لم يكن البيان المصرى الذى وضع «خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها فى السودان» موجها إلى ميليشيا الدعم السريع، بقدر ما كان رسالة مباشرة إلى القوى التى تحركها وتسلحها وتغذى الصراع، حتى تظل الأوضاع فى جارتنا الجنوبية الغنية بالموارد مشتعلة، بما يخدم سيناريو التقسيم. البيان، الذى صدر بالتزامن مع زيارة رئيس مجلس السيادة السودانى الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة، الخميس الماضى، وبعد تقدم للميليشيا فى مدن استراتيجية مثل بابنوسة وهجليج، وقبلها الفاشر، اعتبر أن الأمن القومى السودانى جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصرى، وحدد خطوطا حمراء لا تحتمل التأويل، فى مقدمتها وحدة السودان وسلامة أراضيه، ورفض أى كيانات موازية أو مساس بمؤسسات الدولة. أخطر ما جاء فى البيان لم يكن فقط التأكيد على حق مصر فى اتخاذ ما يلزم من إجراءات يكفلها القانون الدولى، بل التصريح بإعادة إحياء اتفاقية الدفاع المشترك التى وقعتها القاهرة والخرطوم قبل خمسين عامًا كخيار مطروح، فى رسالة صريحة بأن صبر القاهرة بدأ ينفد، وأنها لن تسمح بسقوط السودان فى قبضة ميليشيا تحركها أجندات إقليمية تتقاطع مع مشروع دولة الاحتلال الساعى إلى تطويق مصر بحزام من الفوضى. «لن تقف مصر مكتوفة الأيدى إزاء العبث بأمن واستقرار جارتها الجنوبية، ولن تظل تراقب أو تكتفى بدعوة الأطراف إلى مائدة التفاوض بينما تتواصل المأساة وترتكب الجرائم بحق الشعب السودانى»، هذا ما أراد البيان ترسيخه، بعد أن بعثت القاهرة خلال الأشهر الماضية إشارات متعددة، شملت دول جوار السودان (ليبيا، وتشاد، وجنوب السودان) ثم القوى الإقليمية والدولية، مفادها أن استمرار العبث بالحدود الجنوبية لمصر يمثل تهديدا مباشرا لأمنها القومى. وحين لم تجد تلك الرسائل صدى، جاء البيان الأخير ليؤسس لمرحلة جديدة من الصراع. ما يجرى فى السودان لا ينفصل عن مشهد إقليمى أوسع، يتكرر فيه نموذج التفتيت، كما فى اليمن، حيث يسعى قادة جنوبه إلى فرض خيار الانفصال بالقوة، وهو ما تأكد بعد سيطرة قوات المجلس الانتقالى الجنوبى على عدد من المدن فى إقليم حضرموت مطلع الشهر الجارى. ويروج قادة الجنوب، لمشروع الانفصال مقرونًا بعروض تطبيع مع إسرائيل، كما صرح عيدروس الزبيدى، رئيس المجلس الانتقالى الجنوبى، فى سبتمبر الماضى. وهو نموذج يعكس مشروعا أقدم تسعى تل أبيب إلى فرضه، يقوم على تفكيك الدول المحورية ومنع قيام أى توازن إقليمى عربى. سيناريو التقسيم والتفتيت الذى تسعى إسرائيل، بدعم غربى وباستخدام دول فى الإقليم، إلى تنفيذه، هو ما تعمل مصر على مجابهته، خاصة فى السودان، الذى تدرك القاهرة أنه يتمتع بأهمية استراتيجية خاصة بالنسبة للدولة العبرية منذ تأسيسها؛ إذ تعمل إسرائيل على الدوام على دفعه نحو التصدع، بما يخدم رؤيتها طويلة الأمد لإعادة رسم خرائط النفوذ وموازين القوى فى المنطقة. ففى مطلع ثمانينيات القرن الماضى، طرح الباحث عوديد ينون، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق آرييل شارون، رؤية لإعادة ترتيب النظام الإقليمى، بما يسمح بظهور كيانات قائمة على أسس طائفية وإثنية. تحدث ينون فى ورقة نشرتها مجلة «كيفونيم» التى تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية صراحة عن تقسيم العالم العربى إلى مجموعة من الدول الصغيرة المتناحرة، على نحو يخدم الرؤية الصهيونية الساعية إلى تحويله إلى دول هشة، يمكن لإسرائيل التحالف معها بما يخدم أهدافها الاستراتيجية فى المنطقة. ثم فى عام 2008، قال آفى ديختر، وزير الأمن الإسرائيلى الأسبق، فى محاضرة ألقاها أمام معهد أبحاث الأمن القومى: «يجب ألا نسمح لهذا البلد، رغم بعده عنا، بأن يصبح قوة مضافة إلى العالم العربى، لأن موارده إذا استقر، ستجعله قوة يحسب لها ألف حساب». وفى حفل تكريمه عام 2010، تغنى الرئيس السابق ل«الموساد» مائير داغان ب «الإنجازات» التى تمكن جهازه من تحقيقها فى عهده، وقال إنه يفخر بأن انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم، قد تم بعد جهود استخباراتية إسرائيلية مكثفة بدأت منذ عام 1956، مضيفا «لقد استغلت إسرائيل كل العوامل المفرقة بين الشمال والجنوب السودانى لتحقيق هدفها فى تمزيق دولة عربية كبيرة كانت ولا تزال لها مواقف عدائية تجاه الدولة العبرية، وتمثل عمقا استراتيجيا لمصر». أمام هذه المعطيات، يمكن قراءة البيان المصرى الأخير باعتباره إنذارًا أخيرًا، ورسالة بأن القاهرة لن تكرر أخطاء الصمت، ولن تكتفى بالمشاهدة، بعدما دفعت أثمانًا باهظة فى معارك سابقة، وفى مقدمتها معركة سد النهضة الإثيوبى الذى تحول إلى أمر واقع وصار ورقة ضغط فى يد أعدائنا وخصومنا.