في هذه الأيام، أيام ثورة التغيير. يدور الحديث عن نظرية الدولة المدنية، وأول الخيط في هذا الموضوع هو الإنسان الفرد باعتباره الوحدة الأولية للجماعة السياسية، والإنسان الفرد يتناول صراعه مع الحياة في دوائر زمنية ثلاث تتداخل فيما بينها، دائرة ماض يعرف بعض عنه بالنبش في ذاكرة احتمالية يطغي عليها الحدس الإيماني، ودائرة حاضر يعيشه بحواس تطغي عليها المعرفة العلمية، ودائرة مستقبل يصنعه بأحلام يطغي عليها الحدس الإيماني مرة أخري، ولفهم السلوك السياسي للإنسان يلزم التفرقة بين الإيمان والعلم. الإيمان منهج ذاتي فردي لتفسير العالم يعتمد علي الحدس والأحلام والمصادرات العقلية، فالإيمان بأن البشر قد خلقوا من نطفة حصان يلزم تفسير الوجود البشري بناء علي مصادرة وجود هذا الحصان، والإيمان بأن آدم أبوالبشر يلزم تفسير الوجود البشري بناء علي مصادرة وجود آدم، هكذا تتعدد التفسيرات بتعدد المصادرات ويبقي الإيمان كمنهج فردي صالح في نظر المؤمنين لتفسير الأحداث في الماضي والحاضر والمستقبل، هذه الصلاحية مستمرة بقدرها ما يحققه الإيمان من مصالح فردية للفرد المؤمن. العلم منهج موضوعي جماعي للمعرفة يعتمد علي البديهيات العقلية والحواس الغريزية في تفسير وفهم العالم، تتساوي عنده الفروض مع المصادرات ويقبل مناقشة الجميع، العلم منهج يسمح للفرد البشري بتخزين المعرفة ونقلها إلي غيره من البشر متجاوزاً إمكانيات الأفراد الخاصة والمتباينة بسبب حياتهم في موطن جغرافي بذاته أو قبيلة اجتماعية بعينها، هكذا يبقي العلم كمنهج جماعي هو المنهج الأكثر ديمقراطية لتفسير كل من الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، لأن الإيمان منهج ذاتي فردي فهو لا يقبل الاعتراف بمنهج الآخر في المعرفة حتي ولو قبل فكرة التصالح إلي حين مع ذلك الآخر، فكل دين هو منهج إيماني ناسخ لغيره من الأديان، هكذا لا يمكن تعميم المصادرات الدينية كمصدر وحيد لمعرفة الحياة والتعامل معها، ويبقي المنهج العلمي منهج معرفة موضوعية تصل إلي الجماعات المتباينة ثقافياً، ويعترف بوجود مناهج أخري محتملة للبحث عن المعرفة. في العصر الحاضر يعيش البشر في كيانات سياسية يتعاظم حجمها مع أسرة إلي عائلة إلي قبيلة إلي الدولة، إحدي النظريات لتفسير وجود الدولة هي نظرية العقد الاجتماعي، ويري أصحابها أن الدولة كائن مستقل أجري عقداً مع الجماعات المكونة له علي ضمان الحريات وتأصيل الحدود بين الحقوق والواجبات علي أساس قانوني من الأهلية والكفاءة، هذا العقد يوضع في دستور فوقي ثابت تنبع منه جميع القوانين التي تقود النسق المعرفي العام للجماعات المكونة للدولة، هذه النظرية تفترض الكفاءة والأهلية لتحمل مسئولية العمل بالدستور. هناك نظرية أخري تفسر سبب وجود الدولة، وتري أن حب الإنسان للحياة هي الأساس لوجود الأشكال المتباينة من صور الجماعات البشرية، هذه النظرية تراعي حركة الجدل البشري مع الحياة باعتباره أخذاً وعطاءً، نظرية حب الحياة هذه لا تقيم وزناً للفصل التعسفي بين حرية الجماعة وبين حرية الفرد. وتري أن جدل الإنسان هو الذي يضع حد التوازن بين البشر، هذا الجدل قائم علي محصلات قوي ليست بالضرورة متصارعة، وعليه يصبح هناك جدل ديمقراطي بين الشمول الفكري تمارسه الجماعة الغالبة وبين التكلس الفكري تمارسه الأقلية. الآن فروض التقدم في البيئة الحضارية للجماعة السياسية، تتطلب وجود دولة مدنية لها دستور يفصل بين أديان الجماعات والطوائف وبين سلطات الدولة، حيث يكون للمواطنين حريات الانتقال والاعتقاد والعمل في دولتهم، ويكون للدولة سلطات مدنية علي مواطنيها تنسق بين حرياتهم علي أسس من العدل والمساواة، دون تمييز بسبب لغة أو ثقافة أو دين أو جنس. [email protected]