ما إن فتح باب الترشح لرئاسة الجمهورية، حتي رأينا طابوراً طويلاً من هؤلاء المشتاقين إلي قصر الرئاسة من مختلف طوائف المجتمع، الجميع يسحب أوراق الترشح المجانية بالطبع، ويدلي بتصريحات للفضائيات ووسائل الإعلام، التي اعتبرت، عن جهل منها، أن كل من يذهب الي اللجنة ويسحب الأوراق، قد صار مرشحاً للرئاسة، حتي لو كان قهوجياً أو سباكاً أو ساعاتياً أو مقاولاً أو لصاً تائباً أو حشاشاً صاحب مزاج عال أو حامل ابتدائية أو اعدادية، مع احترامنا لكل المهن الشريفة والشهادات. لقد اعتبر البعض ما يحدث ظاهرة صحية تعبر عن الحرية التي حصل عليها الشعب بعد الثورة، والتي عبر عنها بحق كل مواطن في الترشح لأعلي منصب في مصر، وهو منصب الرئيس، وهو المنصب الذي كان محرما علي المصريين الاقتراب منه أو مجرد التفكير في الترشح له في العهد البائد. ولكني أعتبر ما يحدث من تكالب العامة والسفهاء والرويبضة علي منصب الرئاسة، حتي ولو بسحب أوراق الترشح هو نوع من العبث والجنون والاستهتار بهذا المنصب الرفيع، أنه حكم مصر بحجمها الكبير ومكانتها العظيمة في قلب العالم الإسلامي، ولا يجب أن يتقدم للترشح له إلا من يجد في نفسه القدرة والكفاءة علي تحمل المسئولية، ممن تتوافر فيهم القوة والعلم والأمانة وحفظ الحقوق. فتولي مسئولية مصر قضية كبيرة، ليست بالأمر الهين، كما يظن أغلب هؤلاء الذين يتجاسرون ويعلنون نيتهم للترشح للرئاسة، وكأن رئاسة مصر دور يؤديه أحد الممثلين علي المسرح، أو وظيفة هينة في احدي الوزارات أو الهيئات. وأغلب الظن أن هؤلاء الذين يتكالبون علي الترشح للرئاسة، إلا ما رحم الله، ينظرون إلي ما في هذا المنصب الرفيع من مغنم وسلطة وجاه، ويغضون الطرف عما فيه من مغرم ومسئولية كبيرة وعظيمة أمام الشعب أولا، ثم أمام الله سبحانه وتعالي، ولا يدركون أن من يصل الي سدة الحكم في مصر سوف يكون مسئولا عن 87 مليون مصري.. عن فقيرهم وغنيهم، عن مريضهم وصحيحهم، عن صغيرهم وكبيرهم، عن رجالهم ونسائهم، عن أطفالهم وشيوخهم، عن مظلومهم وظالمهم. إن تولي مسئولية شعب بأكمله ليست بالمهمة السهلة، بل هي مسئولية كبيرة وأمانة عظيمة، تلك المسئولية والأمانة التي جعلت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يحس بمسئوليته تجاه بغلة تتعثر في أرض العراق، ويدرك أن الله سوف يسأله عنها لأنه لم يمهد لها الطريق، فما بالنا بآلاف الجوعي والعراة والمعوزين والفقراء الذين يتضورون جوعا كل ليلة في طول مصر وعرضها ولا يجدون من يوفر لهم لقمة العيش، ويرفع عن كاهلهم غول الأسعار والغلاء؟! وما بالنا بعشرات الأطفال الذين يموتون في بلاعات الشوارع المفتوحة؟.. وما بالنا بالدماء البريئة التي تراق كل يوم علي أيدي المجرمين واللصوص والمسجلين خطر الذي أطلقوا في الشوارع لترويع المواطنين ومص دمائهم؟!.. وما بالنا بملايين الشباب من حملة الشهادات الجامعية الذين تقتلهم البطالة ولا يجدون عملا يقتاتون منه؟.. وما بالنا بملايين العوانس والعانسات الذين تعدوا سن الزواج ولا يجدون المأوي ولا السكن العائلي، ناهيك عن متطلبات الزواج التي ترهق كاهل الشباب؟! أليست مسئولية هؤلاء وهؤلاء كبيرة، أم أنها مجرد تشريف لمن يجلس علي الكرسي ويعيش في وادٍ وشعبه في وادٍ آخر، ثم يكون مصيره في النهاية السجن والأسر والذل والمهانة والمحاكمات، بعد العز والسلطان والجاه والأمر والنهي ومتع القصور؟، إن الوظيفة العامة في المجتمع الإسلامي أمانة كبيرة لها تبعات كثيرة، فهي ليست تشريفا لمن يتولاها ولا وسيلة لرفعه فوق رؤوس أفراد الشعب ولكنه تكليف يتبعه مسئوليات. ثم إن القاعدة الإسلامية أن المسلم لا يطلب الولاية العامة أو يحرص عليها، وقد أصل ذلك النبي، صلي الله عليه وسلم، بقوله: «إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً طلبه أو أحداً حرص عليه»، فما بالنا بهذا الكم الكبير من رجال مصر ونسائها الذين يطلبون الرئاسة ويسعون إليها ويبذلون من أجلها الغالي والنفيس، ومنهم من لا يستطيع أن يدير شئون نفسه أو بيته، فما بالنا بشئون شعب بأكمله!!.. ألا يتعظ هؤلاء بما آل إليه مبارك وأولاده ورجاله ونظامه، ليعلموا ما في حكم مصر من مغرم كبير؟ أم أنها نشوة السلطة والجاه، وان انتهي بهم الأمر الي غياهب السجون أو مشانق الإعدام. كنا نود ألا نجد من يترشح للرئاسة في مصر، فيسعي العلماء وقادة الفكر والرأي إلي ذوي العلم والفضل والقدرة علي تحمل مسئولية مصر وشعبها، ويطالبوهم بالترشح، بحيث تسعي الرئاسة الي من لديه القدرة والعلم والأمانة علي حكم البلاد، ولا يسعي هو إليها.. ولكن، للأسف الشديد، وجدنا من يتكالبون علي الرئاسة ويطلبون السلطة ويسعون إليها، وأغلبهم، في الواقع، لا يقدرون علي تولي وظيفة صغيرة في وزارة من الوزارات. وقد يقول قائل: إن نبي الله يوسف طلب الوزارة والرئاسة.. ولكن أين أنتم يا من تنوون الترشح للرئاسة وتطلبونها من نبي الله يوسف ابن الأنبياء، فأبوه وجده وجد أبيه أنبياء، فهو يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم.. أين أنتم من يوسف الحفيظ العليم، المخلص العفيف، الذي كان يكثر الصيام وهو عزيز مصر، وفي يده مفاتيح خزائنها، وعندما سئل عن ذلك، قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع.. يوسف الذي أخرج مصر من سنوات سبع عجاف شداد بسياسته الحكيمة وتدبيره العظيم.