إذا كان قلبك حجر صوان فاستعد لتعش بدونه لأنه سينكسر إذا توجهت لزيارة المسنات بمستشفى العاباسية للأمراض النفسية والعقلية، وإذا كنت تريده يلين بعض الشيء فاتجه إلى قسم الرجال المسنين، فكلاهما يعانون من هجر الأحباب وجحودهم . هذا أب لا يعرف شيئا عن أبنائه وتلك امرأة أصيبت بحمى نفاث ففقدت عقلها فأودعها أهلها ب"السرايا الصفرا" لعلها تنال الشفاء أو تموت هناك في سكون وهدوء، لكنها انتظرتهم سنوات طوال يعودون إليها بعد استقرار حالتها فنسوها تاركينها لوحش الوحدة والشيخوخة وخرف العجز. عاوزة فلوس كل ما تتذكره فاطمة ( 82 عاماً) أنها صرخت عقب وفاة أمها فألقاها أبوها بمستشفى العاباسية ومعها ابنها حتى الآن .. تعتقد أيضاً أنها عاشت بالعباسية لمدة 10 سنوات فقط، إلا أن سجلها الطبي ثابت فيه أنها مكثت 47 عاماً بالمستشتفى حيث كانت تعاني من فصام حاد تحول إلى مزمن مع مرور الوقت حيث اختفت الأعراض الحادة . وبعيون دامعة ووجه عابس، تقول فاطمة " معرفش حاجة عن ابني .. نفسي اشوفه بس هو مع أبوه .. أنا عارفة إني مش هخرج من هنا هخرج أروح فين؟؟". عندما سألتها "نفسك في إيه" .. قالت: " عاوزة فلوس اشتري بيها شاي وشيبسي وسجاير وحاجات حلوة". ضحكة طفل شتان بين شعرها الأبيض وأسنانها المفقودة وبين ضحكة الأطفال التي تتمتع بها كاميليا، فما إن تسمع ضحكتها تنسى أنها امرأة بلغت من العمر 72 عاماً، أمضت منهم 31 عاماً في علاج الفصام المزمن بمستشفى العباسية للأمراض النفسية , الذي تحول الآن إلى فصام متبقي مع بعض الأعراض الذهانية الخفيفة التي يتم التحكم بها مع الانتظام في العلاج، لتستطيع الاندماج مع المجتمع الخارجي إلا أنه "لا ولد ولا سند كما يقولون " يسأل عنها في منفاها . تعتقد كاميليا أنها في المستشفى منذ عامين وأربعة أيام تماما، وتقول: " أمي جابتني هنا علشان انا عيانة أوي .. حاسة اني مهزومة كده ومش عارفة اتكلم .. أمي مضايقاني عشان سابتني لوحدي". على الرغم من عدم وجود بيانات عن حالة كاميليا الاجتماعية فيما يخص أنها كانت متزوجة أو منجبة، إلا أنها تؤكد أن زوجها يعمل مدرساً ولديها أربعة أطفال يزورونها جميعا بانتظام . خرف الشيخوخة أما فاطمة البغدادية ،كما تطلق على نفسها نسبة إلى سيدي البغدادي، فتبلغ من العمر 88 عاماً .. دخلت المستشفى منذ أكثر من 20 عاماً، وكان تشخصيها وقتها فصام مزمن ومع مرور الوقت أصيبت بمرض خرف الشيخوخة أيضاً . وبملامح عابسة وكأنها تبكي، تقول فاطمة: جيت هنا من كتير معرفش امتى .. معنديش عيال ولا متجوزة .. أخويا اللي جابني هنا عشان العلاج". جواهر أيضاً لا تعرف إلا اسمها لا تتذكر عمرها، ولا منذ متى أتت إلى المستشفى ، معتقدة أنها من طلبت الإقامة بها لعلاج ضعف نظرها..! وتضيف: " أنا زهقت من هنا بس هعمل إيه .. رجليا بتوجعني ومحدش بيسأل عليَّ، حتى خالي وولاده سابوني .. نفسي أخرج بس هروح فين طيب .. أنا قاعدة هنا وخلاص". في البداية كانت تحب جواهر ممارسة بعض الأنشطة مثل ري وزراعة الحديقة، إلا أن أمراض الشيخوخة التي لاحقتها حالت بينها وبين متنفسها الوحيد وملهاها عن ذكرى أهلها، خاصة وأن علاقتها انقطعت بزوجها الثالث وأولادها منه منذ أكثر من 30 عاماً . عنبر الرجال ما إن تنظر إليه تجتاحك رغبة بأن تمد يدك إليه وتمحو عن ملامحه الشقاء والعبوس، فالتجاعيد التي رسمها الزمن على وجهه التحمت مع الظروف القاهرة لتنتج رجلاً منحني الظهر مريضاً بالفصام زائد عليه أعراض الشيخوخة . إنه عم اسماعيل الذي يعتقد أنه ابن ال 50 ربيعاً، وهو يبلغ في الحقيقة 76 عاماً.. بعد كل هذه السنوات زهد الحياة فلم يتزوج ولا يريد الزواج ولا الانجاب .. كل أمانيه في الحياة أن يخرج من باب العنبر ليشرب شاي في حديقة المستشفى ويشتري سجائر. أما "الوحش".. ذو الوجه البشوش ، فدخل إلى المستشفى فور إلقاء الشرطة القبض عليه بتهمة التسول، وأحالته المحكمة إلى العباسية لسوء قدراته العقلية، ويفيد تقريره العلاجي أنه يتعالج منذ 6 سنوات من فصام هستيري، وقد تحسنت الأعراض الحادة. أما هو فيزعم أنه تزوج من 14 امرأة ولا يتذكر عدد أولاده كاملين، ويقول: " ولادي الرجالة ضباط كبار في البوليس ومتجوزين وعندهم عيال .. أنا بقى لي كتير مشوفتهمش.. أكتر من 20 سنة، وبعت لمراتي عشان ييجوا يشوفوني عشان وحشوني، خصوصا البنات مشوفتهمش خالص". وعندما سألته عن رسالة يحب أن يرسلها إليهم قال: " هبوسهم من هنا ومن هنا .. هما هييجيوا في أي وقت .. أصل انا عارف بنتي الصغيرة هتشبط فيَّ وتقولي اقعد معاك". زيارة بطعم السعادة في نهاية طرف الجحود يمتد خيط من الأمل لبعض المسنين الذين يحرص ذويهم على زيارتهم ولو كل عدة أشهر مرة، هذا عم حنفي يعاني من فصام مزمن يتعالج منه في مستشفى العباسية منذ أكثر من 16 عاماً، ولكنه مدرك تماماً أن أخيه دائم الزيارة له . ويؤكد أنه سيتزوج من حور العين في الجنة لأنه لم ينل نصيبه في الدنيا بعدما بلغ من العمر 65 عاماً. مثله تماما حمدي محروس 75 عاماً، يعاني من فصام متبقي وبداية أعراض لخرف الشيخوخة، إلا أنه يتذكر تاريخ دخوله المستشفى وانتظام زيارة أخيه له . الأهل علاج من جانبها تؤكد الدكتورة إلين ثابت ،استشاري الطب النفسي ورئيس وحدة الشيخوخة بمستشفى العباسية للأمراض النفسية، أن حالات جميع المسنين السابقين يعانون وجدانياً ونفسياً من انقطاع صلة الرحم وإهمال الأهل للسؤال عنهم، مفيدة باستقرار أسرع للحالات التي يهتم الأهل بالسؤال عنهم ولو كانت زيارات غير منتظمة . وتضيف: من شدة افتقاد المرضى للجو الأسري يتهافتون على أي زائر ويعتقدون أنه من ذويهم ويسأل عليهم، والمشكلة الأكبر أن الكثير منهم فشلنا في التواصل مع أهلهم، ولدينا بعض الحالات عثرنا على أبنائهم وأهلهم وتواصلنا معهم لكي ندمج المريض في المجتمع بعد استقرار حالته، إلا أننا كنا نفاجأ بإعادة المريض إلى المستشفى في حالة أسوأ مما كان عليها، ونكتشف بعدها أنهم أساءوا للمريض لفظياً وبدنياً وقطعوا عنه الأدوية، والسبب في ذلك أنهم غير متقبلين لأب أو أم مسنة لديها بقايا مرض نفسي . وتتابع: غالباً ما يعاني المسنون في المستشفى الآن بمرض خرف العجز كنتيجة طبيعية للتقدم في العمر، في هذه الحالة يكون أفضل علاج لهم وسط الأهل وإحاطتهم بالاهتمام والدفء، لأنه حتى إذا فقد أحدهم الذاكرة المعرفية المتعلقة بالأشخاص فمعروف علميا أن مريض خرف العجز وخاصة الزهايمر يحتفظ بالذاكرة العاطفية، مما يؤدي إلى هدوء حالته واستقرارها وبالتالي يكون أكثر استجابة للعلاج. وفي النهاية تفيد استشاري الطب النفسي بسهولة دمج المسنين المرضى نفسياً في المجتمع ومع أسرهم في حال استقرار حالتهم مع الانتظام في العلاج، إلا أن وصمة المرض النفسي مازالت تلاحق المسن وتجعل ذويه يتهربون منه . شاهد الفيديو: http://youtu.be/3Q1YUnC66oY كاميليا