الكتاب الذى صدر مؤخراً عن الدار المصرية اللبنانية بعنوان "الأيام الأخيرة لنظام مبارك 18 يوم" لمؤلفه عبد اللطيف “المناوى” الرئيس الأسبق للتلفزيون المصرى فى 462 صفحة يعبر بصدق عن رؤية من قلب نظام مبارك لثورة الشعب فى يناير 2011. ظنى أن الكتاب قد حقق انتشاراً كبيراً فى الأوساط الثقافية نظراً لعنوانه المشوّق الذى يمنّى القارئ بسبق المذكرات فى تكثيف أحداث الأيام الأولى للثورة وجمعها فى كتاب ضخم لمؤلف اشتهر بقربه من مواقع الأحداث بقصر الرئاسة ومن رجال مبارك فى أيام أفول نظامه البائس. لكن القراءة الهادئة لتلك المذكرات أخرجتنى بمجموعة من الملاحظات والاستنتاجات التى أفنّدها فيما يلى: أولاً: ملاحظات حول القيمة التاريخية للكتاب تحمل مذكرات الأستاذ "المناوى" رؤية ضبابية عن الثورة المصرية، تراوحت بين تقدير لشباب الثورة لا يبرره الكاتب ولا يعززه بمواقف من أى نوع! وبين غيظ مكتوم يملأ صدر الكاتب من تفاصيل الثورة وأيامها وتداعياتها التى أطاحت بمبارك وحاشيته وكان هو أحد الساقطين على أثرها. فالأستاذ "المناوى" لم يكد يغادر مبنى التلفزيون طوال الثمانية عشر يوماً التى يحاول الكتاب رصدها إلا ليلبى أمراً بالانتقال إلى مبنى رئاسة الوزراء أو إلى مبنى المخابرات، إما ليجرى حواراً بالأمر المباشر! أو ليعقد لقاءً سرياً ينحاز خلاله إلى كفة المجلس الأعلى للقوات المسلحة التى راهن أنها الكفة الراجحة، وبنى على ذلك سائر مواقفه خلال أيام حصاره فى مبنى التلفزيون. المؤلف لم يدخل الميدان ولم يذب فى صفوف الملايين التى امتزجت دموعها بدمائها بعرقها، بل انشغل طوال الوقت بعدد هذه الجموع رافضاً لفكرة تجمّع الملايين بميدان التحرير، منكراً على الطاقة الاستيعابية للمكان أن تتسع لأكثر من مائتى ألف أو يزيدون فيما لا يبلغ المليون إلا ربع فى أحسن الأحوال! المؤلف أيضاً يختزل الثورة فى ميدان التحرير، ولا يفوته أن يتعرّض لماماً لمظاهرات المحافظات الأخرى كلما ضاقت به أحداث القاهرة، فأراد أن ينتقل خارجها كى لا يصبح كتابه ضيقاً حرجاً، تماماً مثل عدسة تلفزيونه التى لم تكن تطل على ميدان التحرير إلا من زاوية ضيقة بعيدة، أو هى مثبتة على كوبرى قصر النيل إن خلا من المارة والسيارات. المؤلف لم يع قيمة ودور وسائل الإعلام الحديثة "النيو ميديا" فى ثورات الربيع العربى، ولا يبدو أنه انشغل بعمل حساب على مواقع التواصل الاجتماعى أمثال "فيسبوك" أو "تويتر" ليعرف نبض الشارع المصرى، وهو ما اتضح جلياً من إسقاطه تماماً مسألة مليونيات يومى الجمعة والثلاثاء التى اتخذت من الأسبوع موقعين مركزيين توصل إليهما العقل الجمعى للمتظاهرين دونما حاجة إلى تنظيم ولا مؤامرات ولا يحزنون. أقول هذا بثقة العارف الذى شارك فى كثير من المحادثات التى ظلت تدور على الإنترنت خلال أيام الثورة الأولى، وأزعم أننى لم أقع يوماً تحت تأثير تيار أو فصيل، ولم أنقد خلف دعايات ومؤامرات لا غربية ولا شرقية. انشغل المناوى أيضاً بإحكام نظرية المؤامرة وتتبع خيوطها، والإشارة بأصبع الاتهام إلى أطراف تلك المؤامرة التى أنتجت هذه الثورة التى يشيد بها أول الأمر وآخره!!! وهكذا أفرد العديد من السطور لينال من "قناة الجزيرة" ومواقفها وموقعها من الأحداث الأولى للثورة. كذلك انشغل “المناوى” كثيراً بإبراز موقعه فى قلب أحداث مبنى التلفزيون، وأن مكتبه كان دائماً مفتوحاً للجميع، فى إشارة واضحة إلى التباسط والتواضع حتى مع سائق سيارته الذى ذكر أكثر من مرة وفى غير رواية بالمذكرات إنه اعتاد الجلوس بجواره ولم يضطر إلى الجلوس فى المقعد الخلفى للسيارة -فى المرتين اليتيمتين اللتين خرج خلالهما من مبنى التلفزيون خلال أيام الثورة- إلا لاعتبارات أمنية بدافع الخوف على حياته!. الأستاذ “المناوى” لم يكد يغادر مبناه ومكتبه المنيف المكيف صيفاً وشتاءً على حد وصفه، لكن لا يفوته أن ينقل صورة شوارع القاهرة أثناء عبوره بها لبضع دقائق كأنما خرجت من حالة حرب!، كما لا يفوته أن ينقل إلى القارئ مشاعر الأسى والأسف على ما آلت إليه هذه الشوارع نتيجة لأحداث الثورة. فإذا أراد المؤلف أن يرقص على الحبال مع حفظ توازنه، عزى هذا الخراب إلى كل الأطراف مجتمعة، بداية طبعاً بالمتظاهرين، مروراً بالنظام الذى أجرم فقط كونه تباطأ فى فهم الشارع والاستجابة له، وانتهاءً بالأيدى الخفية والطرف الثالث أو المتآمر الأجنبى حسب الأحوال!. المذكرات كان من الممكن أن تحمل توقيع "أنس الفقى" نظراً لحضوره الدائم فى الأحداث، واعتباره مركز الاتصال بين المؤلف وبين قصر الرئاسة، وهى الحلقة الوحيدة التى من الممكن أن تميّز مذكرات رجل كالمناوى عن ثورة لم يشهدها إلا من شرفة مكتبه، فإذا كانت هذه الحلقة –أعنى قصر الرئاسة- فى يد وزيره "الفقى" فماذا أضاف توقيع "المناوى"؟ واحسب أن موقع الوزير من الأحداث وموقفه المنحاز للقصر أضاع عليه فرصة البقاء فى خدمة النظام الانتقالى، كما أضاع عليه كتاباً واسع الانتشار كان من الممكن أن يحمل توقيعه كما أسلفت ولو لم يكن هو مؤلفه. لاحظت أيضاً وأنا أتصفح الكتاب أن كل من هاجمهم “المناوى” فى بلاغاته (أقصد مذكراته) تعرّض للبطش من قبل المجلس العسكرى بصورة أو بأخرى، فأما قناة الجزيرة فقد أغلقت مكاتبها بعد مداهمتها من قبل السلطات، وأما منظمات المجتمع المدنى فقد وقعت فريسة لقضية التمويل الأجنبى ونتج عنها ما نتج من تداعيات هزلية، وأما "ألتراس" النادى الاهلى فقد سقطوا فريسة لمذبحة استاد بورسعيد، وأما الطرف الثالث الذى اتخذه المؤلف طوق نجاة ليصب عليه جام غضبه، فقد كان ومازال أيقونة الحكم الانتقالى وشمّاعته التى تصلح أن تعلّق عليها كافة القضايا الغامضة، ولا أعرف على وجه التحديد أيهما أسبق بلاغات “المناوى” أم بطش الباطشين؟!. إن صحّت نظريتى فلم يسلم من البطش العسكرى أحد من المبلّغ عنهم فى مذكرات "المناوى" باستثناء الإخوان المسلمين، وأحسب أن دورهم قادم لا محالة. لم تختلف لغة “المناوى” عن لغة التلفزيون رئاسته بل اتخذ من المذكرات فرصة لتبرير لغة التخوين والاتهام بالعمالة وخلافه إما بإلصاقها إلى الاتصالات الهاتفية لمجهولين ببرامجه والتى لم تكن تظهر -سبحان الله- إلا فى تلفزيون “المناوى”، وإما بالتماس الأعذار المختلفة للمذيعين، وإما باستخدام لغة التمييز بين المتظاهرين وتصنيفهم تبعاً لما يبدو عليهم من حالة اجتماعية، فلو كان المتظاهر حسن المظهر والثياب كان من متظاهرى 25 يناير وإلا فهو عميل وأجندة!! موقعة الجمل احتلت مكاناً بارزاً وعدداً كبيراً من صفحات كتاب "المناوى" فهو يتعامل معها -كما النظام الحاكم- باعتبارها الخطأ الأهم، وبالتالى يمكن اختزال خطايا عهد مبارك فيها، ثم إذا ثبت أن المعركة مبالغ فى تقديرها، وأن طرفيها لم يكونوا إلا مجموعة من بسطاء "نزلة السمان" الغاضبين لتراجع السياحة وانقطاع أرزاقهم فى مقابل مجموعة مدرّبة من الجماعات المتطرفة، فإن الخطأ لا يعدو أن يكون سوء توفيق، وبالتالى تكون النتيجة والمحصلة الطبيعية لهذه المقدمات براءة مبارك ورجاله جميعاً من التهم الوحيدة تقريباً التى أسندتها إليهم النيابة العامة!.