بشرته القمحية التى تميل للاحمرار -كالجرانيت- توحى بكل معانى الصلابة، وملامح وجهه قريبة الشبه بصعيد مصر فكلاهما يجمع بين البراءة والقوة والقسوة، أما اسمه فهو «حمام على عمر» الذى كرر خلال عام 2017، حدثاً وقع فى القرن الثالث قبل الميلاد، فاستحق لقب «الفلاح الفصيح». قبل 5 آلاف عام، توجه فلاح مصرى من وادى الملح بمصر الوسطى إلى قصر حاكم البلاد - ليشكو من ظلم أحد الأمراء، فلما وصل لقصر الحكم حاول الحراس أن يمنعوه، ولكنه نجح فى الوصول للحاكم، وعندها حاول الكهنة أن يسكتوه، إلا أنه انطلق فى شكواه بشكل جعل الحاكم يسمعه بإنصات «خونا نوب»، هذا هو اسم الفلاح الذى خلده التاريخ الفرعونى، ومنحه لقب «الفلاح الفصيح».. ويسجل التاريخ لهذا الفلاح حواره كاملاً مع الحاكم، منذ هتافه الأول «يا فرعون الوادي.. يا أعظم العظماء يا عادل أنت هنا فى الأرض توجه كل الأشياء.. وأنا فلاح من وادى الملح أتيت لكى أرفع لمسامعك الملكية شكواى هل تسمع لي؟.. فسأله الفرعون: ممن تشكو؟.. أجاب الفلاح: «أخذ أمير البلدة كل حميرى والمحصول. ثم رمى بى فى السجن حين صحت أطالب بحميرى هذا ما يجعلنى مفزوعاً مما حولي.. مفطور القلب كسير».. همهم الكهنة على أمل أن يغطى أصواتهم صوت الشاكى الفصيح، ولكن الحاكم أسكتهم وظل ينصت لشكوى الفلاح حتى انتهى منها، وبعد 5 آلاف عام من هذه الواقعة خرج فلاح مصرى من مصر العليا، من قنا.. اسمه «حمام على عمر».. وقف فى حشد من كبار رجال الدولة، وكرر بشكل مشابه لدرجة مدهشة ما فعله «خونا نوب» وهتف موجهاً حديثه لرئيس الدولة الذى كان يشارك -وقتها- فى افتتاح عدد من مشروعات الدولة فى صعيد مصر «يا ريس.. فيه كلام مش صحيح اتقال عنا.. وإحنا اتظلمنا».. كانت صرخته مدوية، فرضت الصمت على الجميع، وبعد لحظات حاول بعض رجال الدولة تكرار ما فعله الكهنة فى القرن الثالث قبل الميلاد.. حاولوا أن يسكتوا «حمام»، ولكن الرئيس أسكتهم جميعاً وطلب من «حمام» يصعد إلى منصة المتحدثين، ويتكلم بكل ما يريد أن يقوله. وتكلم «حمام» لما يقرب من نصف ساعة، أمام الرئيس، فنقل له شكوى أهل قريته المراشدة.. وكما بدأ الفلاح الفصيح قديما شكواه بدأ «حمام» شكوى قريته فقال موجهاً كلامه للرئيس «أقسم بالله لو وضعت محبتك ومعزتك فى كفة ميزان وجميع التحديات والصعاب والمشكلات فى كفة لرجحت محبتك.. فقرنا لا يقف ضد محبتك». وواصل: «نحن نحبك ويحسبنا الجاهل أغنياء من التعفف ولكن كان لا بد من أن نقول لك الحقيقة».. وبعدها انطلق «حمام» فى شكواه فشكا الظلم الذى تعرض لها أبناء قريته على مدى عقود طويلة، وشكا من حرمانهم من جميع الأراضى المستصلحة فى زمام قريتهم، رغم أنهم قدموا كل المستندات اللازمة التى تؤكد أحقيتهم فى تخصيص تلك الأراضى، ولكن المسئولين خصصوا أراضى القرية لمستثمرين أجانب ومصريين، وحرموا منها أبناء القرية.. وبمرارة السنين قال «حمام» «إحنا فى المراشدة كنا من أكثر 10 قرى فقرا فى العالم، لولا وجود الهجان والقوات المسلحة كنا موتنا بعض من الجوع، وكان الأغنياء موتونا». وإذا كان التاريخ لم يكشف ما إذا كان الحاكم قد استجاب لطلب فلاح الفراعنة الفصيح، ورفع عنه الظلم ورد إليه ممتلكاته، أم أن الأمر توقف عند مجرد الشكوى، أما الفلاح الفصيح طبعة 2017، فكان أفضل حظاً، فبمجرد أن انتهى من شكواه، صدر القرار الرئاسى بتخصيص أراضٍ جديدة لكل مستحقى قرية المراشدة.. التقيت آخر طبعة من الفلاح الفصيح، وسألته عن سر تسميته «حمام» فقال ضاحكاً: السر عند أبويا الله يرحمه، فهو من أطلق علي هذا الاسم.. وواصل دون أن يقطع ضحكته: «لو سألتنى الآن تحب يكون اسمك إيه؟ فسأقول أحب أن يكون اسمى «حمام».. سألته: لماذا؟.. فقال «لأنه كان اختيار أبى». بهذه الفلسفة الغارقة فى الأصالة يعيش «حمام على عمر» فى قرية المراشدة منذ ميلاده عام 1960.. ورغم حصوله على بكالوريوس الخدمة الاجتماعية، ورغم رئاسته مجلس إدارة شباب قريته، إلا أنه لا يزال يتمسك بزراعة أرضه، وقضاء أطول ساعات ممكنة وسط زراعاته.. ويقول: «3 أشياء لن أتخلى عنهم إلا بالموت.. صلاة الفجر فى جماعة.. وقضاء يومى وسط زراعتى.. وقراءة شيء قبل أن أنام.. أحيانا أقرأ جريدة قديمة أو حديثة لا فرق، وأحيانا أقرأ جزءاً من كتاب ولكن لازم أقرأ شيئاً قبل أن أنام» سألته: هل أسعدك أن الكثيرين اعتبروك الفلاح الفصيح لعام 2017؟.. فابتسم خجلاً ونظر إلى الأرض، وقال: «طبعاً أسعدنى هذا الوصف، خاصة بعدما صدر من قامات كبيرة فى مصر، منهم الكاتب الكبير يسرى الجندى، الذى قال عنى إننى جمعت ما بين الفصاحة والفلاحة، تماماً مثلما فعل الفلاح الفصيح فى القرن الثالث قبل الميلاد، وتبقى سعادتى الأكبر بأننى لم أخب ظن أبناء قريتى وقلت للرئيس كل ما كانوا يريدون قوله. واستعاد «حمام» ذكريات ما جرى أثناء لقاء الرئيس السيسى فى مايو الماضى فقال: «لم أخطط للحديث أمام الرئيس، ولكنى اتخذت القرار فجأة خلال اللقاء، خاصة بعدما سمعت كلاماً من بعض المسئولين غير دقيق، فقررت أن أقول الحقيقة كاملة للرئيس». وواصل: «أهالى المراشدة ينتظرون زيارة رئيس مصر منذ 50 عاماً، حيث كان مقرراً أن يزور الرئيس عبدالناصر قريتنا عام 1967، ولكن ظروف الحرب مع إسرائيل منعت إتمام الزيارة، وفى عام 1980 كان مقرراً أن يزور الرئيس السادات القرية أثناء زيارته مصنع سكر دشنا، الذى لا يفصله عن «المراشدة» سوى مجرى نهر النيل، واستبشرنا خيراً بالزيارة الموعودة خاصة بعدما تم تشييد مطار داخل القرية لتهبط به طائرة الرئيس، ولكن طائرة الرئيس وقتها هبطت مباشرة فى مصنع السكر، ولم يمر الرئيس السادات علينا، وفى عام 1994، كان الرئيس مبارك فى زيارة لمصنع الألومنيوم بنجع حمادى، وفى طريقة مر على القرية مستقلا سيارته، ورغم أن الناس اصطفوا على طول الطريق لاستقباله والترحيب به، إلا أنه اكتفى بالتلويح لهم بيديه، أثناء مرور سيارته بالقرية، وأخيرا تحقق حلمنا وجاءنا الرئيس السيسى، بعد 50 عاماً من الانتظار، وما كان لى أن أفوت هذه الفرصة دو أن أقول للرئيس شكوى وأوجاع أبناء المراشدة». عدت أسأل «حمام على عمر»: «هل تسلمتم الأرض التى وعدكم بها الرئيس؟.. فقال «الرئيس وعد بتخصيص أراضٍ لكل المستحقين من أبناء المراشدة، وتبين أن المستحقين للأراضى من أبناء القرية عددهم ألف مواطن، وجميعهم قدموا طلبات مشفوعة بالأوراق المطلوبة، وتم إنهاء جميع إجراءات تخصيص 2500 فدان لهم، وسيتم تسليمهم الأراضى خلال الأيام القادمة». سألت عن أحلامه فى عام 2018 فقال: «أحلم لمصر بأن يتم القضاء تماما على الإرهاب فى عام 2018، وأن يتوحد المصريون جميعاً يكونون أكثر يقظة وانتباهاً وهم يواجهون شياطين الإرهاب.. وأحلم لإخوتى الفلاحين بأن ينعموا جميعاً بتأمين صحى واجتماعى شامل خلال العام الجديد، وأن يعود المرشدون الزراعيون لمد يد العون لنا ، كما كان الأمر فى الخمسينات والستينات، ولن يتم تسويق المحاصيل الزراعية بشكل يعود بالنفع على الفلاح، ويساهم فى خفض الأسعار، وهذا يتم بأن تتولى شركات حكومية شراء جميع المحاصيل من الفلاحين وتتولى بيعها للمستهلكين، وهو ما يقضى على جشع أغلب تجار الجملة وتجار التجزئة الذين يتربحون ما بين 100% و300% فقط لأنهم نقلوا المحاصيل الزراعية من الحقول إلى الأسواق ولو تم تنفيذ هذه الفكرة فستنخفض أسعار جميع السلع إلى النصف على الأقل». وواصل: «أحلم أيضاً بأن ننجح نحن فلاحى مصر فى أن نحقق الاكتفاء الذاتى من كل المحاصيل، وأن نزرع زراعات آمنه خالية من الملوثات، وأحلم بألا تفرق الحكومة فى صرف الأسمدة الزراعية ما بين الأراضى القديمة والأراضى الجديدة، فأغلب فلاحى المراشدة يذوقون المر للحصول على الأسمدة، بعد أن تمت التفرقة بين من يزرعون الأراضى القديمة ومن الأراضى الجديدة، فبنك التنمية لا يصرف أسمدة سوى لمزارعى الأراضى القديمة، أما مزارعو الأراضى الجديدة، فيرفض ذات البنك صرف أسمدة لهم ويحيلهم للتعاون الزراعى، الذى يستلزم شراء الأسمدة من مخازنه التى تبعد عن قرية المراشدة بحوالى 50 كيلو متراً». وقبل أن أنهى لقائى مع الفلاح الفصيح طبعة 2017 سألته: هل تغيرت معاملة الناس لك بعد حديثك للرئيس؟.. فقال: الحمد لله أهل المراشدة يحبوننى قبل حديثى للرئيس وبعده، أما المسئولون فتعاملهم معى تغير بعد حديث الرئيس. سألته: عمن يقصدهم بالمسئولين وهل تغيرت معاملتهم سلباً أم إيجاباً؟.. فقال «إيجاباً طبعاً».. ثم سكت رافضاً تحديد أسماء أياً من المسئولين وقال «بلاش أسماء». وربما كانت المفاجأة الكبيرة فى حياة «حمام على عمر» هو أنه لم يتزوج حتى الآن.. ولما سألته عن السر فى ذلك، أجاب بمثل صعيدى معناه أن من يقضى يومه كل فى العمل المتواصل، لن يجد وقتاً لكى يصبح زوجاً وأباً. سألته: عما يشغله حالياً؟.. فقال: سد النهضة.. ودفعتنى إجابته لأن أسأله: وبرأيك كيف نواجه الأزمتين؟.. فقال: «سد النهضة يحتاج من الحكومة أن تستعين بالقوى الناعمة لمصر، وأن تشتغل هذه القوة فى كسب تأييد دول حوض النيل لمطالب مصر، أما القدس فتحتاج إلى القوة الغاشمة من الشعب المصرى، فإنقاذ القدس بيد الشعب المصرى وليس الحكومة، ويجب أن ترى إسرائيل وأمريكا من الشعب المصرى نفسه رداً قوياً على اعتراف ترامب بأن القدس هى عاصمة إسرائيل، فعلى كل مصرى أن يقاطع كل البضائع والسلع الأمريكية، وعلينا - كشعب - أن نطالب بأقصى ما نملك من قوة بطرد السفير الأمريكى من مصر وتجميد علاقاتنا مع إسرائيل حتى تتراجع أمريكا عن قرار ترامب العدوانى. قبل أن أترك الفلاح الفصيح طبعة 2017 سألته عن الحكمة الأساسية التى يؤمن بها فى حياته: فقال دون تفكير «اعمل واجتهد وثق بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً».