ألغت المحكمة الإدارية العليا القرار الصادر بنقل النصب التذكاري لشهداء حرب السادس من أكتوبر عام 1973 من ميدان نهاية شارع الجيش تقاطع صلاح سالم، أمام الإدارة الزراعية بقويسنا بمحافظة المنوفية، إلى مدرسة قويسنا الثانوية بنين، ووضع نافورة للإعلان مكان نصب الشهداء، وما يترتب على ذلك من آثار أخصها عودة النصب التذكارى لشهداء حرب أكتوبر من رجال القوات المسلحة إلى ميدان شارع الجيش وألزمت الحكومة المصروفات. صدر الحكم برئاسة المستشار الدكتور محمد مسعود، رئيس مجلس الدولة، وعضوية المستشارين أحمد الشاذلى والدكتور محمد عبدالوهاب خفاجى، وسامى درويش، ومبروك حجاج، نواب رئيس مجلس الدولة. قالت المحكمة إن الشرع السماوي الحكيم كرّم الشهداء وأعلى من منزلة الشهادة فى مواضع عدة من القرآن الكريم، منها قوله سبحانه وتعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآية (169) من سورة آل عمران، وهو ما استلهمه واستهدى به المشرع الوضعي عندما أوجب على الدولة القيام بواجب تكريم شهداء الوطن عرفانًا لهم بما قدموه وبذلوه من تضحيات عظيمة، وجادوا بأغلى وأثمن ما يمتلكون من أجل تحرير كل حفنة من تراب هذا الوطن من أيدي المغتصب أو المحتل والذود عنه في ملماته، وإعادته إلى الحياة الطبيعية المفعمة بالأمن والأمان والطمأنينة والاستقرار، أو لأجل الحفاظ على تنوع الوطن وتفرده وتماسك أطيافه وفئاته ومكوناته في أزمنة التحزب والفتن، أو لإقامة نظام سياسي ديمقراطي حقيقي يقصى حكم الفرد أو العائلة أو الجماعة أو الحزب الواحد، مستهدفًا فتح باب المشاركة السياسية لكل مواطنيه على أسس التعددية السياسية، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، والتداول السلمى للسلطة، وتلازم السلطة مع المسئولية، واحترام حقوق الإنسان وحرياته، وبتلك الأسس يتحدد مفهوم الديمقراطية التى يبتغيها، وتتشكل معالم المجتمع الذى يُنشده، سواء ما اتصل منها بتوكيد السيادة الشعبية – وهى جوهر الديمقراطية – أو بالاشتراك فى ممارسة السلطة – وهى وسيلتها، أو بكفالة الحقوق والحريات العامة – وهى هدفها، ومعليًا من مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وأضافت المحكمة أنه لا يمر على مصر الكنانة إلا وينضم إلى قافلة شهداء الوطن علّم جديد، وآلاف من الشهداء يرفعون الرايات المعطرة بالدماء الزكية لتبقي راية الوطن عالية، وأن الشعب المصرى بعراقته وأصالته وتاريخه التليد الذى استوعب ما يفوق سبعة آلاف سنة من الحضارة الخالدة وما استشرفه في نضاله الأسطوري وثوراته المجيدة – وفى القلب منها ثورة 25 يناير - 30 يونيو – من أحلام وآمال وتطلعات، لا يمكن أن ينسي أبناءه الشهداء الذين أدّوا الأمانة دفاعًا عن أرضه وعرضه ومقدساته؛ بمساجدها وكنائسها، ولا يستوى لديه من يعمل لنفسه ومن يضحى بحياته ليحيا غيره. وإذا كان من واجب الدولة تكريم شهداء الوطن، فإن هذا التكريم يظل منقوصًا لا يكتمل طالما لم تهتد بدربهم وتحقق أفكارهم وتجسد آمالهم لتكون واقعًا ملموسًا، فالدولة التى تخفى آثار شهدائها أو تدفن أفكارهم أو تبدد تطلعاتهم، تظلم شهداءها ولا تستحقهم. وأشارت المحكمة إلى أن واجب الدولة القيام بتكريم أنبل ما فيها هو في الوقت ذاته إرساءً منها لمبادئ وقيم رفيعة وعظيمة تثبت بها جذورها وتقيم بها أركانها بنيانًا شاهقًا وصرحًا مجيدًا مشيدًا، بأن تغرس في نفوس مواطنيها بأجياله الحالية والمستقبلية أنها تقدر من أفتدى بحياته ليحيا الوطن، وتُعلي وتنشر قيم الإيثار والفداء، والعزة والإباء، والفخر والكبرياء، والقدوة والعطاء، والوطنية والانتماء، فتحصن ذاتها وتقوى منعتها بتوحد جبهتها الداخلية ضد أي اعتداء في كل الظروف والأحوال لتظل رايتها راسخة في الأرض خفاقه في السماء، لا يعتريها ضعف ووهن، أو ينال منها صعاب ومحن، لتواجه العالم بتقلباته ومؤامراته وإرهابه بكل ثقة ويقين في غد واعد ومشرق. وأوضحت المحكمة أنه يقع على عاتق الدولة التزام وواجب بأن تضع من التشريعات ما يكفل تحقيق التزامها الدستورى في المادة (16) من الدستور الحالي الصادر في 18 يناير 2014، بإنشاء هيئة أو جهة مستقلة تقوم على شئون الشهداء وترعى أسرهم ردًا لجزء من معروفهم، وليس أقل من أن تتزين الميادين العامة في شتى ربوع الوطن بوضع النصب التذكارية لهؤلاء الشهداء حاملة أسماءهم وأفكارهم ومكان وزمان استشهادهم، ومُجسدة تلك التضحيات الغالية كتاريخ مجيد ينبغي أن يُحفر في أذهان الخلف عن سلفهم، وألا يترك سُدى لتطويه صفحات العصور والأزمان، وأن يكون هذا التخليد في مكان يليق بهم ليتطلع إليهم المواطنون بكل فخر واعتزاز، وليكون ذلك نبراسًا للكافة بتقدير الدولة لمن يفتديها ويضحى من أجلها. فإذا ما تلكأت جهة الإدارة في ذلك ووضعت أيًا من تلك النُصب التذكارية في مكان متواضع حال كون الأماكن الرفيعة متوافرة لديها فإن ذلك من شأنه الانتقاص من حقوق تلك الأرواح الطاهرة والدماء الزكية، وإخلالًا- في الوقت ذاته – بالمبادئ العامة سالفة الذكر، وهو ما لا يمكن القول به أو السكوت عليه . واستطردت المحكمة، أن ما تذرعت به الحكومة من أن النُصب التذكاري محل الطعن الماثل قد تم وضعه في مدرسة قويسنا الثانوية بنين، وهي من قبيل الأماكن العامة، فذلك مردود بأن التفسير الصحيح للمكان العام يختلف بحسب كل حالة على حدة، وأن ما يعد من قبيل الأماكن العامة في بعض الأحوال قد لا يكون كذلك في أحوال أخرى، وإذا كان تكريم وتخليد ذكرى شهداء الواجب، واجبًا على الدولة بحسبان حماية الوطن والذود عنه أمرًا واجبًا على أبنائه بفئاتهم كافة، فإن مؤدى ذلك ولازمه أن يتم تجسيد هذا المعنى أيضًا تحت سمع وبصر أبناء الوطن كافة، وفى أفضل الأماكن العامة لديها، لا أن يكون منزويًا ومقصورًا على فئة منهم كطلاب المدرسة المشار إليها، وأن وضع نافورة للإعلان مكان النصب التذكارى لا يتفق ودور الجيش في حماية البلاد واستهانة بروح الشهيد. اختتمت المحكمة أن الثابت من عيون الأوراق، خصوصًا مُذكرة دفاع الحكومة المُقدمة بجلسة 18/4/2016، أن الجهة الإدارية أقامت النُصب التذكاري لشهداء حرب أكتوبر المجيدة مُتضمنًا أسماء الذين استشهدوا من مركز قويسنا محافظة المنوفية، ومن بينهم الشهيد عبدالفضيل عبدالستار على – الذى استشهد فى ميدان التضحية والشرف فى 20/10/1973، وفقًا لما ورد بكتاب مدير إدارة السجلات العسكرية رقم 4118 -1473 ق، بتاريخ 20/12/1973 - أمام مبنى الإدارة الزراعية بالحديقة الكائنة بشارع الجيش تقاطع صلاح سالم بمدخل قويسنا، ثم قامت بنقل النُصب التذكاري بأسماء الشهداء ذاتها إلى مدرسة قويسنا الثانوية بنين، وأقامت نافورة للإعلان مكانه، ولما كانت الجهة الإدارية ذكرت سبب إصدارها للقرار المطعون فيه وهو "أن النُصب التذكاري كان مجرد بناء مهمل فى حديقة غير مطروقة تحيط بها الأشجار التى تحجبه عن العيون مما يجعله مجردًا من قيمته التى أرادت أن تحققها الوحدة المحلية من وراء إنشاء النصب... بما يجعل نقله إلى مدرسة قويسنا الثانوية أكثر وقعًا..."، وكان يمكنها تهذيب الحديقة للناظرين، ولما كان أعضاء المجلس الشعبي المحلى لمركز قويسنا، وافقوا بجلستهم المنعقدة فى 13/8/2002 على رفع توصية للوحدة المحلية لمركز ومدينة قويسنا بإعادة النُصب التذكاري لشهداء حرب أكتوبر المجيدة إلى مدخل مدينة قويسنا أمام الإدارة الزراعية بدلًا من مدرسة قويسنا الثانوية بنين، وكان نقل النُصب التذكاري على النحو المتقدم يجافى الغاية المبتغاة منه، سواء بتكريم الشهداء أو غرس روح الوطنية والانتماء فى نفوس المواطنين، فإنه يكون صدر مفتقدًا لركن السبب المبرر لصدوره ومشوًا بعيب إساءة استعمال السلطة، مما يتعين القضاء بإلغائه.