عادت من مدرستها مقرحة العينين من أثر بكاء، انزوت فى غرفتها ترفض أن تحادث أحدا وتظاهرت بالنوم الذى جافاها، رافضة طعام الغداء، وتظاهرت أنا بتجاهل حالتها حتى المساء، موعدنا الذى صار يوميا - منذ عدت لمصر- مع كتب المدرسة العقيمة المثقلة بالمصطلحات والمعلومات والتواريخ وكل شىء «من قبيل الحشو»، واستقطبتها أولا ببضع حكايات عنى أيام طفولتى ودراستى ومشاكلى مع زميلاتى، وإذا بها تنفجر فى البكاء، وتخبرنى بما حاولت إخفاءه نهارا، لقد تخاصمت مع زميلاتها المقربات بالفصل، كانت الفتيات - لم يتجاوزن الثانية عشرة - تهمسن بقصص حول الحب وعلاقة كل منهن بقريب أو جار، سواء عبر الزيارات الأسرية أو الهاتف أو حتى الشات والميل، وعندما سألتها عن قصتها، قالت «لا أعرف أحدا» واعتقدن أنها تخفى أمرها، وزاد غضبهن عندما قالت «الكلام ده عيب لما نكبر نبقى نتكلم فيه»، واعتبرن كلامها إهانة لهن، وتركنها بمفردها ليكملن همس «الجوارى»، ولتذهب الظنون بعقلها الصغير، فتعتقد تارة أن بها نقصًا أو عيبًا، أو أنها ليست جميلة بما يكفى لجذب قصص الحب واهتمام الصبية والمراهقين. هكذا يا صغيرتى، ضممتها لصدرى بقوة وتذكرت فيلم المراهقات، أفرغت فى أذنيها كل ما خبرته عن حكمة أمى رحمها الله، بأن العيب ليس فيها بل فيمن تفتحت أعينهن قبل الأوان، أخبرتها أن الفتاة كالزهرة تموت وتذبل لو عبث بها العابثون، وأن مشاعرها يجب أن تبقى طاهرة حتى السن المناسبة، و.... وكلمات كثيره اختتمتها بنصيحة الابتعاد عن تلك الفتيات، قلتها وأنا أعلم أنها ستضطر للابتعاد عن كثير منهن الآن وغدًا، قلتها وأنا أنظر حولى، فى مجتمعى الذى فررت إليه عائدة من مهجر أوروبى خوفًا على فلذاتى فلا يضيعوا، فإذا بى فى مجتمع لم يعد يختلف كثيرا عن الغرب، بل استشرى به ما هو أشد وألعن.. الكذب والنفاق. أنظر إلى الشوارع التى تتأبط فيها المراهقات أذرع الصبية فى مشاهد لقصص حب لا أعرف كيف يشعرون بها أو ابتكروها، وأرى الانحلال الأخلاقى قد تجاوز المناطق المظلمة والشوارع الهادئة فتحولت معظم شوارعنا إلى ما يشبه غرف النوم، فتيات صغيرات وصبية يسهرون معا إلى ما بعد منتصف الليل على المقاهى وبين أيديهم الشيشة التى صارت صرعة العصر، وأتساءل، ألا يسأل عنهم أب..؟! ألا تقلق عليهم أم أطالع أفلامنا السينمائية والمنقولة حرفيًا أو تحريفيًا عن أفلام الغرب، فأرى بها قصصا للحب بين الأطفال، ومغامرات لصبية من أجل الفوز بقلب طفلة، ولا أرى فيلمًا واحدًا يقدم نموذجًا لأسرة مصرية سوية، ليس بها مجرم أو مدمن أو ساقطة، أو أب خائن أو عاشقة فى الحرام، أراقب أفلام الكرتون المعربة أو المستعربة، وأرى بها نحول الذى يحب نحولة أو زينة ويطاردها بحبه، والغول الذى يعشق الغولة، ناهيك عن اللغة الساقطة التى لا تقال إلا فى مقاهى «حشاشين»، ولا أرى بين أفلام الكرتون قصصًا يقتدى بها أطفالنا فى الأخلاق والاجتهاد العلمى والتفوق التعليمى، ولا مغامرات الكشف والرحلات، ولا قصصا فى البطولات أو الفتوحات. أرى كل هذا، فلا تصدمنى مأساة الطفلة رانيا إبراهيم خليل، وتسببها بقصة حبها وإسلامها المزعوم من أجل من أحبت فى إشعال فتنة دينية جديدة فى مصر، فرانيا ابنة هذا الجيل، ونتاج هذا الزمان الذى فشلنا فيه جميعا.. آباء وأمهات، مؤسسات اجتماعية وتربوية فى وضع أسس حقيقية سليمة للتربية، وأصبح التمسك بالدين «موضة قديمة»، والصلاة بالمسجد أو زيارة الكنيسة نوعا من التخلف، ويصنفه الأبناء بأنه نوع من فرض إرادة الآباء عليهم فيرفضون ويتمردون، فى زمن لم يعد الآباء يعرفون مع من يخرج طفلهم، ومع من يتواصل خلف الأبواب المغلقة عبر وسائط الاتصال، ومع من يتواعد، أو فى أى حديث يخوضون، بقدر حزنى على قصص العشق والغرام التى يعيشها الصغار والمراهقون خلف كل باب، بقدر حزنى على إيداع رانيا مؤسسة دار الأحداث، وهو مصير أرفضه لتلك الطفلة التى تحتاج إلى رعاية نفسية وتقويم لدى أى أسرة بديلة بمساعدة والديها، حتى لا تضيع فى الأحداث، وبدلا من قصة حب وهمية، تخرج لنا من الأحداث مجرمة أو فتاة ليل. يا سادة، دعونا نجعل زمن الثورة، بداية جديدة لعودة الأسرة المصرية إلى أصولها، وليس تحررها من جذورها، نعيد ترابطها، ولمة أفرادها، نحجم ساعات قبوع الأولاد خلف شاشات التلفاز والكمبيوتر، نفعل هذا تدريجيًا، وليس راديكاليًا، نصطحبهم فى رحلة ترفيهية أو تثقيفية، وأن تساعدنا الدولة بأن نعيد دور قصور الثقافة، ونعيد النظر فى أفلام الرسوم المتحركة، وفى منظومة الثقافة والفن والسينما، أن نبحث فى تاريخنا وثقافتنا عن القدوة، عن الشخصيات المحترمة لنقدم قصصها فى كتب وأفلام لأولادنا، أن نقدم نماذج لأسر صالحة فى السينما، و... اللهم احفظ أولادنا، واستر عورات بناتنا، ولا تفضحنا، واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك يا أرحم الراحمين.