الدرجة الثالثة ترفع شعار اللاءات الأربع: «لا نظافة.. لا تكييف.. لا مقاعد.. لا أمان» الدرجة الثالثة «الترسو» تجسيد حقيقى لمعاناة يومية يعيشها ملايين المصريين داخل قطارات متهالكة تفتقد إلى أبسط متطلبات الآدمية ترفع اللاءات الأربع: «لا نظافة.. لا تكييف.. لا مقاعد.. لا أمان». القطارات أشبه ب«علبة السردين» تجسد المأساة داخل 1640 عربة قطار درجة ثالثة، ترصد عن قرب المعاناة التى يتعرض لها الركاب داخل 885 رحلة يومية. «الوفد» رصدت معاناة الركاب داخل محطة مصر، وعاشت يومًا داخل القطار رقم 158 الذى يتحرك من المحطة الأساسية بالقاهرة حتى الأقصر. البداية صفوف من المواطنين يتراصون بشكل عشوائى فى انتظار قدوم القطار ليقلهم إلى محافظاتهم، البعض منهم يتسامرون ببعض النكات الضاحكة، وآخرون فضلوا الجلوس صامتين استعدادًا للمعاناة داخل القطار. تقبض على طفلتها بقوة وتسير بحذر شديد مترجلة، حاملة على رأسها حقيبة سوداء، تبحث عن مكانًا تجلس فيه، لتلتقط أنفاسها بعد مسافة طويلة قطعتها من منطقة دار السلام، وبجوار كافيه المحطة جلست السيدة وطفلها الصغير، ثم أخرجت بعض الأطعمة لتتناولها استعدادًا لمأساة السفر. قائلة: «أنا من قنا وعايشة مع جوزى فى دار السلام، بسأل كل فترة بروح علشان أشوف أهلى، وجوزى مش بيقدر ينزل معايا علشان شغله، هو بينزل كل سنة مرة للصعيد معايا، لأنه من سوهاج». تخرج السيدة منديلًا من القماش لتزيل العرق، وتستكمل حديثها بأن قطار الدرجة الثالثة هو الوسيلة الأكثر أمانًا والأرخص للبسطاء، مقارنة بالوسائل الأخرى سواء الميكروباص أو السوبر جيت، وأضافت: أدفع فى رحلة القطار ربع المبلغ الذى أدفعه فى وسائل المواصلات الأخرى. العشرات يقفون فى حالة ترقب لقدوم القطار الذى ينقلهم لصعيد، وسط صيحات الباعة الجائلين، ويزداد الزحام كلما تأخر القطار عن موعده، ليبحث الركاب عن أماكن يتظللون منها من حرارة الجو المرتفعة. وما إن بدا فى الأفق القطار من بعيد، يتحول الرصيف إلى حلبة مصارعة يتساقط خلالها كبار السن والأطفال فى ماراثون الحصول على كرسى داخل القطار عن طريق الوصول من الباب أو من إحدى النوافذ. يشتد الصراع مع تكدس المواطنين على باب القطار، ليدخلوا إلى عالم المعاناة، حيث الروائح الكريهة التى تنبعث من الحمامات التى لا تعرف لها النظافة طريقًا، وأتلال القمامة أسفل المقاعد، ووسط ذلك جلس الركاب غير عابئين بهذه المشاهد، البعض منهم اجتاز المعركة فى الحصول على المقعد والبعض الآخر جلس فى الطرقات وفى مدخل العربات، وآخرون احتلوا مقاعدهم على الأرفف وسط حقائب السفر. دقائق معدودة لتبدأ رحلة الركاب، البعض يستهل رحلة السفر بالدعاء، والبعض الآخر يتحدث فى تليفوناتهم المحمولة، فيما حاول الركاب الذين عجزوا عن الحصول على مقاعد أو الجلوس فى الطرق، أن يتخذوا من مداخل الحمامات مقاعد لهم، ليصبح القطار كامل العدد. ويبدأ الباعة الجائلون فى مزاولة نشاطهم، مرددين جملتهم الشهيرة: «عيش.. جبنة.. بيض.. سميط»، حيث وصف عدد من الركاب تلك الأكلات بأنها تذكرة الموت للدار الآخرة، ومع ذلك يقبلون عليها بعدما يشتد بهم الجوع. مروان أحمد، أحد الركاب، قال: لا أحد يعلم مصدر هذه الأطعمة، وكيفية بيعها على يد الباعة الذين لا يهتمون بنظافتهم الشخصية، فالركاب الذين لا يملكون سوى أجرة المواصلات وبعض الجنيهات البسيطة «الفكة» يصبحون مجبرين على شراء هذه الأطعمة لسد جوعهم خلال الطريق، موضحًا أن البعض الآخر من الركاب يفضلون شراء الأطعمة قبل أن يأتى للمحطة، ومن يعجز عن شراء ذلك لضيق الوقت، يلجأ للباعة أصحاب الأكشاك على المحطات ولكن بأسعار مرتفعة مقارنة بالأسعار خارج المحطة. أضاف قائلاً: «شكل الباعة يخلى الواحد نفسه تتسد عن الأكل»، مشيرًا إلى أن بعض الباعة يقومون بجمع زجاجات المياه الفارغة من أسفل المقاعد، ثم يقومون بإعادة تعبئتها من الحمامات وبيعها للركاب مرة أخرى. أمكث فى القطار 10 ساعات لا أستطيع دخول الحمام.. بهذه الكلمات يستهل ياسر دسوقى، حديثه قائلاً: أسافر فى القطار من مدينة قنا كل أسبوع، حيث أعانى بشدة من عدم دخول الحمام، إما لعدم نظافته أو لجلوس بعض الركاب بداخله، وحول كيفية قضاء وقته داخل القطار، قال ألجأ للنوم هروبًا من الضوضاء. من جانبه، قال شريف عبدالحافظ، إن محطة القاهرة مسرح كبير للصوص يستهدفون الركاب، مشيرًا إلى أنه مع كل رحلة قطار تحدث حالة أو حالتا سرقة للركاب، وتابع: الباعة ينصبون على الركاب ويبيعون زجاجة المياه الغازية بخمسة جنيهات ولا مجال للاعتراض. ومع عناء السفر، يستسلم الركاب للنوم مستخدمين بعض الأقمشة لحمايتهم من أشعة الشمس الحارقة، فيما يقضى الآخرون أوقاتهم فى السمر ويبقى ارتفاع الأسعار هو القاسم المشترك بين غالبية الركاب. وائل فتحى، موظف، قال إن الراتب الشهرى، أصبح لا يكفى فى ظل ارتفاع الأسعار بشكل كبير، مشيرًا إلى أن لديه 4 أبناء فى مراحل تعليمية مختلفة، فضلًا عن مصاريف الدروس الخصوصية والكهرباء والماء والإيجار. وتابع: أدفع 2000 جنيه «إيجار وكهرباء ومياه والدروس الخصوصية» كل شهر، طيب أنا راتبى كام ألف علشان أقدر أسد باقى الشهر، كنا بناكل اللحمة 4 مرات فى الشهر دلوقتى نأكلها مرتين بس، مع نوع خضار واحد، بخلاف السنوات الماضية كنا ننوع فى الأكل. فى السياق ذاته، قال على عبدالباسط، حداد، إنه يعمل يومًا واحدًا فى الأسبوع ولهذا رفع أجره حتى يستطيع سداد احتياجات أسرته. وتابع: أنا من المنيا أسافر وأسرتى شهرين للعيلة، وهناك لا نشعر بالغلاء فما زالت القرى متماسكة ومن يملك يعطى من لا يملك. وأضاف: رغم ما نعانيه داخل القطار من طول المشوار وتأخر مواعيده وعدم نظافته فإنه أفضل بكثير من المواصلات العادية واستغلال سائقى الميكروباص. ومع وصول القطار لمحطة الجيزة، تكرر نفس السيناريو مرة أخرى، حيث تكدس الركاب على أبواب القطار، ونشبت صراعات عديدة بين المتواجدين داخل القطار والركاب الجدد، وتحول القطار لحلبة صراع على أحقية الجلوس على المقاعد، فيما ارتفعت أصوات الباعة بالألفاظ النابية لعجزهم عن ممارسة نشاطهم بسبب الزحام. «مفيش مرة ركبت القطر ده لقيته فاضى أبدًا».. بغضب شديد استهل هوارى على، موظف، حديثه من محافظة الجيزة وقال إنه من أصول صعيدية، ومع كل فترة يجرى زيارة للعائلة، ويستقل القطار العادى، الذى يعانى دومًا من الزحام الشديد. وعن حديث الحكومة دومًا بأنها تعتنى بتقديم خدمة أفضل للمواطنين، رد قائلاً: خدمة إيه هو فيه مرة ركبت القطر ده لقيته نضيف، الروائح الكريهة اللى بتطلع من الكراسى والحمام بيخلى الواحد يدوخ»، مشيرًا إلى أنه يقطع مسافات طويلة للوصول إلى محافظة الأقصر، ويعجز عن قضاء حاجته داخل الحمام لعدم جاهزيته للمواطنين. تحركات غير طبيعية حلت على القطار مع محاولة أحد المواطنين الهرب من «كمسرى» لعجزه عن دفع التذكرة، ويحاول المحصل الوصول إليه ولكن عجز مع هرب المواطن بين الزحام، وقال صالح جابر، أحد الركاب، إنه دومًا يشاهد مثل هذه المشاهد مع كل قطار يستقله، مشيرًا إلى أن عدداً من المواطنين يعجزون عن دفع قيمة التذكرة فيحاولون الهرب بوسيلة أو بأخرى سواء بالاختفاء داخل الحمام أو النوم أسفل كراسى القطار. ومع وصول القطار لمحطة العياط، بات أشبه ب«علبة السردين» مع تكدس جميع العربات بالركاب، وتجدد مرة أخرى الصراعات، فيما حاول عدد من المواطنين النوم على حاملات الشنط أعلى عربة القطار للهرب من الزحام، وقال أحمد رؤوف، أحد الشباب، إنه اعتاد النوم على حاملات الشنط، وتعد الوسيلة الوحيدة للهرب من الزحام الشديد، والصراعات بين الركاب، فضلًا عن سخونة العربة نتيجة تلاحم الأجساد مع زيادة عدد الركاب.