُرفت باسمه بعدها.
يقول تيرنر في دراسته إن الطريقة الصفوية كانت محترمة من قبل السلطات الحاكمة المعاصرة من الإيلخانيين إلى الجلايرية والتيموريين، حيث كانت الحركات الصوفية الجوانية مشجعة ما دامت غير سياسية، إذ كان القادة الصفويون الأوائل كسنّة وكصوفية من أتباع التوجّه العام، حيث كان أكثر سكان أردبيل ينتمون إلى المذهب الشافعي فقهياً وكما كانوا أتباعاً للشيخ صفي. وقد فاخرت الطريقة بامتناعها عن الدخول في المشاجرات المذهبية، مفضلة اتباع أصح الأحاديث إسناداً من المذاهب السنية الأربعة.
تحوّل
كيف حصل تحوّل الصفوية من طريقة سنية صوفية إلى الغلو؟ يقول تيرنر إنه «مع استخلاف الشيخ الجنيد (توفي عام 1460م)، حفيد الشيخ صفي، على رأس الحركة الصفوية، دخلت الطريقة في تحوّل هائل ليس من السهل تفسيره، ولا تُعين المصادر في ذلك الزمان كثيراً على فهمه. كان التغيّر في الميل الديني درامياً: تراجَع التصوّف المتأمل الجواني أمام غلوّ هرطقي في شكل صارخ». وينقل تيرنر عن ابن روزبهان خونجي، الكاتب السنّي في بلاط السلطان يعقوب بن أوزون حسن آق قوينلو، أن أتباع الطريقة الصفوية دعوا صراحة الشيخ جنيد إلهاً وابنه ابن الله.
ويرى تيرنر أنه لا يمكن شرح تحوّل الصفويين من طريقة سنية - صوفية إلى فرقة تتبنّى الغلوّ في الإمام علي كمجرّد تعديل بسيط في التوجّه الديني. بل كان هذا التبدل الجذري المفاجئ مصحوباً بتغيّر جذري في ميول الطريقة الصفوية حوّلها إلى حركة مسلحة استطاعت في أقل من نصف قرن أن تنصّب إسماعيل، حفيد الجنيد، شاهاً على العرش في تبريز. ويذهب تيرنر إلى أن هذا التحوّل الديني يجب أن يفهم في ضوء التحوّل السياسي أي كستار للطموح السياسي للجنيد.
لكن لماذا يختار الجنيد الغلوّ العلوي كرافعة سياسية في مجتمع ذي غالبية سنية وصوفية أرثوذكسية، إذ يصر الباحث تيرنر على أن إيران كانت في غالبيتها الساحقة سنية. يحاول تيرنر تفسير ذلك بأن الجنيد قد انتقل إلى منطقة الأناضول حيث قاد أتباعه المنضوين في فرقة من الغزاة واستقر به المطاف في ديار بكر حيث تلقاه حاكمها الآق قوينلو، أوزون حسن، بحرارة. وكانت الأناضول قد تحوّلت إلى أرض خصبة لكل البدع الدينية نتيجة الوضع السياسي المزعزع للدولة العثمانية بعد زوال دولة السلاجقة الروم، إضافة إلى التدفق الهائل للقبائل المغولية التركمانية بعقائدها الدينية المبهمة. وكان الغلو العلوي الهوى منتشراً يعضده تاريخ من الثورات على الحكم قادتها شخصيات كاريزمية ذوات ميول شيعية إمامية ضد الحكام السلاجقة والعثمانيين. وقد انتشرت تعاليمهم بين تركمان الأناضول الذين تبنى بعضهم لاحقاً فرقاً كالصفوية والبكتاشية، ذات الغلو الشيعي.
إذاً في أرض البدع الخصبة هذه، حاول الجنيد الحصول على الدعم لطموحاته السياسية والعسكرية الناشئة، وكانت القبائل التركية الرّحل في ريف الأناضول مع تاريخها المحارب للدولة وتطرفها الديني مادة خصبة للجنيد كي يبني مجموعة من المقاتلين، وكان طبيعياً أن يهجر الجوانية المسالمة، أي عموم التصوّف والتسنّن ويأخذ عوضاً عنها بدعاوى مغالية. هذا هو تفسير تيرنر لتحوّل الجنيد الذي تزوج من أخت الحاكم أوزون حسن، وبذلك مهّد لأن يصبح الصفويون لاحقاً أمراء البلاد.
تحت قيادة حيدر إبن الجنيد تبلوّرت الطريقة الصفوية كحركة سياسية ذات ميول دينية مغالية باطّراد حيث اعتبره أتباعه إلهاً وعرفوا باسم القزلباش أي الرؤوس الحمراء، وذلك بسبب القلنسوة الحمراء التي أمرهم حيدر بارتدائها. نصب حيدر على أردبيل عام 1469م من قبل خاله أوزون حسن الذي كان قد هزم الحاكم الإيلخاني جهان شاه وسلالة قره قوينلو واستولى على أراضيهم. كما أدت عودة الطريقة الصفوية إلى أردبيل إلى تدفق أتباع الطريقة من الأناضول وشمال سورية إليها. وتوثقت علاقة حيدر بسلالة آق قوينلو بزواجه من ابنة خاله أوزون حسن.
لم يستلم الصفويون الملك إلا في عام 1499م بقيادة إسماعيل نجل حيدر الذي تمكن من السيطرة على تبريز بمساعدة قبائل التركمان التي شكلت عصب القزلباش حيث أعلن إسماعيل نفسه شاهاً، وبحلول عام 1508م عندما استولى إسماعيل على بغداد، كانت البلاد بأجمعها تقريباً تحت حكمه. يقول تيرنر إن إيران كانت في ذلك الوقت تحت سيطرة تيارين دينيين شعبيين هما: التصوّف «الراقي» أو السنّي العام، والغلو أو التصوّف الشعبي مع طابع شيعي قوي. وكان معظم السنّة الإيرانيين على فقه المذهبين الشافعي والسني.
خلاف آخر
ثمة خلاف آخر بين المؤرخين والباحثين في شأن مدى انتشار التشيّع في إيران قبل الصفويين ومدى فرض التشيّع بالقوة خلال حكم الصفويين. يذهب تيرنر إلى أن تشيّع الفقهاء الإمامي البراني الأرثوذكسي قد أثّر في شكل ضئيل في الإيرانيين، بينما كان ميل الإيرانيين أكثر إلى الحركات الجواّنية الصوفية السنّية والشيعية منها، وخصوصاً المولوية والنقشبندية والنعمة اللهية، وكان واضحاً فيها الولاء لآل علي على غرار غيرها من الطرق الصوفية، ويرفض تيرنر وصفها بالتشيّع.
أميل إلى الرأي القائل إن أرضية التشيّع كانت مهيأة في إيران قبل تولّي الصفويين للحكم، وذلك لأسباب عدة هي: أولاً العلاقة الوثيقة بين التشيّع والتصوّف العائدة إلى اعتبار المتصوّفة الإمام علي والأئمة الآخرين من أقطابهم. وثانياً، الولاء التاريخي للفرس لآل البيت منذ بداية النزاع بين العرب والموالي الفرس في عهد الخلفاء الراشدين. ثالثاً، قيام دول شيعية عدة في أجزاء مختلفة من إيران قبل الصفويين بعضها كان إمامياً وبعضها كان زيدياً، مثل الدولة المشعشعية والدولة السربدارية ودولتي طبرستان وجيلان. وأخيراً لا ينبغي إغفال وجود التقية لدى الشيعة في إخفاء تشيّعهم خلال فترات الاضطهاد الديني، وهو قد يكون اعتمده قسم من الإيرانيين الشيعة خلال عهود الحكام السنة في إيران. لكن ذلك لا ينفي قيام بعض الحكام الصفويين بنشر التشيّع في إيران بالدعوة والحسنى تارة وبالقوة والإكراه تارة أخرى.
يذكر تيرنر أن التحوّل الظاهري للإيرانيين كان سريعاً، إذ أن كثيراً ممن اعتنق الإمامية ظاهراً قد حافظ على تسنّنه سراً، ويستدل على ذلك بالدعم الذي استطاع الشاه إسماعيل الثاني (حكم 1576 – 1577م) حشده في محاولته إعادة تمكين التسنّن ديناً رسمياً بعد حوالى سبعين سنة. إذاً أصبحت التقية تقليداً يمارسه السنّة هذه المرة. وفجأة أعلنت الطريقة النعمة اللهية تشيّعها ودخلت في حلف طويل نسبياً مع الصفويين.
كان الشاه إسماعيل ومستشاروه جاهلين تماماً بالفقه الإمامي عندما تبنوا مذهب الإمامية ديناً جديداً للدولة، فإسماعيل نفسه كان منتمياً إلى الغلو. ويرى تيرنر أن تبنيهم الإمامية كشكل من أشكال البرانية الإسلامية مع الحفاظ على موقفهم العلوي الهوى، يعود إلى أن مذهب الإمامية يمتلك إطاراً فكرياً محدداً وحبكة عقائد مفصلة يمكن بسهولة نسبية إزدراعها في شكل الحكومة التي ينوي الصفويون إنشاءها. وهكذا يجب النظر إلى تبنّي الشاه إسماعيل للإمامية كعمل سياسي نفعي أكثر منه رغبة منه في نشر المذهب بذاته.
كان أبرز فقهاء الإمامية وأهمهم تاريخياً في العصر الصفوي الأول الشيخ علي الكركي العاملي اللبناني (توفي نحو 1534م) الذي دعاه الشاه إسماعيل للانتقال من جبل عامل إلى إيران من أجل نشر مذهب الإمامية. ويعتبر تيرنر أن الكركي هو الأب المؤسس للبرانية الإمامية في إيران الصفوية وأول علماء الشيعة الذين نشروا المذهب على نطاق واسع في البلاد.
ويفسّر تيرنر ملاءمة الإمامية الأرثوذكسية لأهداف الحكام الصفويين الجدد بأن هذا المذهب يساعدهم على توطيد حكمهم واستئصال مكامن المقاومة المحتملة المتمثلة في التسنن والتصوّف وكذلك في قبائل القزلباش، الذين سيتحوّل غلوّهم عبئاً على الصفويين. ويروي الباحث أن الشاه إسماعيل وجد حليفاً صلباً في الشيخ الكركي وفقهاء الإمامية البرانيين الوافدين من خارج إيران، الذين كتبوا رسائل ضد التصوّف وبخاصة الطرق السنّية منها.
يحاول تيرنر في كتابه أن يثبت أن التحوّل في التشيّع من التشيّع الجواني أي الصوفي العرفاني إلى التشيّع البراني المرتكز على الفقه والشريعة، قد حصل خلال العصر الصفوي، وأن التحوّل الأهم في التشيّع هو تمحور التشيّع حول مركزية الإمامة بدلاً من مركزية الله، حتى لدى بعض الحركات الصوفية الشيعية.
ويكرّس تيرنر جزءاً كبيراً من دراسته حول دور الشيخ محمد باقر المجلسي، صاحب كتاب «بحار الأنوار»، في سيادة التشيّع البراني الأخباري المستند إلى الحديث والمبتعد عن إعمال العقل والمعرفة الجوانية.
تفاوت
ولكن تيرنر نفسه يظهر أن ثمة تفاوتاً في عداء الحكام الصفويين للتسنّن والتصوّف، فكان بينهم من هو أقرب إلى التسنّن كالشاه إسماعيل الثاني الذي رفض الطعن بالخلفاء الثلاثة الأوائل، ومن حارب الغلو كالشاه طهماسب والشاه عباس. وكان بينهم من حارب الحركات الصوفية أو من كان صوفي الهوى ودعم التصوّف.
وبرغم المآخذ على الحكام الصفويين، فإن تبنيهم للمذهب الشيعي الإمامي بدلاً من الغلو ومحاربتهم للغلو لاحقاً تُحسب لهم. أما دعمهم لما يسمّيه تيرنر بالإسلام البراني، أي التقليدي الأرثوذكسي على حساب التصوّف، فهو غير مذموم بالمطلق، وخصوصاً لما ينطوي عليه بعض التصوّف من غلوّ وشطحات.
أما استغلال الحكام الصفويين للإسلام والتشيّع لحفظ سلطانهم فهو شأن جميع الحكام في الماضي والحاضر. ويبقى أن التعميم مرفوض في الحكم على حقبة تاريخية كاملة، فلا يمكن إطلاق التعميمات وإدانة الحكم على جميع الحكام الصفويين بإسقاط الخلافات السياسية والقومية والمذهبية الحالية على التاريخ، وتحميلهم مسؤولية التحوّل في التشيّع إن صحّ هذا الرأي، فهم لم يقوموا إلا بتمكين التشيّع الإمامي من الانتشار في إيران، ولكنهم استعانوا في ذلك بأبرز فقهاء الشيعة آنذاك والذين كانوا عرباً من لبنان والعراق والإحساء، حيث لعب علماء جبل عامل الدور الأبرز في ذلك.
نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.