الميديا الغربية على سعة حيلتها وتعدد مصادرها تتمتع بخيبة ثقيلة عندما يتعلق الأمر بأخبار داخلية تخص الوضع فى بلادنا، وتلجأ فى الغالب إلى مصادر تعيسة تنقل عنها ما تتصور أنه سبْق فريد أو فتح مبين فى كشف الخفايا وما غمض! من هذا ما فعلته صحيفة «تايم» الإنجليزية من نشر مقتطفات لكتاب قام بتأليفه عبد اللطيف المناوى، الذى عمل رئيسا لقطاع الأخبار بالتليفزيون المصرى، وكان أحد صبيان أنس الفقى النبهاء. من الأمور الداعية للدهشة أن يكتب موظف بالتليفزيون عن آخر أيام مبارك وعائلته فى القصر الرئاسى، وهو الذى كان قابعا فى مكتبه يدير المعركة الإعلامية ضد الثورة، وتبث قنواته السموم وتوزعها على شعب مصر على شكل أخبار وتقارير كاذبة مضللة، وصفت الثوار بالمخربين، ودافعت عن قتل المتظاهرين وأخفت عن الناس حجم الدسائس والمؤامرات التى كانت تحاك فى الظلام لوأد الثورة وسحق المتظاهرين. ما الذى يعرفه عبد اللطيف المناوى عما كان يحدث فى القصر؟ وما مصادره فى هذه المعلومات التى لو صحت لما أضافت أى جديد لما يعرفه الناس جميعا؟! كان من الممكن أن يكون لهذا الكلام قيمة لو أن مؤلفه أحد موظفى القصر ممن كانوا شهودا حقيقيين على سلوك العائلة الفاسدة وقت أن كانت تتقاذفهم الرياح وتعصف بسلطتهم تظاهرات شعب مصر، أما المناوى الذى حاصره موظفو التليفزيون فى مكتبه وكادوا يفتكون به وجرى تهريبه بواسطة الأمن وإخراجه من باب خلفى بعد سقوط كفيله أنس الفقى وحبيبه جمال مبارك فلا يمكنه أن يكتب عما لم يكن شاهدا عليه، وإلا عُد الأمر من قبيل الهجايص الصحفية التى لا تساوى شيئا. وكان يتعين عليه أن يكتب عن تجربته هو، لا تجربة المخلوع وحرمه. وحتى لو كانت العصفورة التى أخبرته بالأشياء التى نشرها صادقة فى ما روته له، فإنه جميعا من قبيل الأشياء العادية التى حدثت فى كل قصور الطغيان عندما اقترب منها الزحف الشعبى وأحست بالخطر يحدق بها. ثم ما قيمة أن يروى لنا عن أن سوزان مبارك كانت منهارة وحزينة وهى ترى ما شيدته وخططت له يتهاوى أمام عينيها؟ وهل يتوقع أحد أنها كانت متماسكة وسعيدة؟ فى الحقيقة إن المرء يحار فى مثل هذه الإطلالات التى يخرج بها علينا بعض من سدنة النظام ورعاة مشروع التوريث وأعضاء لجنة السياسات الذين عملوا فى خدمة أسوأ مؤامرة كانت تدبر لإجلاس جمال مبارك مكان أبيه على عرش مصر. لقد كان هناك من بين أعضاء لجنة السياسات ورجال ابن الرئيس شخص اسمه جهاد عودة، وهو أستاذ جامعى نذر نفسه وألقى بكل أوراقه فى سلة جمال مبارك، لدرجة أنه لم يتردد ذات يوم فى أن يتوعد ويهدد الدكتور البرادعى بالاعتقال. هذا الرجل اختفى عن الأنظار وغادر الصورة بعد سقوط النظام وفشل المشروع الذى رهن أيامه عليه، وهذا فى الحقيقة من المواقف التى تُحمد له وتؤكد أنه رجل لم يفقد الحياء، ومثله محمد كمال، رجل جمال مبارك الوفى الذى اختفى عن الصورة أيضا، على العكس من غيره من الذين لم يجدوا غضاضة فى التحول الفورى وتبديل الولاءات ولعن العهد البائد الذى شهد صعودهم ونجوميتهم تلك التى استندت إلى مساندة قتلة ولصوص أغلبهم يقبع حاليا فى السجون! نعود إلى السيد عبد اللطيف المناوى وكتابه الذى يحكى فيه عن أيام المخلوع الأخيرة دون أن يكون شاهدا عليها، ونذكّر السادة القراء بأن صورة صفحة النيل الشهيرة التى كانوا يطالعونها على قنوات تليفزيون الوكسة الشاملة أيام الثورة كانت من إبداعاته.. كان الميدان يفور بالأحداث ويعج بملايين المتظاهرين، والأخبار الرسمية تنقل لنا أن هناك مئات المتظاهرين يثيرون الشغب بميدان التحرير! كانت موقعة الجحش تدار بواسطة البلطجية، والتليفزيون ينقل مشهدا رومانسيا تبثه كاميرا تم تثبيتها تنقل صورة النهر الخالد والمراكب تتهادى على صفحته.. يعنى بالعربى صورة مليئة بالتضليل الإعلامى الفاضح الذى رعاه وأخرجه الأخ المناوى. وفى الحقيقة إن المرء ليشعر بالحزن عندما يرى رجلا تستطيع أن تقول وأنت مطمئن إنه مدين بوظيفته فى التليفزيون ومدين لمعرفة الناس باسمه لحسنى مبارك وعائلته، ومع هذا لا يتردد بعد أن زال سلطانهم وفقدوا النفوذ والهيلمان فى أن يفضحهم ويلتمس العودة للأضواء عن طريق سرد حكايات عن ارتباكهم وضعفهم وانهيارهم وبكائهم وخيبتهم القوية وكل ما من شأنه أن يزرى بهم ويثير الشماتة فيهم فى كتابه! وقد كنا نستطيع أن نقول إن الحاسة الصحفية ضغطت عليه والمشاهد التى رآها فى القصر كانت أكبر من قدرته على إخفائها والهمسات التى استمع إليها فى أثناء وجوده بينهم لم تترك له فرصة للصمت، ومن ثم فهو معذور فى أن يفضح أولياء نعمته.. كان يمكن أن نقول هذا لولا أنه لم يحدث بالمرة، فلا هو شاف بعينه ولا سمع بأذنه ومع هذا فقد ملك من الجسارة ما جعله يمتشق القلم ويؤلف كتابا يروى خليطا من البديهيات وحكاوى القهاوى، وكان حَريا به أن يكون وفيا لهؤلاء الناس الذين أصاب بفضلهم المنصب والصيت والثروة ولا يقدمهم قربانا للمرحلة الجديدة.