قانون الإيجار القديم .. جلسات استماع للملاك والمستأجرين يومي الأحد والاثنين (تفاصيل)    تشكيل باريس سان جيرمان المتوقع أمام ارسنال في إياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    تحذير شديد بشأن حالة الطقس .. استعدوا لموجة ساخنة ذروتها 3 أيام (تفاصيل)    قرار من التعليم بشأن إلغاء الفترة المسائية في المدارس الابتدائية بحلول 2026 (تفاصيل)    بتغريدة وقائمة، كيف احتفى رونالدو باستدعاء نجله لمنتخب البرتغال (صور)    قبل جولته بالشرق الأوسط، ترامب يحسم موقفه من زيارة إسرائيل    استشهاد 25 فلسطينيا في غارات إسرائيلية على قطاع غزة    سعر الذهب في مصر اليوم الأربعاء 7-5-2025 مع بداية التعاملات    موعد مباراة تونس والمغرب في كأس أمم إفريقيا تحت 20 سنة    مباراة برشلونة وإنتر تدخل التاريخ.. ورافينيا يعادل رونالدو    تصعيد خطير بين الهند وباكستان... خبراء ل "الفجر": تحذيرات من مواجهة نووية ونداءات لتحرك دولي عاجل    ردود الفعل العالمية على اندلاع الحرب بين الهند وباكستان    تحرير 30 محضرًا في حملة تموينية على محطات الوقود ومستودعات الغاز بدمياط    كندة علوش تروي تجربتها مع السرطان وتوجه نصائح مؤثرة للسيدات    فيديو خطف طفل داخل «توك توك» يشعل السوشيال ميديا    إريك جارسيا يلمح لتكرار "الجدل التحكيمي" في مواجهة إنتر: نعرف ما حدث مع هذا الحكم من قبل    مشاهد توثق اللحظات الأولى لقصف الهند منشآت عسكرية باكستانية في كشمير    مسئولون أمنيون باكستانيون: الهند أطلقت صواريخ عبر الحدود في 3 مواقع    متحدث الأوقاف": لا خلاف مع الأزهر بشأن قانون تنظيم الفتوى    عاجل.. الذهب يقفز في مصر 185 جنيهًا بسبب التوترات الجيوسياسية    شريف عامر: الإفراج عن طلاب مصريين محتجزين بقرغيزستان    سعر التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    "اصطفاف معدات مياه الفيوم" ضمن التدريب العملي «صقر 149» لمجابهة الأزمات.. صور    «تحديد المصير».. مواجهات نارية للباحثين عن النجاة في دوري المحترفين    موعد مباريات اليوم الأربعاء 7 مايو 2025.. إنفوجراف    سيد عبد الحفيظ يتوقع قرار لجنة التظلمات بشأن مباراة القمة.. ورد مثير من أحمد سليمان    د.حماد عبدالله يكتب: أهمية الطرق الموازية وخطورتها أيضًا!!    الذكرى ال 80 ليوم النصر في ندوة لمركز الحوار.. صور    موعد إجازة مولد النبوي الشريف 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    «كل يوم مادة لمدة أسبوع».. جدول امتحانات الصف الأول الثانوي 2025 بمحافظة الجيزة    حبس المتهمين بخطف شخص بالزاوية الحمراء    السيطرة على حريق توك توك أعلى محور عمرو بن العاص بالجيزة    قرار هام في واقعة التعدي على نجل حسام عاشور    ضبط المتهمين بالنصب على ذو الهمم منتحلين صفة خدمة العملاء    المؤتمر العاشر ل"المرأة العربية" يختتم أعماله بإعلان رؤية موحدة لحماية النساء من العنف السيبراني    "ماما إزاي".. والدة رنا رئيس تثير الجدل بسبب جمالها    مهرجان المركز الكاثوليكي.. الواقع حاضر وكذلك السينما    مُعلق على مشنقة.. العثور على جثة شاب بمساكن اللاسلكي في بورسعيد    ألم الفك عند الاستيقاظ.. قد يكوت مؤشر على هذه الحالة    استشاري يكشف أفضل نوع أوانٍ للمقبلين على الزواج ويعدد مخاطر الألومنيوم    الجيش الباكستاني: ردّنا على الهند قيد التحضير وسيكون حازمًا وشاملًا    مكسب مالي غير متوقع لكن احترس.. حظ برج الدلو اليوم 7 مايو    3 أبراج «أعصابهم حديد».. هادئون جدًا يتصرفون كالقادة ويتحملون الضغوط كالجبال    بدون مكياج.. هدى المفتي تتألق في أحدث ظهور (صور)    نشرة التوك شو| الرقابة المالية تحذر من "مستريح الذهب".. والحكومة تعد بمراعاة الجميع في قانون الإيجار القديم    كندة علوش: الأمومة جعلتني نسخة جديدة.. وتعلمت الصبر والنظر للحياة بعين مختلفة    الهند: أظهرنا قدرا كبيرا من ضبط النفس في انتقاء الأهداف في باكستان    من هو الدكتور ممدوح الدماطي المشرف على متحف قصر الزعفران؟    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    أطباء مستشفى دسوق العام يجرون جراحة ناجحة لإنقاذ حداد من سيخ حديدي    طريقة عمل الرز بلبن، ألذ وأرخص تحلية    ارمِ.. اذبح.. احلق.. طف.. أفعال لا غنى عنها يوم النحر    أمين الفتوي يحرم الزواج للرجل أو المرأة في بعض الحالات .. تعرف عليها    نائب رئيس جامعة الأزهر: الشريعة الإسلامية لم تأتِ لتكليف الناس بما لا يطيقون    وزير الأوقاف: المسلمون والمسيحيون في مصر تجمعهم أواصر قوية على أساس من الوحدة الوطنية    «النهارده كام هجري؟».. تعرف على تاريخ اليوم في التقويم الهجري والميلادي    جدول امتحانات الصف الثاني الثانوي 2025 في محافظة البحيرة الترم الثاني 2025    وكيل الأزهر: على الشباب معرفة طبيعة العدو الصهيوني العدوانية والعنصرية والتوسعية والاستعمارية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمود على يكتب: «سعد» و«النحاس» فى عيون أيقونة اليسار عاشق الوفد
نشر في الوفد يوم 23 - 08 - 2017

رفعت السعيد.. استشهد جده دفاعًا عن النحاس.. وكان أبوه وفديًا متعصبًا
«زغلول».. زعامة صنعتها الأمة وانحيازه إلى مصالحها ولمبادئ الحق والعدل
«النحاس».. واجه مؤامرات الإنجليز والقصر والإخوان المسلمين و«مصر الفتاة»
يرحلان ولكنهما لا يغيبان.. يبقيان فى ذاكرة الأمة المصرية، وصفحات التاريخ أنوار مضيئة لمعالم الطريق نحو الحرية والكرامة والعدالة.. ظاهرة لن تتكرر فى تاريخ الأمة التى عشقتهما، وتغنت بهما فى أشعارها وأغانيها.. ولعقود طويلة ستبقى هذه العلاقة عصية على الفهم، كيف أحبت الأمة سعد والنحاس إلى هذه الدرجة التى وصلت إلى حد القداسة والوجد الصوفى؟ وكيف يمكن لابن «حدتو» القادم من اليسار المتطرف أن يكون عابدًا فى محرابهما، ومدافعًا أمينًا عن مواقفهما رغم التناقضات الفكرية والسياسية.
تطل ذكرى رحيل الزعيمين سعد والنحاس، فى 23 أغسطس من كل عام، حيث رحلا فى ذات اليوم، وفى مفارقة عجيبة لحق بهما أيضًا فؤاد سراج الدين فى الشهر نفسه، وتكتمل سلسلة المفارقات برحيل رفعت السعيد فى ذات الشهر.. الذى يبقى رغم أية مساحات للخلاف ابنًا مخلصًا لوطنه ولقضايا الأمة ولمبادئ الاشتراكية.
رفعت السعيد «أيقونة اليسار»، وعاشق الوفد، يقول: لست وفديًا ولم أكن.. بل ولعلى وفى غمار الخِضم المتلاطم للعمل السياسى قد اختلفت كثيرًا مع حزب الوفد وسياساته، وإن كنت قد اتفقت معه أيضًا ومع سياساته فى كثير من الأحيان، ولعلى فى كثير من تقييماتى الحالية لمواقف هذا الحزب كنت فى نظر البعض قاسيًا بعض القسوة، أو بالدقة محاولًا أن أقيس مواقفه بمقياس طبقى صارم، لا بد له أن يترك بصمات انتقادية على كل خطوة وكل موقف.
هذا الارتباط العاطفى والوجدانى بين رفعت السعيد، وزعيمى الوفد سعد والنحاس، تعود إلى جذور التربية والمناخ الذى عاشه فى أسرته بين أمه وأبيه.
فالأم ابنة شهيد تاجر أقطان اسمه «عوض سلامة»، كان وفديًا متحمسًا، استشهد فى مظاهرات المنصورة خلال زيارة النحاس الشهيرة، ضمن عشرات الشهداء الذين أقامت لهم حكومة الوفد عام 1936، نصبًا تذكاريًا فى منتزه الكنانى، ويقول السعيد: كثيرًا ما كانت الأم تصحبنا فى وقار إلى المنتزه القريب من بيتنا لتصعد أعيننا الصغيرة إلى أعلى وتقرأ "فى سبيل الوطن والحرية استشهدوا"، ثم قائمة بالأسماء من بينها «عوض سلامة».
بهذه المشاعر تجاه الوفد، عاش رفعت السعيد متأثرًا أيضًا بأبيه، الذى وصفه بأنه وفدى صميم يعتبر أن محبة النحاس، والإيمان به واحد من الطقوس الأبدية للحياة، يتنفسه ويعيشه ويقتاته، ويصل بالمحبة تجاهه إلى حدودها القصوى التى تشارف مرحلة الوجد عند المتصوفة.
كانت وطأة الاحتلال الرهيبة تخيم على النفوس والإحساس بمرارات الهزيمة والفشل يملأ كل الأفواه، والزعامات التى تحاول التواجد لتقول شيئًا لمصر، أو باسم مصر سرعان ما تذبل، أو تجبر على الانزواء والصمت مخلفة المزيد من المرارة والإحباط.. ومصر التى تذوب شوقًا إلى الثورة تتطلع برغم ذلك كله، وربما بسببه، إلى زعيم يقودها عبر المحنة ويكسر حاجز الألم والخوف، ويمنحها الشعور بالقدرة على فعل شىء.
بهذه المقدمة كان «السعيد» يمهد لزعامة سعد الذى اعتبر أن كاريزمته لم يطاولها أحد حتى «عبدالناصر»، لأن «سعد» حقق لمصر ما لم يكن يحلم به أحد وهو الاستقلال.
محاولات تشويه عديدة ومستمرة لا تنتهى للإساءة للوفد ولزعمائه، حملات كثيرة أرادت النيل من «سعد»، الزعيم والقاضى والوزير وعضو الجمعية التشريعية، ولكن «السعيد» فضح هذه المحاولات ودحضها.
فالقاضى سعد زغلول مزج بين مهنته وموقفه السياسى والمشرع، فتصدى للقانون الذى يعفى الحكومة من مسئوليتها عن أعمال موظفيها فى شأن تفاتيش الرى قائلاً: «لا يمكن أن يكون المراد بهذه الأعمال الإجراءات الاستبدادية المخالفة للعدل والقانون والمضرة بحقوق الأفراد».
ويضيف أن سعد أول صاحب حكم يقرر أنه لا عقاب على من يقذف فى حق موظف عام مستندًا لإثبات فى وقائع القذف، وأنه القاضى الذى تصدى لاستعمال العنف مع المتهمين، مشيرًا فى حيثيات حكم له إلى أن «وقوع مثل هذه التصرفات بحجة إظهار الفاعل أو كشف الحقيقة لأشد خطرًا على النظام العام من خفاء الجانى أو تخليصه من العقاب لأن لا شىء أسلب للأمن وأزعج للنفوس من أن يعبث بالنظام من عهد إليه بحفظ النظام».
فسعد لم يكن مجرد قاض بالنسبة لرفعت السعيد، ولم تكن سنوات عمله كقاض سوى مرحلة من مراحل إعداد الزعيم وتكوينه، هذا الفهم وهذا الحب والدفاع كان طبيعيًا، فهو يستعيد فى وعيه وذكرياته سنواته فى سجون عبدالناصر قائلاً: «كان طابور السجناء تحت حصار الحراس والمدافع الرشاشة والعصى والشتائم وأخيرًا الشمس والحصى الرفيع تحت الأقدام، وكان ذلك الطابور أملًا ينتظره السجناء ويعدون الثوانى ترقبًا له».
ومن خفايا التاريخ يبرز «السعيد» موقف «سعد» ودوره وزيراً للمعارف، مشيرًا إلى أنه صدر من منزله أول نداء يدعو الأمة المصرية للتبرع لإنشاء أول جامعة مصرية، ويتبرع لها بمائة جنيه، وأن جريدة «اللواء» لسان حال «الحزب الوطنى» كتبت يوم تعيينه: «إن ما يعرفه الناس من أخلاق وصفات سعد بك زغلول وهو فى المحاماة أولاً، وفى القضاء ثانيًا، يحملهم جميعًا على الارتياح لهذا التعيين الذى صادف مصريًا مشهورًا بالكفاءة والدراية والعلم الغزير وحب الإنصاف والعدل».
وما لا يعرفه الكثير أن سعد خاض انتخابات الجمعية التشريعية ببرنامج انتخابى ثورى، تضمن إصلاح النظام القضائى، وتوسيع نطاق التعليم، وضمان حرية الصحافة، وحماية مصالح المزارع وتطوير الزراعة والرى والسكك الحديدية، وهو ما اعتبره رفعت فرصة لتكريس شخصية الزعيم وتحديد هويته وانتمائه إلى مصالح الأمة، ردًا على مزاعم خصومه وأعدائه الذين اتهموه بمهادنة الاحتلال والقصر، حينما وضح وهو وكيل الجمعية المنتخبة بأغلبية ساحقة الخطوط بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بقوله: «إذا كانت الحكومة تريد أن تكون هذه الجمعية التشريعية مكتب تسجيل لقوانين الحكومة وأوامره، فأنا بصفتى مصريًا محبًا لبلادى أفضل ألا يكون لمثل هذه الجمعية أثر فى الوجود».
محطات طويلة ومعارك عديدة رصدها «السعيد»، فى مراحل تكوين وإنضاج زعامة سعد للأمة، التى يرى أنها اكتملت من خلال معاناة طويلة وتعرجات عدة، ليتحول إلى الزعيم الذى قاد الثورة التى كانت مصر تذوب لها شوقًا.
سعد أكثر كاريزما من عبدالناصر لأنه حقق لمصر ما لم تكن تحلم به وهو الاستقلال، لم يقصد «السعيد» بقوله ذلك المقارنة السطحية والساذجة بين شخصيتين أو زعيمين.. ولكنه يقين كان يستقر فى وعيه لحظة بعد أخرى، رغم تناقضات المواقف والانحيازات.. فسعد زغلول الزعيم الليبرالى القادم من صفوف اليمين وكبار الملاك الزراعيين والإقطاعيين.. انحاز له ابن اليسار الماركسى فى مواجهة عبدالناصر الزعيم القومى المنحاز إلى الاشتراكية وأفكار السعيد نفسه.. لأنها خيارات الأمة.
سعد زغلول زعيم صنعته مصر وارتضته وحددت مواصفاته، لخوض ميدان الزعامة الرحب، وليصبح أكثر زعماء مصر الحديثة شعبية ونفوذًا.. وعزز سعد زعامته باللجوء للجماهير بمطالبته بتوكيلها له، فقد أرادت مصر زعيمًا واختارت سعد.
وكان سعد واعيًا بذلك الاختيار وهذه الأمانة، حينما واجه ضغوط المعتدلين من أعضاء الوفد فى باريس خلال مؤتمر الصلح، قائلاً: «أنتم أسقطتم من حسابكم ومن تفكيركم أن فى أعناقكم أمانة، وهى السعى والجهاد للحصول على الاستقلال التام.. أنتم تلتمسون المحاذير وتستطيلون أمد الجهاد وتريدون خيانة الأمانة عن عمد وسبق وإصرار.
بينما فى رحلته الطويلة عبر سجون عبدالناصر، وفى جريدة الأخبار اليوم، يكتشف «السعيد» أن عبدالناصر كان منشغلًا بتفاصيل صراعات الموظفين، وحكايات النميمة، يروى السعيد أنه حينما فصل من الأخبار بقرار من هيكل، التقى بخالد محيى الدين الذى اصطحبه إلى منزله ويقول: «فور دخولنا أمسك بالتليفون أدار رقمًا من الذاكرة، ومن الحديث عرفت أن عبدالناصر على الطرف الآخر.. أحسست بأن كلمات عبدالناصر باردة، وقاتمة، فقط نقل خالد لى عبارة واحدة من عبارات عبدالناصر، وهو رفعت بتاعك نزل من بطن أمه صحفى، يشوف لنفسه شغلانة تانية اتصل بسامى شرف يشوف له شغلانة.
ربما كانت النتيجة الطبيعية لما عايشه «السعيد» هو نكسة يونيو، هزم عبدالناصر وزعامته، لكن مصر لم تهزم، يقول السعيد: «ولكن شعب مصر كان أكثر وعيًا من حكامه، وكان أكثر منهم شرفًا، وتناسى الخديعة والكذب، وتناسى كل الأخطاء وما هو الأكثر من الأخطاء، وانطلق فى أعقاب إعلان عبدالناصر الاستقالة، ليصنع موقفًا تاريخيًا بالغ الروعة».
وهو ذات الشعب الذى أقسم قائلاً: أقسم بالله وبسعد فى منفاه أن أقاطع جميع البضائع الإنجليزية واللغة الإنجليزية وكل من له علاقة بالإنجليز، وأن ألبس الحداد حتى يعود سعد وزملاؤه».
كان الفارق أمام «السعيد» واضحًا بين زعامة مطارق وعذابات السجون، وزعامة دولة الدستور والقانون، لذلك لم يكن أمامه صعوبة فى الانحياز أو الاختيار بين سجون عبدالناصر، ومقولة سعد: «ستصبح المبادئ الدستورية وحقوق الأفراد نافذة فينا، ويصبح أمر الكل للكل ويشعر كل مصرى بأن حياته وحريته وشرفه وماله وولده.. كل ذلك تحت حماية القانون، وعلى القانون حارس قوى هو البرلمان، والبرلمان تحت حراسة أمة يقظة».
لم أكن وفديًا وظللت أنظر إلى النحاس نظرة يمتزج فيها الإعجاب بالرهبة.. فمصطفى النحاس شخصية متميزة وآسرة، ما إن تحاول البحث فى جوانبها المختلفة حتى تستشعر الألفة والمودة، وتشعر كأن رباطًا من الصداقة الحميمة يجذبك بحنان دافق نحو ذلك الرجل البسيط الشجاع، نحو «الزعيم» الذى استطاع أن يجمع من محبة بلاده أكثر من أى زعيم آخر.
علاقة خفية ربطت بين الزعيم «النحاس»، والقطب اليسارى، الذى ظل مبهورًا بعظمة النحاس، وفخورًا بأن مصر أنجبت هذا الرجل، وفخوراً أكثر لمجرد أنه أصبح عبر البحث يعرفه أكثر وأكثر.. شاعرًا بالألم ومتسائلًا كيف جرؤت مصر -أو بعضًا من أبنائها- أن يبالغوا فى قسوتهم على الزعيم المحبوب، مشيرًا إلى معاملة النحاس خلال حكم عبدالناصر بقوله: «وهكذا تضيف دراستى لأحداث هذه السنوات ظلالًا من الحزن المأساوى على صورة «الزعيم» وتزداد رهبتى تجاهه.. وتصبح الكتابة أكثر صعوبة، وتغلفنى الرهبة كلما حاولت الاقتراب.. ومع ذلك أمضى كثيرًا من الوقت فى الاستمتاع بالتقرب من الرجل والتعرف عليه.. فعملاقاً عاش هذا الرجل على رأس نضال شعبه، وعملاقًا احتمل مأساة السنوات الأخيرة.. وعملاقًا مات.
لا يتوقف «السعيد» أمام تفاصيل الهجوم الغوغائى الساعى إلى النيل من مكانة النحاس.. وهو الذى لم يتوقف أبدًا متحدثًا عن أحد تجار صحافة الإثارة الذى أثار زوبعة مفتعلة متسائلاً: ألم يقبل النحاس يد الملك؟، معتبرًا أن ذلك اتهام نسجه أناس عاشوا حياتهم وصعدوا، أو بالدقة هبطوا من أجل تقبيل حذاء كل حاكم وكل طاغية.. فتاريخ النحاس يكفيه ويزيد وبدون أي حجج أو براهين أن يسمو به فوق هذه الصغائر.
فى كتابه العبقرى الذى يحمل عنوانه دلالات مهمة «مصطفى النحاس.. السياسى والزعيم والمناضل» يعرض «السعيد» لأهم محطات «النحاس» الذى ركز نضاله ونضال الوفد فى أربعة اتجاهات رئيسية وهى النضال ضد الاحتلال البريطانى، وضد السراى وضد السلطة الأوتوقراطية، وضد الاتجاهات الفاشستية والعناصر الموالية للمحور والاتجار بالدين، ومن أجل الدستور.
النحاس الذى استحوذ ببساطته وعناده فى الدفاع عن حقوق مصر، على حب شعب بلاده، واستحوذ على أكبر قدر من العداء والخصومة.. هذا الرجل الذى جسد فى بساطته ودهائه فى مرونته واندفاعه، مدرسة متكاملة فى السياسة المصرية، استطاعت أن تتخذ لنفسها مكانًا خاصًا فى قلوب الأمة وتاريخها.. خليفة سعد، حبيب الأمة، زعيم الشعب، الرئيس الجليل، حضرة صاحب المقام الرفيع، كان يواجه تآمرًا حقيقيًا وخطيرًا.
فيروى «السعيد» أن القصر كان ضده، وزعماء الأقلية جاهزون دومًا للحكم، والتيارات الدينية والفاشستية احتمت بالقصر، لتحشد تنظيمات شبه عسكرية فاشستية تحاول أن ترهب بها جماهير الوفد، وأن تفرض إرادتها على الشارع المصرى.
لم تكن هذه الرؤية مجرد تحليل أو إعادة قراءة للتاريخ، من جانب السعيد، لأنه كان شاهد عيان عاش فى المنصورة صراع الوفد مع جماعتى الإخوان المسلمين ومصر الفتاة، وشاهد محاولة الإخوان إدخال حسن البنا المنصورة فى اختبار للقوة، فى موكب وصفه بأنه يشبه الغزاة، وكيف تصدت جموع الوفديين للموكب الذى فشل، واضطروا إلى نقل «البنا» إلى النادى الرياضى، خوفًا من أن يلاحقه الوفديون إلى مقر «الشعبة» فى شارع السكة القديمة بالمنصورة، وكيف أحاطت الجموع الوفدية بالشعبة، مرددة الشعارات المعادية لها، بينما آثر الإخوان السلامة خوفًا من استثارة الموج العارم ضدهم.
واستمرت الصدامات لا تنقطع بين الوفد والإخوان الذين دعتهم السراى والإنجليز وكل حكومات الأقلية، وأصبح الصراع سافرًا كما يشير السعيد، بين الوفد والإخوان الذين أصبحوا أداة فى كل يد معادية للوفد.
ويروى «السعيد» أن النحاس قاوم ذلك الحلف الفاشى ما وسعه، وحاول أن يردعه بسطوة القانون، وفرض حظراً على تنقلات زعماء مصر الفتاة، بل واتهمها رسميًا بأنها تعمل لحساب دولة أجنبية ضد مصلحة البلاد، بل واتهم السراى صراحة بمساندة الفاشية، وأطلقت صحف الوفد على حسن البنا لقب حسن راسبوتين.
لذلك كانت معارك النحاس كما يراها «السعيد» عنيفة وكان الأعداء كثيرين متشابكين، خيط واحد يجمعهم، العداء للشعب والعداء لحكم الأغلبية.. لذا كانت معركة النحاس من أجل الدستور ضارية وحاسمة، وكانت مسألة حياة أو موت للوفد، الذى لم يكن يملك رصيدًا من رضاء السراى أو رضاء الاحتلال، فالإنجليز كانوا يكرهون الوفد عامة والنحاس خاصة، ولطالما استخدموا السراى وأحزاب الأقلية لضرب الوفد وإبعاده عن الحكم.
لا يدافع «السعيد» عن سياسات ومواقف النحاس، ولكنه يقدمها فى إطار سياقها التاريخى ولحظتها الراهنة، وهى المطاعن التى وجهت زيفًا وتضليلًا للنيل من زعامة النحاس والوفد، فيقول إن قيام القصر والجماعات الموالية له مصر الفتاة والإخوان المسلمين بإقامة علاقات مباشرة مع دول المحور وضع الأمور كلها فى منعطف جديد، ومن هنا يمكننا أن نفهم معاهدة 1936 فى ظروفها وملابساتها التى أملت على البورجوازية المصرية ضرورة التوصل لاتفاقات في ذلك الوقت، وأن نفهم لجوء النحاس إلى تكوين فرق القمصان الزرق كقوة ضاربة للوفد، قادرة على كبت القوة الضاربة شبه العسكرية للقمصان الخضر التابعة لمصر الفتاة، وكتائب الجوالة التابعة للإخوان المسلمين، خاصة فى ظل تهديدات النفوذ الإيطالى فى ليبيا، وغزو إيطاليا للحبشة.
ويشير «السعيد» إلى أنه أيضًا يمكن أن نفهم فى ذات السياق أحداث 4 فبراير 1942، فالنحاس كان يكمن كعادة الفلاح المصرى لخصمه، منتهزًا فرصته كى يضرب، ويمكن القول إنه رغم كل التهدئات والمساومات تجاه الإنجليز، فإن النحاس وحزبه لم يفقدا أبدًا خط العداء للاحتلال البريطانى، لكنه كان يكمن لفترة ثم يتوهج فى فترة أخرى، ويستدل على ذلك بمذكرة أبريل 1940، التى قدمت من الوفد للسلطات البريطانية تتهمها بدعم الانقلاب الدستورى واستغلاله، وتطالبها بإعلان الجلاء بعد الحرب العالمية، وإشراك مصر فى مفاوضات الصلح، والدخول فى مفاوضات تعترف بحقوق مصر فى السودان، وإلغاء الأحكام العرفية، مضيفًا أن المطارق الوفدية استمرت تهوى ضد سياسة الاحتلال، وأن تولى النحاس للوزارة فى أعقاب حادث 4 فبراير لم يكن صفقة مربحة ولا مغرية فى بلد توشك جحافل الغزاة الفاشست على اجتياحه.. بلد يقف عاجزًا أمام غزاة قادمين وغزاة مقيمين.
وانتهى «السعيد» إلى أن الجواب المقنع لقبول النحاس الوزارة هو وجود الألمان على الأبواب، ولأن القصر كان يناور مع الغزاة الجدد، والفاشست من الإخوان ومصر الفتاة وأحزاب الأقلية كونوا بالفعل حكومة ظل لتتولى الحكم فور وصول الألمان، ولأن عملاء القصر تظاهروا فى الشوارع هاتفين «إلى الأمام يا روميل».
ولا يتجاهل «السعيد» معارك النحاس ضد الملك فاروق التى وصفها بأنها ظلت سجالًا بينهما، بداية من تجريد الملك من سلطاته فى الإشراف على الجيش، وإلغاء منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة الذى كان يتولاه الملك، والتصدى لمحاولات تنصيب الملك فى حفل دينى فى خطابه التاريخى الذى وصف الاحتفال فيه بمباشرة الملك لسلطته الدستورية بأنه مجال وطنى يجب أن يتبارى فيه سائر المصريين مسلمين وغير مسلمين، بل ووصل الأمر إلى اعتراض النحاس على تعيين مهندس كهربائى للقصر دون استئذان الوزارة.
ولا يخفى «السعيد» إعجابه بسياسات وإنجازات النحاس على مختلف الأصعدة، مشيرًا إلى دعم حركات التحرر وقضايا النضال المشترك ضد الاستعمار، وسياسة الحياد الإيجابى، والاعتراف بالاتحاد السوفيتى، وتأسيس الجامعة العربية، وإلغاء معاهدة 1936، وإعلان الكفاح المسلح ضد الإنجليز.
يعترف «السعيد» بأن الوفد أقر فى برنامجه الصادر فى 23 سبتمبر 1952، مشروع تحديد الملكية والإصلاح الزراعى، ويندهش ولا يفهم كيف أن عبدالناصر أكد فى إحدى خطبه بعد 9 سنوات من قيام ثورة 23 يوليو 1952، بأن الوفديين «رفضوا تحديد الملكية الذى طلبناه، ورفضوا أن يعودوا إلى الحكم على أساس تحديد الملكية».
مرارة شديدة يبديها «السعيد» ضد محاولات الإساءة للنحاس ومحاكمة رجال الوفد إبراهيم فرج ومحمود سليمان غنام وغيرهما. ويقول عن حكم إبراهيم فرج الصادر بالأشغال الشاقة المؤبدة، والذى خفف إلى خمسة عشر عامًا: «ويشعر الجميع بأن المحاكمة والحكم.. موجهان إلى شخص آخر حالت ظروف سنه المتقدمة، وحالته الصحية، وزعامته الشعبية الطاغية دون أن يوضع فى قفص الاتهام.. شخص آخر هو مصطفى النحاس الذى كان معنياً بهذه المحاكمة».
ويظل النحاس حبيس الإقامة الجبرية، فى ظل أعنف حملات التشويه التى سعت للنيل منه ومن سمعته.. وتمضى الأيام كما يروى «السعيد».. ويتصور البعض أن النحاس قد طواه النسيان، وأن هذه الصفحة الناصعة من تاريخ مصر قد نسيت.. وفجأة يعود النحاس ليثبت بموته أنه لم يزل حيًا فى قلوب الكثير من المصريين.. وعندما مات مصطفى النحاس فى 23 أغسطس 1965، تحولت جنازته إلى مظاهرة صاخبة ضمت قرابة المائة ألف متظاهر.. وأثبت النحاس أنه لم يزل حيًا.. وأنه لن يموت.. وأثبت شعب مصر أنه وبرغم كل شىء، يمتلك قدرًا هائلًا من الوفاء والعرفان بالجميل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.