متزامنا وبغير قصد مع صدور العدد الأخير من مجلة الهلال العريقة المتميزة - والذي احتلت الكتابة عن عقل وإنتاج المفكر الكبير الأستاذ رجائي عطية حيزا يليق به من صفحاته - ظهر الرجل على شاشة قناة السي بي سي متلقيا أسئلة محددة ومحرجة وصعبة من الإعلامي خيري حسن مساء السبت الماضي ضمن برنامجه الشهير. لكنه وكعادته أجاب عنها بكل ما أوتي من وضوح وصدق مختتما حديثه أو ملخصا إياه بعبارة «خطابي إلى هؤلاء..» حيث حدد واجبات الأطراف المسئولة عن إيجاد حلول حقيقية مخلصة لكل ما ترزح مصر وشعبها تحت وطأته الآن من مشكلات أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية معلقة تكفي كل واحدة منها بمفردها لأن تصيب الوطن في مقتل وأن تتركه جسدا جريحا وروحا ضائعة يتكالب القتلة واللصوص والطامعون من الداخل ومن الخارج على سلب ما تبقى منه وتفريق تآمرا وحقدا وكراهية ضمن مخططات حلقات تاريخية تتكرر كل عدة أجيال لإذلاله وتقزيمه. وبالتحديد حينما تلوح أية بادرة حقيقية لقيامته بنهضة أو بثورة منذ انتبه الغرب والشرق معا على خطورة الدور المصري عليهم وعلى مستقبل مصالحهم معه لو حدث وأصبحت دولة كبيرة مستقرة. حدث ذلك في عهد محمد على عندما رأوا أن طموحاتها قد تجاوزت ما قدروه لها وأن مشروعها الاقتصادي والحضاري قد أصبح مهددا لوجودهم ومصالحهم. ثم رصدت الخيانة والتآمر ثورة البطل أحمد عرابي التي اجتمعت لها ولأول مرة قوة الجيش وإخلاصه مع بسالة وإرادة ومقاومة الشعب فضربتها. واستمرت تلاحق صحوة ثورة 1919 بعدها لتحبطها وتجهضها في محاولات عسكرية متتالية بدأت بالعدوان الثلاثي عام 1965. ثم بهزيمة يوينو 1967. وكذلك من بعد انتصار أكتوبر 1973 لم تسلم مصر من مؤامرات وأطماع ومحاولات تفكيك وتكسير ساعد عليها ودعمها حكم فاسد ونظام ساقط متهرئ حتى قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير الماضي دون توقع ودون أن تحسب لها الحسابات. لكن عاما كاملا مضى عليها حتى الآن دون تحقيق استقرار كان كافيا ليس لفلول النظام السابق - كما جرت العادة المصرية الهازئة المستهينة بالأعداء في ثقة أن تسميها – بل لمجموعات من قياداته وممثليه والمنتفعين به والباقين على عهودهم معه أن تتآمر وأن تعيد تنظيم صفوفها بعدما شلتها مفاجأة الثورة إلى حين ثم أعطاها ما حدث من تردد أو تراخ أو عدم خبرة أو اطمئنان مبالغ فيه فرصتها لأن تقوى وأن تعود فاعلة مخربة دون أن ننسى أطماع السياسيين المحترفين وتكالب قياداتهم واللعاب الذي سال من أفواه كثيرة داخلية وخارجية على تقسيم الغنائم واقتسام ما أخلته الثورة من أرض وما كسبته من مواقع وما ينتظر أن تخطفه في غمرة الاضطرابات ودوامة الدم ومعركة الأصوات العالية والمزايدات الخفية والمعلنة والاتهامات المتبادلة والتجريح والتشهير. حتى حدث ما حدث مؤخرا بعد أقل من أسبوعين استقر فيهما الأمن بدرجة ملحوظة. وكأنما جاءت أحداث بورسعيد المأساوية - وما رافقها من سطو على بنوك وأقسام شرطة وخطف أطفال واضطرابات واعتصامات لم تخل من ضحايا - ردا همجيا على حلمنا به أو توهمناه من بشائر الاستقرار وأيضا لإحراج القيادة الجديدة لوزارة الداخلية ممثلة في وزيرها اللواء محمد إبراهيم الذي ظهرت نيته صادقة في تحقيق الأمن وتعقب المجرمين والمخربين. أعود إلى خطاب الأستاذ رجائي عطيه الذي وجهه في شكل تكليفات أو واجبات إلى الفصائل المصرية المعنية والتي بيدها حبال الإنقاذ وحصرها في: واجب النخبة وواجب الإعلام وواجب الثوار وواجب الأمن ممثلا في أهليته للقيام بواجب الدفاع الشرعي العام.. كي يقوم كل فصيل بأداء ما هو حق عليه وبإخلاص إلى أن يتم تسليم السلطة للحكومة المدنية فيما لا يتجاوز شهر يونيو القادم. وهو ما عبر عنه أيضا الأستاذ محمد الخولي – المتحدث باسم المجلس الاستشاري – في مداخلة هاتفية بنفس الحلقة حيث دعا هو الآخر إلى التعجيل بنقل السلطة مباشرة من المجلس العسكري بعد انتخابات الرئاسة في مايو القادم. علاوة على مطالبته باعتقال كل أعضاء الأمانة العامة بلجنة سياسات الحزب الوطني المنحل أو على الأقل قياداتهم البارزة والطليقة التي تعيث فسادا في مصر حتى الآن. والتحقيق معهم وكذلك الحزم في تطبيق قانون الطوارئ على البلطجية. وهكذا يلاحظ أن هناك اتفاقا أصبح شبه كامل بين جميع الأطراف السياسية المخلصة للخروج من الأزمة حتى وإن اختلفت درجة الحدة أو التشدد في تحقيق مطلب والمرونة أو التفهم في المطالبة بآخر. اتفاق يؤيده ما قاله النائب محمد أنور السادات أيضا – في نفس الحلقة - عن ضرورة نقل مبارك إلى سجن طرة في مستشفى يتم إعداده وتجهيزه كاملا لاستقبال أي مريض دون تفرقة. وعن ضرورة تحديد إقامة زوجته لتقييد حريتها وكفها عن أية ممارسات مستفزة أو من شأنها أن تحدث تحريضا أو تآمرا أو استفزازا لعائلات الشهداء وجموع الشعب المنهك والمحتاج والذي أصبح احتقانه مهددا وغليانه منذرا بخطر لا يقاوم إلا بما هو أخطر وأسوأ عاقبة دون سبب أو مبرر ما دامت الحلول جاهزة ومفاتيح الخروج من الأزمة موجودة. إنها أيضا مطالب الثوار ومطالب القطاع العريض المعاني من الشعب ومطالب كل من يريد استقرارا وأمنا ونهضة ورفعة لمصر. لنعجل إذن بتحقيق ذلك كي يهدأ التوتر ويتحقق برنامج الاستقرار السياسي المنشود وحتى نتفرغ بعدها للإصلاح والبناء وحل بقية المشاكل المرجأة والهموم المنسية كالتعليم الذي أفسد. والثقافة التي تهرأت وسارع جناتها ومفسدوها إلى الاختباء متربصين للعودة بوجوه وملامح تناسب ما سوف يؤول إليه الحال وقد ظنوا لغبائهم أن التواريخ تنسى وأن بقع أصابعهم الملوثة لها مساحيق الغسيل. كذلك الفن الذي اختلطت في ضجيج سوقه أصوات ساقطة مع دعوات المصلحين الحقيقيين. حين جمعت مسيرة الدعوة المتنورة إلى «حرية الإبداع» بين وجوه وكلمات من لا يصح أن يجتمعوا - لاختلافهم في القيمة وتباينهم في التاريخ والإنجاز والأهداف - فتعالت كلمة حق أراد بها الكثير من المهرجين والمنتفعين وأصحاب البضاعة الفاسدة باطلا. ليهدأ الغاضبون إذن.. ولينتظروا قليلا إلى يونيو القادم وإن يونيو القادم لقريب. ----------- بقلم -د. أسامة أبو طالب