لم أكن أتصور، وأنا المواطن المحدود العلاقات الاجتماعية نظراً لنشأتي الانغلاقية الريفية إلى حد كبير أن يصلني على صفحتي الفسبوكية عدد هائل من رسائل التهنئة بمناسبة عيد ميلاد العبد لله، صحيح أن التهاني تأتي مقابل إشارة تنبيه لأصدقائي الفسبوكيين لحثهم على تحريرها، فيبادرون بشكل آلي إلى بثها إلى صديق لم يكن بينهم صداقة بالمعنى الاجتماعي الحميم الحي الذي نعرفه، ولكنها في الكثير منها قد تحمل انطباعات إيجابية من صديق تم معاشرته فسبوكياً فتأتي التهنئة بمثابة إعلان الرضا بتلك الصداقة، وفي كل الأحوال شملتني سعادة بمشاعر بشر جميل يشاركونني مناسبة خاصة، لم أكن أحتفي بها أصلاً لتركيبتي الانطوائية، ولأنني أوافق مقولة الموسيقار العظيم محمد عبد الوهاب في سؤاله الاستنكاري: «كيف أحتفل بمرور عام ضاع من عمري ؟!». ويبقى السؤال: هل كان يتصور مارك جوكربيرج الطالب بجامعة هارفارد الأمريكية وهو جالس إلى شاشة الكمبيوتر في حجرته بالمدينة الجامعية لتصميم موقع جديد على شبكة الانترنت، أنه في سبيله لتصميم موقع يجمعه بالزملاء والأصدقاء في الجامعة ليفتح لهم نافذة إنسانية بديعة للتواصل الاجتماعي لتبادل اخبار التفاصيل الحياتية المهمة والطريفة ورؤاهم وأفكارهم ومواقفهم وردود أفعالهم إزاء الأحداث العامة والخاصة أن يُلاقي هذا الموقع هذا القدر من النجاح ؟. وهل كان يتوقع ذلك الشاب العبقري وهو يضع اللبنات الاولى لموقع الفسبوك العالمي عام 2004 أن يُحقق خلال عام واحد من ظهور موقعه هذا الدخل المادي الذي بلغ 580 مليون دولار في العام الأول لانطلاق الموقع، وهل كان يتوقع أن يكون الفسبوك بمثابة برلمان عالمي لعموم البشر؟. بل الأهم من وجهة نظري أن تصير بوابته الرائعة منفذاً يدلف منها للدنيا والعالم الأرحب المواطن في دول يتم فيها النيل من بعض حقوق مواطنيه في الحصول على كل مُكتسبات المواطنة الكاملة على أساس التفرقة في الجنس أو جغرافيا وتاريخ وجوده، أو هويته الدينية، أو مكانته الاجتماعية، أو مرجعيته الفكرية؟.. في الحالة المصرية، عانينا جميعاً وعبر الحقب الأخيرة بشكل خاص من نظم حاكمة، حتى وإن لم تعمد بشكل منهجي لانتهاك حقوق المواطنة تجاه العديد من فئات مواطنيها، فإنها كانت تسمح في النهاية بما هو موجود من بشاعات في ذلك المجال، ولا تضع من التشريعات والآليات الضابطة ما يلزم للحد منها عبر العمل المؤسسي في كافة أجهزة الدولة وقطاعاتها الحكومية بما يسهم في تضييق مساحات انتشار الظلم الاجتماعي، والذي من أجل المعاناة من تبعاته كانت ثورة 25 يناير، تلك الثورة التي كان للفسبوك أيضا الدور العظيم في عمليات الحشد لتفعيلها، بتسريع آليات التواصل بين فرسان الثورة عبر فضاء إلكتروني لم يحسب حسابه رموز عالم الاسبتداد والطغيان، رغم وجود حكومة إدعت أنها «الذكية». وكان في مقدمة من شعروا بانتقاص حقوق المواطنة (وقد نختلف على مدى صحة إحساسهم أو تقديرهم لمدى الظلم الواقع عليهم)، جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتهم من أطلق عليهم «المحظورة» آنذاك وجماعات الفكر السلفي والجهادي، وأهل الجنوب والنوبة وسيناء، والأقباط،وأهل الإبداع الوطني الحقيقي، والعلماء وأهل البحث العلمي، وغيرهم كثيرون فئات تم تهميش مطالبهم إلى حد صراخ بعضهم يُعلنون فيها أنهم باتوا بشراً بلا وطن!! وكمثال أعرض لنموذج تفاعل المواطن المسيحي الفسبوكي مع الهم العام للوطن، والمشاكل المتعلقة بهمه الخاص ونضاله من أجل مطالبه الروحية والوطنية والاجتماعية لنيل كل حقوق المواطنة وكفالة الحريات العامة للجميع دون تمييز في التعليم والإعلام والتعيين والترقي وممارسة شعائره الدينية، والإسراع في وضع خطط من شأنها تغيير ثقافات دخيلة غيرت طبيعة سلوكيات المواطن المصري المسيحي والمسلم حتى بتنا نعيش في وطن تبدلت ملامح شوارعه عبر سيادة سلبيات الفكر الطائفي والمذهبي، وبدى هناك تخوفات من الاقتراب من تكرار شكل الشارع اللبناني عند تفجر مشاكله الطائفية. لقد ظل المواطن المسيحي في عصر غباوات تلك الحقب المظلمة من تاريخ الوطن مُفتقداً لتعليم تضم مناهجه فصول التاريخ الموثق للوجود المسيحي ونضالات الإنسان المصري في عصور الاستشهاد والاضطهاد، وأيضاً إبداعاته الفكرية والحضارية التي ساهم عبرها في بناء الدولة المصرية، وأيضاً افتقاده لبرامج دينية مسيحية تُبث عبر قنوات تليفزيون بلاده، وكذلك محطات الإذاعة، رغم وجود العشرات من القنوات والمحطات المركزية والإقليمية والنوعية والفضائية، فضلاً عن خلو البرامج الثقافية من فعاليات تحتفي بالتراث القبطي ومبدعيه، والإنتاج الفكري لرموزه. بعد إنشاء قنوات دينية مسيحية غير مشفرة يتم بثها عبر قمر مصري، كان رد فعل المواطن المسيحي السوي كما هو حال أخيه المواطن المسلم السوي عند ما تم السماح ببث هذا العدد الكبير من القنوات الدينية الإسلامية، أنهم رأوا أنها باتت قواعد إطلاق صواريخ طائفية على جانبي نهر الحياة والسلام لتكريس حالة انفصام الوجدان الواحد للجسد المصري الطيب الحي صاحب المرجعية الحضارية، قبل أن تتنازعه المرجعيات الدينية على طريقة فرسان التشدد. لقد كان الناس في بلادي يأملونها قنوات تبث رسائل روحية هادية للنفوس لإنشاء للتوحد الإنساني والشراكة الحياتية على أرض وطن قدم للعالم عبر ثمانية عشر ليلة ونهار في ميادين التحرير النموذج الأمثل لشعب ثارعلى كل مفاسد طغمة ظالمة هان عليها الوطن حتى كادت تقفز به وبمواطنيه إلى هوة الضياع.. ونعود لحالة المواطن المصري المسيحي، فنجد الشباب وهو يُعلن خروجه من عباءة بعض أمراء الكاتدرائية من ممارسي الفعل السياسي بدعوى حقهم في التظاهر كمواطنين مصريين استثماراً لطاقات شباب نجحوا في تربيته على طاعتهم، فتلبست المسحة الدينية مظالم المواطن المسيحي الوطنية والسياسية، بعد إصرار الأمراء على أن يرافق ثوار ماسبيرو كهنة غادروا بعض الوقت دورهم الروحي الرئيسي في الكنيسة لتزعم مجموعات من شباب أراهم أكثر وعياً ومعرفة منهم، بل منحوهم الأيقونات الدينية والصلبان لحملها في عدم وعي بأنهم بذلك يُديُنون قضية شباب يطالب بحقوق تتعلق بحلم مواطن مصري في كفالة وطن لحقوقه في «المواطنة الكاملة» وجلس الشباب المسيحي إلى أجهزة الكمبيوتر، ليتباروا في حشد جموع الأقباط والمسلمين من أبناء مصر عبر صفحات فسبوكية أراها رائعة، منها ما يحمل رسائل شديدة الوضوح لمؤسستهم الدينية، تنبه وتنتقد الأداء الإداري الكنسي وإطارات تعاملهم مع قوى المجتمع ومؤسسات الدولة، والخروج عن المعايير السلوكية العادلة في التعامل مع جماعات المؤمنين في الكنيسة المصرية، فكانت صفحة «ضد الاقباط السلفيين فى مصر»، وصفحات تحمل أوجاع المواطن المسيحي عبر حوارات شبابية رائعة مثل: «ليست قضيتنا القبطية .. بل قضيتنا المصرية» و«ثورة الأقباط» و«قضيتنا القبطية ودولة المواطنة» وأخرى تعلن غضبها من أخبار انخراط بعض الشباب السلفي المسلم في تنظيم يحمل مسمى «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» استنساخاً لنظام سعودي في الدعوة للدين وما عرف عنها من سلبيات، فيبادرون بإنشاء صفحة «هيئة الأمر بالمحبة والنهى عن الغل»، بالإضافة لإنشاء مئات الصفحات الداعمة للدور الروحي النبيل لتكوين المواطن الصالح أذكر منها «حفضل اصلي مهما حصلي» و«مصر التي تعيش فينا» و«معاً لبرلمان مصرى ضد التطرف» و«منظمة قبول الآخر لحقوق الانسان» و«ياللا نحب بعض».. واجتمعت آراء الشباب عبر مدوناتهم الفكرية ومن خلال تلك الصفحات على حتمية مقاومة محاولات أي فصيل أو تيار بعينه الاستحواذ على لجنة إعداد الدستور لتمرير مواد دستورية لا تتوافق مع الأغلبية من طوائف الشعب، لأن الدستور هو في النهاية عقد اجتماعى بين الحاكم والمحكومين يدوم لسنوات طويلة، ولا ينبغي أن يرتبط إعداده بالأغلبية البرلمانية، وإنما يرتبط بمدى تمثيل كل أطياف الشعب السياسية والثقافية والدينية، ويجب أن يخضع للتوافق وأن يشمل كافة الفئات لإصداره بما يتوافق مع الجميع دون الارتباط بأغلبية النواب في المجالس النيابية، التى ربما تتغير غدا وتصبح أقلية، وبالتالى فمنظور الأغلبية لا ينبغي القياس عليه، وإنما الدستور يجب أن يتضمن مواد أساسية تتفق مع حقوق الإنسان وكفالة الحريات العامة، والتي منها حرية الاعتقاد، وما يكفل سيادة القانون وتفعيل أطر المواطنة ونبذ أى مواد تمييزية.