رحل البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، هدأت ثورة روحه بعد 40عاما على عرش "البطريرك", واهتزت الكنيسة القبطية ل"فراق" البطريرك الذي صعد بها إلى مالم يسبقه أحد من البابوات على مر العصور. أقسى مافي مشهد الرحيل هو الصورة الذهنية التي تركها البابا المعروف بصلابته لدى الأقباط في عظته الأسبوعية الأخيرة، وجه شاحب، ويد ترتعش، وصوت متحشرج، وجسد على كرسي متحرك، ضاعف المشهد الأخير أوجاع محبيه. نظرة الوداع لن تمحى من الذاكرة، كان طامعا في تكرار عبارته التي قالها عقب سريان شائعة وفاته قبل عدة أشهر "جئتكم قائما من بين الأموات"، لكن القدر كان أسرع من رغبته.. كثيرة هي المرات التي استمع فيها لشائعة وفاته وهو لايزال حيا، وحلم الخلافة كانت تغزل خيوطه على مقربة منه، الرغبة في احتلال عرشه ظلت شبحا يطارده حتى الوفاة، وتسعفه فقط عباراته المحذرة من التمادي في حلم "الجلوس على المقعد البابوي، حسبما قال لأحد الشباب جلس على مقعده بعد انتهاء إحدى عظاته "المهم إنك متقعدش عليه على طول". مسحة الحزن في عين البابا شنودة كانت سمة مميزة له في عامه الأخير، غير أن طبيعته المعاندة ظلت صخرة تتحطم عليها قوة المرض، حتى استسلمت قواه مساء أمس الأول، تاركا مقره معتقا بآخر زيارة رسمية ل"المرشد العام للإخوان المسلمين".. "لم أتوقع الوصول ل"البابوية"، ولن أكتب شيئا عن مسيرتي، وسأترك ذلك لكم"، كانت تلك العبارة ملخص عظة ألقاها البطريرك الراحل في 16يونيو الماضي، لافتا إلى أنه سيحتاج إلى كتاب كبير إذا شرع في الكتابة عن نفسه.. بطريرك برتبة قيصر "بطريرك برتبة قيصر" 3كلمات تلخص مسيرته، وقرعة بين 3ورقات ويد طفل ومساحة غموض تحاور فيها التخطيط والتدبير حددت تلك المسيرة، في 13 أكتوبر 1971 أجريت الانتخابات البابوية لخلافة البابا كيرلس، وفي غضون 30يوما توج البابا شنودة على المقعد البابوي ليصبح البطريرك رقم 117 بين أساقفة الكنيسة القبطية .. الطفل الذي سحب ورقة القرعة الهيكلية لم يكن يعلم أنه سيصنع تاريخا خاصا للكنيسة القبطية، كان الطفل "أيمن منير" بحسب روايته واقفا أمام الباب الحديد للكنيسة، فجأة حمل إلى الهيكل وارتدى لبس شماس، وأغمضت عيناه، وجاء رئيس الشمامسة ليرج الصندوق الذي ترسو في قاعه 3ورقات إحداها للأنبا صموئيل الحاصل على أعلى الأصوات وقتئذ، والثانية للأنبا شنودة الحاصل على المركز الثاني، والأخيرة للأنبا تيموثاوس ذي المركز الأخير . سحب أيمن ذو الأيدي الصغيرة حينئذ, ورقة القرعة, وهو لا يدري حسبما أفاد؛ لتعلن النتيجة على الملأ أن الأنبا شنودة الثالث هو بابا الإسكندرية, وينتقل البطريرك إلى مرحلة أخرى من المواجهة، والزعامة، ويتحقق حلم شباب مدارس الأحد. في مستهل فترته، استضافته نقابة الصحفيين على غير عادة "البابوات" باعتباره عضوا، ثم التقى الرئيس السادات الذي قال له "لقد قرأت تاريخ كنيستك جيدا، وأريدك أن تعيد لها تاريخها".. البابا والسادات شهر عسل لم يدُم شهر العسل لم يدم طويلا بين البابا والرئيس، مثلما لم تبخر المشروع الوطني المصري في أعقاب نكسة 67، وجاء حادث الخانكة كأول مجرى ل"الطائفية" بعد فترة هدوء امتدت لفترة ليست بالقليلة، وبذرة صدام بين البطريرك والسادات ترعرعت في سبتمبر 1981 وقطف ثمرتها البابا شنودة ب"عزله" من منصبه كرأس للكنيسة القبطية، وإقامته الجبرية ب"دير الأنبا بيشوي" الذي تحول فيما بعد إلى أقرب الأديرة إلى قلب البابا، لدرجة جعلته يوصي بالدفن فيه. إبان تلك الفترة كان المنهج الصدامي حاضرا في خطاب "البابا" المتأثر بجماعة الأمة القبطية ومشروعها الإصلاحي القائم على المواجهة، وكانت أحداث الخانكة محض خلاف بين مسلمين وأقباط على جمعية الكتاب المقدس التي أدى بها الأقباط الصلاة، فهاجمها المسلمون باعتبارها كنيسة، وقتها جمع البابا شنودة أقباط القاهرة والقليوبية وقال لهم "مينفعش الناس تكسر كنايسنا"، وطالبهم بالذهاب إلى الجمعية لأداء الصلاة وعدم التحرك حتى لو تعرضوا للضرب. تصاعد الخلاف بين الرئيس والبابا لدرجة أن السادات صرح ب"أن البابا حاول لي ذراعه"، وبعد لقاءات متعددة بين الجانبين، آخرها لقاء أبرمه المهندس حسب الله الكفراوي مع البابا وشيخ الأزهر لبناء مسجد وكنيسة في العاشر من رمضان، وعقب السادات على فعل الكفراوي قائلا: "اللي إنت عملته شيء رائع".. في نهاية السبعينات تعمق مجرى الطائفية، وجرت مياه المواجهة بغزارة شديدة، ووقعت أحداث أسيوط التي خرجت فيها الجماعات الإسلامية عن توازنها، وطلب البابا لقاء الرئيس فرفض السادات، ليرد البابا شنودة بإلغاء في 26مارس 1981 عقب اشتعال بعض الكنائس إبان عيد الميلاد، بإلغاء احتفال عيد القيامة، وذهب للاعتكاف كإجراء تصعيدي. لعب الرئيس السادات بورقة الأب متى المسكين، وألقى خطابا أمام المجلس قال فيه: "شنودة عايز يعمل زعيم سياسي، ولو عايز يلاعبني سياسة يقلع العباءة السوداء"، وفي أعقاب أحداث الزاوية الحمراء وصلت العلاقة إلى طريق مسدود، وأصدر السادات قراره بعزل البابا. حياة الدير استمرت 5سنوات بعد اغتيال الرئيس السادات، وتدخل وفد مكون من رئيس الطائفة الإنجيلية صموئيل حبيب، والمحامي الكاثوليكي أمين فهيم، والقيادي الوفدي أمين فخري عبدالنور؛ لعقد صفقة بين البابا والدولة، تضمن عودته إلى المقر البابوي، بشرط تجنبه للصدام واستعمال الضغط . وافق البابا، واستراح الجميع، ودشن ما يسمى بمائدة المحبة المصرية، وتعافى المجتمع في السنوات الأولى لحكم مبارك، وتحول البابا من الصدامي، إلى المهادن مع نظام مبارك، ليبقى السؤال مطروحا "ماذا تغير في البطريرك خلال سنوات الدير؟". ليبراليًا يعشق مكرم حسبما أفادت مصادر مقربة، كان البابا شنودة ليبراليا، يعشق القيادي الوفدي مكرم عبيد، وانضم للكتلة الوفدية، وظل يلقي أشعاره وخطبه الحماسية في الاجتماع الشهري للكتلة، في حين أنه لم يكن محبا ل"عبدالناصر"، وتجربته الاشتراكية، يدلل على ذلك وفقا للدوائر القريبة من البابا حرصه على تقريب رجال الأعمال من المقر البابوي . ورغم إصدار الكنيسة بيان تأييد للثورة، غير أن الموقف الرئيسي الملتصق بها هو ترددها في دعم الثوار منذ انطلاق الشرارة الأولى للثورة. إنجازات لا تتوقف إنجازات البابا شنودة لم تقف عند سيامة أكثر من 100 أسقف وأسقف عام؛ بما في ذلك أول أسقف للشباب، وأكثر من 400 كاهن وعدد غير محدود من الشمامسة في القاهرةوالإسكندرية وكنائس المهجر، أو اهتمامه الخاص بالمرأة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وانتعاش الرهبنة في عصره، حيث سيامة المئات من الرهبان والراهبات.. أو إنشاء العديد من الأديرة القبطية خارج جمهورية مصر العربية وإعادة تعمير عدد كبير من الأديرة التي اندثرت، إنجازات البابا تتجاوز ذلك إلى انتقال الكنيسة للعالمية .. بينما مالم يحققه البابا خلال فترته الممتدة هو إقرار قانوني الأحوال الشخصية للطوائف المسيحية، وقانون البناء الموحد لدور العبادة، رغم علاقة اتسمت بالأريحية بين الكنيسة والنظام البائد طوال فترة جلوسه..