يوم الأربعاء الماضي كان قرار الانفلات من ذل الغربة قد اختمر تماماً في حوايا ذهني، وآسف إنني أبدأ الحديث في خطب جلل كهذا عن نفسي ولكن لعل لهذا سبباً، طالت الغربة علي وإن كانت لسنوات تعد على أصابع اليد الواحدة ولكني فوجئت بعد قضاء أغلبها ممهداً لمجئ أسرتي بأن الأخيرة لما جاءت رفضت تماماً البقاء معي، بل لمحت بوادر مرض التوحد في تصرفات أكبر الأبناء ووحيدي من الذكور(إسلام)، الذي أسأل الله تعالى أن يتقبل مني أني اختصرت معاناة قرابة عقدين من العمر في اسمه إذ كنت أرد على السادة في مباحث امن الدولة القائلين بإن لم ألتحق بالعمل معهم كمرشد برتبة صحفي أو معد برامج في التلفزيون الرسمي فلن أعمل في مصر، رأيت الصبي ينخرط في بكاء مرير بعد قرابة شهرين من مجيئه لديار الغربة، دونما تحديد لسبب للبكاء سوى السبب الأكبر وجوده خارج مصر وإمكانية بقائه لما شاء الله تعالى، وكان بمفرده، فعلمت إن جسداً لي رفض الاستمرار مفتتحاً مسيرة الألم بجراحة في العين بعد بكاء إسلام بشهور قليلة ثم ما فعله الصغير لا يدلان على رحيل محبب للنفس قريب لخير بلاد الأرض إليها بعد مكةالمكرمة ومثوى الرسول، صلى الله عليه وسلم، المدينةالمنورة. كنت في حضرة واحد من طيور مصر المغتربة من سنوات طويلة وهو من مجيدي الترجمة في مجالي الشعر والرواية وغيرهما، ولست في حل من ذكر اسمه لأني لم استأذنه في هذا، وقد تفتح وعيي على الحياة فألفيت كتب ترجمته إلى جوار عيون أدبنا المعاصر على أرفف بيت ثقافة بني مزار، وهنا ألتقيته مرات وتعارضنا حتى خفت أن نتضارب فكففت نفسي عنه لحين فلما اقتربت منه رأين آية من آيات الاخلاص نادرة في زمننا في قلبه الغض الاخضر برغم عمره، المديد بإذن الله تعالى، وآراؤه الحادة بخاصة في حضور الآخرين، المهم دعاني الرجل للغذاء يوم الثلاثاء الماضي، وهو يعلم بمغادرة أهلي لديار الغربة، ثم حدثني في موجبات الذهاب الخاصة بي فلما أبديت ارتخاء لن أنسى أبداً ما حييت مشهده وهو يهمس أمامي في غيظ شديد وتجل إنساني نادر في عالم اليوم الذي قارب التواصل الإنساني الفار من أهواء الدنيا ومصالحها يغادرنا للأبد، هتف في غيظ محمل بالصبر: أنج سعد فقد هلك سعيد. أكبرت الرجل لما أشار لنفسه معرضاً لأمور أعرفها عنه، شمله الله وشملها برحمته الواسعة وهدى نفسي للحق والنور الدائمين وهداه، وفور انتهاء الطعام من افواهنا نزلنا معاً لمكتب الطيران القابع أسفل شقته لنحجز تذكرة بتاريخ كتابتي لهذه السطور صباح الأحد الموافق لذكرى المولد النبوي لخاتم المرسلين، وفي النفس شجون لقرابة سنوات خمس صدق الشاب الزميل بجريدة عملت بها أغلب هذه الفترة لما قال لي: اليوم هنا يمر كأنه سنة.. وذكر (سنة) بالعامية المحببة دون أن يدري أنه وافق جميل بيان الفصحى من كون السنة خاصة بالتعب ومرارة الوقت والعام خاص بالوقت الذي يمضي محايداً على الأقل إن لم يكن هنيئاً بدليل قوله تعالى: (تزرعون سبع سنين دآباً) وقوله في نفس السياق من سورة يوسف، عليه السلام:(ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون). تأملت حال صديقي الأول ونحن نحجز التذكرة وتمنيت لو كان مكاني، وقد استأمنني على ما لن أذكره وإن لم أعرف باسمه أصلاً بل تمنيت لو أن كل مصري هنا لقيني فشكى لي من تبعات الغربة ومما يجد ويعاني من آلام لو أن الموقع المنشور المقال فيه تفرغ لنشرها على مدار أيامه وأعوامه وعمره المديد تفرغ لنشر ما روي لي من آلام المغتربين المصريين في بلاد يحسد من يذهب إليها، ولست مبالغاً علم الله تعالى، لما كفته وصدق الرائع الشاعر الجميل الراحل أحمد أبو الطيب المتنبي إذ يقول: إني بما أنا منه باك محسود! وصديقي أخبرني مساء اليوم التالي بأنه لم يلتق بأحد في اليوم التالي لحجزنا إلا واختلف معه بل تشاجر فلما سألته في طيبة عذبة لكم كرهتها في نفسي أحياناً: لماذا؟ تأملني ملياً ثم قال ببطء: تأثرت انفعالياً بكونك تحجز للذهاب لمصر فيما أنا باق هاهنا وفي اليوم التالي عاودتني آلام كنت أتناساها استناداً لقول طبيب مصري في مستشفى كبير بأني أحتاج لعملية في مكان دقيق آخر من الجسد، ومن الأفضل أن تكون في مصر، ولم أشك في الأمر بل قبلت به، ولكن الألم زاد بصورة غير مقبولة قبل الحجز بأيام، وكنت أشكو منه بل أكتب عنه منذ شهور حينما كنت أتناول أحداث شارع بل شوارع محمد محمود والقصر العيني وما قبلهما،وكان الطبيب لا يكلف نفسه عناء الكشف ويقول: تداعيات الغربة أو لا تريد دفع الفاتورة؟! وزاد بأنها تداعيات الألم النفسي وما إليها، صباح الأربعاء سعيت لطبيب معروف هنا ومدير لأكبر مستشفيات العاصمة وهو مصري إذ إن معاناتي تضاعفت وخفت أن يزيد الألم في حين السفر، وفي الباص قابلت مصرياً جنوبياً يعمل في مجال المعمار حملت زوجته حين سفره من مصر ووضعت فلم ير ابنه بعد، وشكى لي من امور عدة، ولدى الطبيب لقيت فتاً من الصعيد أيضاً يشكو من ألم بقدمه فقال لي: ولما لا نعود وقد بدأ الحال ينصلح في بلدنا؟ أخبرني الطبيب بحاجتي الماسة لجراحة إن تأخرت ليوم فلن تتأخر للتالي فقلت له عن سفري وخوفي من العمليات بمفردي فما زاد، تقبل الله مني ومنه وجعل في يديه المزيد من الشفاء، وفرج كربه وكربي وسترني وستره، كما أحب أن أدعوا له عقب إجرائه الجراحة، على أن قال: غداً أجريها لك وستدعو الله لي. ليلة الخميس ليلة أحداث بورسعيد غبت عن الإعلام، وبعد أن عدت للوعي الخميس أخبرت بما حدث فلمت نفسي ما شاء الله لي أن ألومها إذ تغيب بلادي عنها في الملمات، وجاء إلي صديقي الأديب فقال: يكاد جسدي يقف عن العمل أريد أن أكون بمصر الآن وظروفي لا تساعدني بحال من الأحوال. كنت قد حدثت القارئ بعيد أحداث شارع محمد محمود وقبل الانتخابات إن من بيدهم مقاليد الأمور في مصر لما يصرون على إجراء الانتخابات في موعدها عقب هذه الأحداث فإنني لأضع يدي على قلبي لسابق عهدي بسئ أفعالهم، وكان المقال من جزئين نشر الأول وكنت أوكد على المعنى الموضح منذ سطور قليلة في الجزء الثاني الذي كان من المفترض أن يتزامن نشره مع نجاح المرحلة الأولى من الانتخابات، فلم ينشر المقال بموقع كنت احب أن ينشر فيه(بوابة الوفد)، فيما خاطبت الأستاذ المشرف على الموقع الآخر قائلاً بإنني سأوضح سبب خوفي في مقال منفصل، وفيه اسهبت في إن هؤلاء كما قال الراحل الجميل ذي القلب الطيب الذي أخذ به محمد نجيب عن من حكموا مصر بعده: ليس فيهم من واحد قلبه على البلد.. والحوار جزء من شاهد على العصر، في نسخته الإذاعية، جادت به علينا القناة الأولى في تسجيل صوتي لثوان في التسعينيات وغاب عن من اختارها إنها تدين مبارك، وكان يحكم حين الإذاعة ما يزال، ومر الأمر فلم ينتبه إليه أحد كعادة غير الحريصين على البلد بالفعل، المهم أسهبت في كون (هؤلاء) يعدون للضربات من حيث تؤلم لا من حيث لا نتوقع الآن فقط، وإنهم قادرون على كبح جماح البلطجية فلماذا أطلقوهم من قبل على خيرة شبابنا، وتمنيت ألا يفعلوا من بعد، ولم يطل عهد التمني فكانت احداث مجلس الوزراء، ولم أخف اعتراضي على اعتصام الشباب امام مجلس الوزراء ومنع الدكتور الجنزوري من عمله، وإن اختلفنا معه ولكن ليس من حقهم منعه، وليس من حق المجلس العسكري قتلهم. وجادت قرائح المجرمين علينا بما لم يكن بحسبان اكثرنا سوء، إذ انتقلت ساحة الحرب ضد الشباب الثائر من القاهرة إلى بوورسعيد، ومن جانب الخلاف السياسي البحت شكلاً ومضموناً لجانب الخلاف الكروي شكلاً، ومن تكتيكات الشوارع لتكيكات الاستاد الرياضي. وهنا لا بد من وقفة تتبعها عدة وقفات محددة جداً حتى لا يتطاير الكلام: 1 كيف لا يمكن للمنصف توجيه الاتهام للمجلس العسكري الذي يدير البلاد والأمر يخص مبارتين تخص(علية) الأندية في مساء واحد، والتأمين ومجريات ما حدث بصماته واضحة فيها، ولا داعي لسردها إن لم تكن في مجريات ما حدث ففي اختياره لرجال أو آسف للخونة ممن نفذوا من الكبير لمدير الامن لمسئول اتحاد الكرة للبلطجية لروح الانتقامن الواضحة ممن يسمون الالتراس لدورهم في انجاح الثورة. 2 الشاهد التالي مباشرة: هل آن الأوان للانتقام ممن اشتركوا في الثورة وأنجحوها إذن فالمسيرة طويلة جدا، وهاهم يبدأون بالشباب غير المنتمي سياسياً فما باىلكم لو وصلوا للمنتمي، وما بالكم بما سيفعلونه بالمنتمين من شباب الإخوان وغيرهم والمسيرة طويلة، وليت الفرقاء المتحدين على إنجاح الثورة، إن جاز اللفظ مرحلياً يتئدون ويجتمعون من جديد وإلا فالويل كل الويل للجميع مما هو مقبل. وللحديث بقية لبقية من ألم تحول دون إتمامي، لقد علمت مقدار ألو انتزاع قطعة ظاهرية من جلد الجسد وفي الغربة أيضاً فتمنيت أن لو كانت في سبيل مصر التي لم أر مغترباً صادقاً إلا وبكى لعدم وجوده فيها اليوم أو قبله، ولعل لله فيما يحدث شؤون لكن لمن ينتبه ويفهم ويعي و.. يتدبر