بمناسبة الحديث الذي يدور حالياً عن تقديم مشروع قانون جديد لتنظيم السلطة القضائية أو تعديل القانون الحالي، وما قد يتضمنه الدستور الجديد بشأن تنظيم الهيئات القضائية، أود طرح مجموعة أفكار يتعين مناقشتها ضمن محاور التنظيم القضائي في مصر وهي الحد المعقول لهيكلة المنظومة القضائية بشكل سليم وأتمنى أن تكون مقبولة لدى القائمين على أمر التشريع، وأوجهها بالأساس لرئيس وأعضاء مجلس الشعب صاحب السلطة التشريعية ثم للقائمين على الهيئات القضائية في مصر وكل المهتمين بهذا الشأن الجليل، داعياً الجميع أن تكون المصلحة العامة هدفهم الوحيد، واستبعاد المصالح الخاصة لكل هيئة أو للقائمين عليها أوالمستفيدين من الأوضاع غير السليمة. أولاً: أن يتم بحث التنظيم القضائي المصري قبل تعديل أي قانون من قوانين الهيئات القضائية، وهل الأصلح الأخذ بفكرة القضاء الموحد أم بفكرة القضاء المزدوج؟ ونرى أن الأخذ بالقضاء الموحد مع وجود محاكم أو دوائر متخصصة هو الغالب حالياً في معظم تشريعات العالم، ويبعدنا عن تعارض المبادئ القضائية بين جهات القضاء، وهو أمر صادم للعدالة، كما يتلافى إشكاليات تنازع الاختصاص السلبي أو الإيجابي والذي يستمر بالخصومة لعشرات السنين ويئن منه المتقاضون بالمحاكم العادية والإدارية في مصر. ثانياً: بعد تحديد النموذج القضائي، نرى ضرورة إعادة النظر في اختصاصات الهيئات القضائية القائمة، بحيث تسهم جميعها في إقامة العدل بطريقة ناجزة، فالعدل البطئ من ضروب الظلم، كما يجب تلافي ازدواج العمل بين تلك الهيئات وغيرها من المصالح بالدولة، فلا يُقبل أن يقوم القضاة بالإفتاء لجهات الإدارة، أو صياغة التشريعات كما هو متبع حالياً بمجلس الدولة، فذلك عمل قانوني وليس قضائياً ويمكن أن يُسند إلى إحدى إدارات وزارة العدل وهناك بالفعل إدارة للتشريع بوزارة العدل، كما تختص الشؤون القانونية في كل المصالح بمهمة الإفتاء لتلك المصالح، وهو اختصاص أصيل لتلك الإدرارات، ومن شأن قيام مجلس الدولة بالإفتاء ازدواج للعمل القانوني وإهدار للأموال بلا طائل، كما أنه من إهدار الجهد والمال أن تقوم هيئة قضايا الدولة بالدفاع عن الدولة في حين أن الإدارات القانونية بالوزارات والجهات المختلفة يمكن أن تقوم بذلك، وتقوم به بالفعل في الهيئات العامة، وأيضاً قيام النيابة الإدارية بالتحقيق في المخالفات الإدارية وإصدار توصيات غير ملزمة وهو ما تقوم به الإدارات القانونية بالوزارات والجهات المختلفة، فإما أن يُسند لهيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية اختصاصات وصلاحيات حقيقية في إقامة العدالة ومواجهة فساد الجهات الإدارية ومنحهما الاستقلال الكامل لمواجهة السلطة التنفيذية، أو أن يتم نقل اختصاصاتهما إلى الإدارات القانونية وتفعيل عمل هذه الإدارات باعتبارها الأكثر عدداً ومعرفة بموضوعات جهاتها. وسيتيح الأخذ بهذا التوجه إمكانية الاستفادة بمستشاري قسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة في الفصل في القضايا الإدارية المتراكمة منذ سنين بمحاكم القضاء الإداري، والاستفادة بمستشاري هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية في تدعيم القضاء وحل مشكلة تراكم القضايا الموجودة بالمحاكم بمختلف درجاتها دون أن تكلف الدولة بأية مبالغ، إذ سينتقل هؤلاء بدرجاتهم المالية، وعلى العكس سيتم توفير مبالغ طائلة يتم صرفها على الجوانب الإدارية والرئاسية لكل هيئة، كما سيتم الاستفادة من مقرات الهيئتين كمحاكم أو قاعات تحقيق بما يحل مشاكل بُعد المحاكم عن المتقاضين في كثير من الأماكن، ويتفق هذا التوجه مع ما ينادى به تيار الاستقلال بالقضاء. ثالثاً: حال الإبقاء على الهيئات القضائية الحالية، أقترح دمج تشريعاتها في قانون واحد يعد قانونا إطارياً يشمل القواعد المشتركة لتنظيم هذه الهيئات ويساوي في الحقوق والواجبات والاستقلال والحصانة والمزايا المالية بين الجميع حتى لا يكون هناك تفاوت في هذه المزايا يثير الخلافات والفرقة أو عدم الرضا كما هو الحال حالياً وهو أمر يعيق العدالة، فبيئة العمل المناسبة تهيئ للقاضي الظروف المناسبة للعمل وإقامة العدل. وجمع الإطار المشترك للهيئات القضائية في قانون واحد هو ما يتفق والمماراسات العالمية، فلا توجد نظم قانونية في العالم تتبعثر فيها تشريعات تنظيم القضاء هكذا، فالنموذج الانجلوسكسوني لا يعترف بوجود قضاء مزدوج ولا نيابة إدارية ولا هيئة للدفاع عن الدولة ولذلك ينظم القضاء لديه في قانون واحد، وهو ما تتبعه معظم تشريعات العالم حالياً، أما النموذج الفرنسي الذي نتبعه فهو مختلف عن واقعنا، فمجلس الدولة الفرنسي بدأ جهازاً تابعاً للسلطة التنفيذية ولذلك ينظمه قانون مستقل، كما أن المجلس الدستوري هناك مجلس تشكيله سياسي وقضائي في آن واحد، ولا يعد ضمن السلطة القضائية، وفي مصر الوضع مختلف فالمحكمة الدستورية ومجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية كانت وما تزال جزءاً من التنظيم القضائي في مصر. . رابعاً: يتعين إعادة النظر في التعيين في الهيئات القضائية بأن يكون بمعيار التفوق العلمي فقط، وأن يقتصر الرأي الأمنى على الشخص وأقاربه حتى الدرجة الثانية أو الثالثة، ويتم استبعاد كافة المعايير الفضفاضة مثل المقابلة الشخصية وغير ذلك من وسائل أضاعت الحقوق وتسلل منها من لا يصلح للقضاء، ومعيار التفوق العلمي على الرغم من بعض عيوبه هو الأصلح للتطبيق، وبه التحق نوابغ القضاء في مصر بالهيئات القضائية، وبغيره انحنى مؤشر القضاء بمصر لطريق غير سليم. خامساً: يتعين منح الهيئات القضائية استقلالاً غير منقوص عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو ما تنادي به مواثيق حقوق الانسان العالمية وأصبح من المسلمات في الدول الديمقراطية، فمن حقوق الفرد الطبيعية أن يتم محاكمته أمام قاضٍ مستقل غير تابع لأي سلطة أو يمكن التأثير عليه. وقد أدى الاستقلال المنقوص للهيئات القضائية إلى التأثير عليها فأصبحت النيابة العامة وهيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية أدوات للسلطة التنفيذية في كثير من الحالات، بل وأصبح مدخلاً للتأثير على القضاة سواء في القضاء الدستوري أو العادي أو الإداري في حالات يعلمها الجميع ولا داعي لتكرار ذكرها. وعلى الرغم من استبسال القضاة وأعضاء الهيئات القضائية في الكثير من الحالات في أداء دورهم وما قد يتعرضون له في سبيل العدل من بطش أو حرمان من مزايا فإن البعض لا يستطيع التحمل إما طمعاً في المزايا أو خوفاً من البطش، وهذا ما يدعو لتشريع دستوري وقانوني يكفل الاستقلال التام والحصانة الكاملة لجميع أعضاء الهيئات القضائية على قدم المساواة بما يكفل لهم إقامة العدل دون ترغيب أو تهديد. سادساً: ومن قبيل الاستقلال والمساواة أرى إلغاء كافة صور الندب لجهات حكومية بما يحمله من مساوئ وإحساس لدى المتقاضين بعدم حياد القاضي، وهو ما ينادي به غالبية رجال القضاء في مصر. وفي ذات السياق، أري أن يتم النص على عدم جواز تولي رؤساء وأعضاء المجالس العليا بالهيئات القضائية لمناصب حكومية أو تعيينهم في مجالس نيابية لمدة ثلاث سنوات بعد ترك الخدمة حتى لا يكون ذلك مدخلاً للتأثير عليهم ومكافأتهم على ولائهم للسلطة التنفيذية. هذه المقترحات تدور في خٌلد الغالبية العظمى لمستشاري الهيئات القضائية وفي نقاشاتهم ونواديهم، وينادي بها تيار الاستقلال بالقضاء، ومن شأن الأخذ بها وضع ضمانة حقيقة للشعب في ديمقراطية صحيحة تقف على ركائز سلطات متوازنة لا يجور بعضها على بعض، وتحقق العدالة السريعة للمتقاضينن وترشيد للإنفاق بحيث يتم الاستفادة بكافة الخبرات القضائية في أعمال غير متكررة مع جهات أخرى، وهي في النهاية تتفق مع المطبق في دول العالم المتقدمة، ولا ينبغي أن نعيش أبد الدهر في نظم خاصة بعيدة عما هو قائم بالعالم نتلقى انتقادات ديمقراطية وحقوقية ونهدر أموالنا ولا نحقق العدالة المنشودة، وهو ما أوصت به لجنة صندوق النقد الدولي لترشيد الإنفاق وترشيد الإجراءات في مجال التقاضي منذ عشرين عاماً، فأرجو النظر إليها ودراستها بعين الاهتمام. ----------------- بقلم- الدكتور/ مظهر فرغلي علي محمد مستشار بهيئة قضايا الدولة ومعارحالياً كمستشار قانوني لهيئة الأوراق المالية والسلع بدولة الإمارات العربية المتحدة.