هل الاستبداد ثقافة تلازم الإنسان أينما حل وارتحل؟، وهل لو استقر الإنسان في بيئة حرة يستحيل عليه أن يتخلص من إرث البيئة التي نشأ فيها، فيظل مشدودا إلى قيمها، وثقافتها، وأفكارها مهما كانت ضاربة في عمق التخلف والاستبداد؟. أطرح تلك الأسئلة بمناسبة ما تعرض له في لندن الدكتور محمد سليم العوا المرشح الرئاسي المحتمل حيث كان هناك للقاء انتخابي مع الجالية المصرية، وقد شهد اللقاء غوغائية من جانب بعض الحضور لا تليق بالمصريين في الخارج خصوصا إذا كانوا يعيشون منذ سنوات في بيئة حرة تمثل أم الديمقراطيات في العالم، وخصوصا أيضاً بعد الثورة حيث يفترض أن يكون الإنسان المصري أينما كان قد تغير وتطور للأفضل، وأصبح أكثر انفتاحاً، وتسامحاً، وسعة صدر، ونبذاً لمصادرة أفكار الآخر المختلف عنه. لكن واضح أن درجة التغيير مازالت محدودة جداً، وأن الثورة لم تحدث الأثر المرجو منها بعد، أو أن الإيمان بقيم الثورة ليس بالعمق الكافي، أو هو إيمان مزيف مثل الإيمان الديني الشكلي عند البعض. هناك جماعات شاركت في الثورة، أو ركبت موجتها، وربما لم تكن مؤمنة بالقدر الكافي بشعاراتها، ومطالبها، وبالذات قيمة الحرية التي لا تعلو عليها قيمة إنسانية. والحرية ليست شعارات فقط ، إنما هي ممارسة بلا توقف، وهي ليست لمن انتزعوها فقط، إنما لكل المصريين حتى من لم يشارك منهم في الثورة، أو من كان له موقف منها، ذلك أن الثورة تؤسس لقيم وثقافة وبيئة سياسية فكرية جديدة لكل المصريين، وللأجيال القادمة، وتضع آليات ديمقراطية للجميع، ويكون الاحتكام إليها، والالتزام بها، وعدم الانقلاب عليها يوما مبدأ نهائياً لا يتزحزح، كما في بريطانيا، وفي كل البلدان الحرة. يفترض أن المصريين في بريطانيا يعايشون رؤساء حكومات من مختلف الأحزاب السياسية، وهم يجدون البريطانيين يتقبلون نتائج الديمقراطية برحابة صدر، مرة حكومة عمالية، وأخرى محافظة، أو ائتلافية، وهكذا، والصندوق هو الفيصل، لكن بعض هؤلاء المصريين مازالوا في داخلهم مشدودين إلى ثقافة الاستبداد، وإلى البيئة التي جاءوا منها، ومازالوا بعيدين عن الإيمان الحقيقي بثقافة الحرية رغم أنهم يشاركون في العملية السياسية الانتخابية بحكم اكتسابهم الجنسية، وإلا لم يكن فريق منهم قد تعامل بفظاظة، ومصادرة فكرية، وعدم ديمقراطية، وضيق صدر وأفق مع مرشح رئاسي ذهب إليهم ليعرض أفكاره وبرنامجه الانتخابي، وبديهي أن من يختلف منهم مع العوا يكون ذلك في إطار الاحترام المتبادل، وأدب الاختلاف، بل كان بمقدوره ألا يذهب للقاعة من الأصل، أما أن يذهب لإفشال اللقاء، والتهجم عليه، وترديد شعارات إقصائية، ومحاولة طرده من القاعة فهذا أمر لا يحدث من أناس يعيشون في لندن، وقامت في بلدهم ثورة أسقطت نظاماً سلطوياً، إنما يحدث من أناس شموليين متأثرين بمناخ القمع في بكين، أو بيونج يانج، أو هافانا. في مصر سنجد من يريد أن يصادر الثورة لمصلحته، وعلى قياس أفكاره، وأهدافه، وسنجد ثواراً أشد تطرفاً، واستبداداً، مما كان عليه مبارك ورجاله، وهناك في لندن، وربما في عواصم أخرى سنجد نفس النوعية، ومنهم من حاولوا إفساد لقاء العوا، دون خجل مما فعلوه، وزادوا ثوب الثورة تشويها. لخص زميلنا مراسل "بي بي سي" المهزلة قائلا: "بعد خمس دقائق من بداية كلمة العوا، دخل القاعة، في كلية الاقتصاد الشهيرة بجامعة لندن، مجموعة من المعارضين له، وللإسلاميين، والمجلس العسكري، وطلبوا منه مغادرة المكان فورا". وقالت له سيدة بصوت جهوري مخنوق "بأي حق تفكر في ترشيح نفسك للرئاسة وأنت تؤيد المجلس العسكري الذي يرتكب الجرائم بحق المصريين". وخلال ثوان، بدا وكأنه سيناريو متفق عليه. علت أصوات من مختلف جنبات القاعة تردد بأصوات غاضبة شعارات: "يسقط حكم العسكر" و"بره ، بره ، بره العوا يطلع بره" و"مجلس عار مجلس عار اللي يعذب في الأطهار" و "العسكر والإخوان، اثنان مالهومش مكان" و"احنا الشعب الخط الأحمر لابندمر ولا بنكسر". وكان مرددو الشعارات من أعمار مختلفة. انتهى كلام المراسل .. ونقول أنه للأسف بعد أن تدخل الأمن البريطاني لإخراج هؤلاء، انبرى آخرون خلال المناقشات لإفساد ما تبقى من اللقاء حتى خرج العوا أخيراً في حماية الشرطة مما يؤكد فكرة الاتفاق المسبق على إفشال اللقاء بأي ثمن، وهي الظاهرة التي تحدث في مصر أيضاً مع مرشحين آخرين خلال مؤتمرات يعقدونها، وهو أمر لا يمكن أن يكون عفوياً، إنما هو منظم من جانب من يزعمون أنهم حراس الثورة، أو أصحابها. أي صورة يقدمها هؤلاء المصريون عن الثورة، وعن الثوار، أمام البريطانيين الذين كانوا مبهورين بالثورة المصرية، وأمام الجاليات العربية التي تعتبر الثورة المصرية نموذجا للربيع العربي سواء للبلدان التي وصل إليها، أو للبلدان التي لم تتنسم ذلك الربيع بعد. أليس متوقعا أن تقلق شعوب هذه البلدان وترفض التغيير بعد الذي تراه يحصل في مصر وتونس من فئات فوضوية هي نفسها في البلدين تريد تخريب المنجز الثوري، لأنها بلا غطاء جماهيري، ولم تتحصل على مكاسب انتخابية؟. الفوضويون المصريون في لندن يسيرون على نفس طريق الفوضويين في مصر المنكوبة بهذه الشراذم، التي تنتهج أسلوب الصخب، والإثارة، والضجيج سواء في التحرير، أو في لندن.!