فلاحون ل«الوفد»: الأرض أكلت صحتنا.. ونعيش على الفتات ليسا نجمين من نجوم المجتمع، وليسا بطلين لحادثة ما تشغل الرأى العام، وربما لا يعلم أحدهما أو كلاهما أنه أصل الحكاية فانطلقا يرويان عن نفسيهما الكثير، قد تكون «فضفضة» بالقليل مما يحمله القلب من هموم وأوجاع، ومن الممكن أن تكون التفاصيل غير مبهرة أو مثيرة كعادة الحكايات لكنها بشكل أو بآخر تمس القلب. وبغض النظر عن كون «فرحان» فلاحاً مصرياً مثل ملايين الفلاحين، الذين يكتوون بنار التحول الوحشى فى أحوال الريف المصرى وتغير علاقته الأزلية بالأرض وانهيار قدراته فى مواجهة تحديات مثل ارتفاع تكاليف الزراعة وغرقه فى الديون وانكماش جنته الخضراء أمام عينيه يوماً بعد يوم. وبعيداً عن كون «بهية» فلاحة مصرية تمثل ملايين غيرها من الفلاحات، التى وجدت نفسها فجأة بلا أدنى مقومات للوجود فخلت «الزريبة» من جاموستها ولم تعد تجد ما تحلبه، وعمّ السكون دارها بعد أن هجره الدجاج وخرست الديوك ولم يعد يسمع صياحها فى «الفجرية» ولم يعد هناك ما يدعوها للقيام ل«تعجن فى البدرية» بعد أن خلت الدار من الدقيق.. بعيداً عن كل هذه الملامح الشاحبة والأجساد المسكونة بالمرض والأرواح «المهزومة» يسكن سر الحياة هنا.. بين الفلاحين. أوجاع «فرحان» لم يحن وقت الظهيرة بعد، رغم ذلك كنت أفتش بعينى عنه وسط الحقول الممتدة على الطريق الزراعى، الذى تتتابع على جوانبه قرى تشبه بعضها رغم اختلاف المحافطات. بالكاد تتبين أنك انتقلت من إحداها للأخرى، وبالكاد تعثر على المشهد الكلاسيكى للفلاح المصرى، الذى يهوى بفأسه على الأرض أو يبذر الحبوب أو حتى يحصد بعضاً مما زرع. كأن حالة خمول سادت، السيارة تقطع المسافات ببطء بفعل الزحام وعينى ما زالت تفتش عنه خلف أعواد القمح الكثيفة أو أشجار الفاكهة أو أصناف من الخضراوات ما زالت تشق طريقها من باطن الأرض لترى النور، فى هذه الأثناء كنت أسمعها ترن فى أذنى: «الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا.. وعد وعلينا أمانة. تفضل بالخير مليانة. يا أرض الجدود يا سبب الوجود». كلمات راسخة فى وجدان كل من شاهد فيلم «الأرض» وهى «غنيوة الفلاح» فى مواجهة القهر فهل تعينه الأغنيات على أشد موجات الفقر؟ سؤال تلمحه فى عيون الفلاحين فى بلدنا الذين لم تعد الأرض سنداً لهم ضد غدر الزمان. تجدها تفاصيل بارزة بقوة فى ثنايا آهات الحسرة على أحوالهم. «أبوسويلم، المسحول» بينما تعانق يداه تراب أرضه المروية بالدم. لم يعد يملك ما يعانقه هذا الزمان سوى الجوع والفقر فيما تنهار أرضه أمام عينيه. لم تعد تجود بما يكفى قوت يومه ولا حتى بما يستر الدار الخاوية من خير زمان. تبدد الخير والعدل اللذان حملهما صاحب الرواية الأشهر والأكثر تجسيداً لعلاقة الفلاح بأرضه، والتى باتت عبئاً ينوى التخلص منه ويبيعه لأقرب مشترٍ يغرس فى قلبها أسياخ الحديد ويكتم على أنفاس طينها بالخرسانة. لماذا هانت عليه؟ ولمَ لا يبذل من أجلها الدماء كما فعل «أبوسويلم» فى الفيلم الذى أداه ببراعة الفنان محمود المليجي؟ وقبل أن أطرح السؤال على «أبوسويلم» هذا الزمان تذكرت اختلاف النهايات ما بين نهاية الروائى المبدع عبدالرحمن الشرقاوى وبين النهاية التى أرادها المخرج العبقرى يوسف شاهين، فالمشهد النهائى للفيلم وهو الراسخ فى الروح والوجدان يتشبث فيه الفلاح بالأرض ويسحله طغاة «السكة الزراعية» لكن «أبوسويلم»، الذى ثار وصحبه ضد الاحتلال وخرج فى ثورة 1919 أيام كانوا «رجالة ووقفنا وقفة رجالة» أصر الرجل على أن يموت «موتة رجالة» على ألا تسلب منه أرضه وعرضه. فيما يتصاعد صوت الموسيقى مع غناوى الفلاحين «الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا». المدهش الذى ربما لا يعلمه الكثيرون أن الرواية تنتهى بنجاح الإقطاعى الكبير فى فرض إرادته على القرية لتمر السكة الزراعية من بين أراضى الفلاحين بها وتبور أرض محمد أبوسويلم. لتنهزم الإرادة الشعبية بل ويأتى اليوم الذى تعمل فيه «وصيفة» ابنة «أبوسويلم» بالسكة الزراعية حتى لا تموت جوعاً. ويتعود الفلاح الظلم بل والمدهش أنهم يغنون «ع الزراعية يا رب أقابل حبيبي» ويعتادون الظلم ويدخل فى الضمير الشعبى هذا الاعتياد المشوه. ليؤكد المؤلف بداية صفحة جديدة من علاقة الفلاح بالأرض. فى الخمسينيات بعدما كانت الصورة المتداولة عن حياتهم هى الجمال والراحة والرضا بأى شىء وهو ما كانت تعبر عنه الأغنيات «محلاها عيشة الفلاح.. مطمن وقلبه مرتاح»، ومن وقت هذا الكشف اتضحت حياة البؤس الذى يضيع معه كل غالٍ حتى الأرض. هذا البؤس وتلك المعاناة التى تقدم تفسيراً يبدو منطقياً لتقلص مساحات الأرض الزراعية تناقصاً سريعاً فى مساحة الأراضى الزراعية بسبب التعدى عليها رغم أن القوانين تجرم ذلك إلا أن جملة المستقطع من الأراضى الزراعية يتجاوز (30) ألف فدان سنوياً حتى بلغت جملة المستقطع من الأراضى الزراعية فى السنوات العشر الأخيرة أكثر من 1٫5 مليون فدان. هذه المساحات المستقطعة من الأراضى الزراعية مرشحة للزيادة المستمرة وهذا ما حذرت منه العديد من الدراسات الحديثة التى رصدت سوء أحوال فلاحى مصر وانخفاض العائد من الأراضى نتيجة ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج الزراعى، بالإضافة إلى صعوبة تسويق المحصول لعدم وجود سياسة سعرية واضحة من جهة، واستغلال التجار للفلاحين. أرض عجوز بجوار أرض لم يعد يستطع خدمتها استند الفلاح العجوز على شجرة بالكاد تظلل موضع جسده النحيل. «فرحان.. اسمى فرحان، تسألينى على إيه أقولك ماعرفش».. هكذا بادرنا الرجل بإجابة سؤال لم نسأله بعد، لكن من الواضح أن الفلاح العجوز يخبئ فى صدره الكثير من الشكوى، كان يتحدث بكلمات متقطعة بينما انشغلت عن حديثه للحظات أطلقت فيها بصرى على امتداد الأرض الخضراء، تنبعث منها رائحة الخير -هكذا أردت أن أصدق- بينما يقاوم الرجل مجرد أفكارى «التخيلية» عن خير الأرض. انهال علينا بالشكوى والضجر تتخلل كلماته آهات الألم من أمراض الدنيا التى احتلت جسده فبدا عجوزاً هرماً كأنما يحتضر. خمسة قراريط، كل ما أمتلكه، أزرعها «برسيم» للبيع وليس للجاموسة فلا نمتلك أية بهائم «اللهم لا اعترض» أخدتهم الشوطة اللى بيقولوا عليها القلاعية رغم أننا مطّعمنها، وأحياناً نزرع شوية خضار. وبحكمة الفلاح الفصيح قال «فرحان»: أيام السادات الفلاح ساب أرضه وكلهم سافروا الخليج عشان البترول وكان نفسهم يرجعوا بالتليفزيون والتلاجة ولما رجعوا بقوا يقلعوا الشجر بنفسهم من الأرض ويبوروها ويبيعوها مبانى من الخرسانة. وده كان أغرب شىء حصلنا من أيام الفراعنة. لملم الفلاح العجوز أحزانه وصرح بأنه مريض والأرض «محتاجة عافية» وقال: أستعين ب«أُجرى» وبياخد اللى بتجيبه مابشوفش خيرها والسماد غالى والمبيدات فوق طاقتنا والفلاح اللى عنده كام فدان بيتخرب بيته علشان ياكل منهم وفيه ناس دخلت السجن بسبب الديون ولو زرعنا شوية فاكهة أو خضار التاجر يشتريهم «فطيس» ويروح يبيعهم فى مصر بالغالى. سألته: هل أولادك فلاحون مثلك؟ - لا طبعاً، كلهم اشتغلوا حاجات تانية وقالوا الأرض خراب بيوت. والحكومة مابتساعدش ولما كان عندنا أرض بجد مفيش تصريف للمحصول وكان القمح يتخزن عندنا. زمان كان الفلاح يجوز ولاده ع القطن أو القمح.. الزمن ده الفلاح مش لاقى ياكل من خير الأرض وعايش زى بتوع مصر ع العيش السوقى والفراخ البيضا. أرض بلا خير مساء الخير يابا الحاج.. ألقى الحاج «محمد» التحية على جاره وهو راكب حمارته الهزيلة وأردف قائلاً: سيبك من الأرض يا مدام خلينا فى رجلى اللى أكلتها العربية وأنا معدى ع الزراعية من خمس سنين، وركبت مسامير وشرايح فى المستشفى وبرضه عاجز بيها ومن وقتها حالى واقف وأرضى كلوها اللى بيزرعوها. مفيش تأمينات ولا تعويضات والمحامى باعنى لصاحب العربية. ثم نظر لجاره الحاج فرحان، وقال: الفلاحين أحوالهم طين واللى عنده أرض بيشحت قل لها إن شيكارة الكيماوى أُم 80 جنيه بقت ب200 والزرع بيتحرق ومايرميش محصول والجمعية الزراعية ضد الفلاح مش معاه والفلاح مش عارف يشرب كوباية لبن ولا ياكل بيضة ولا يجوّز عيلة، حتى كوباية الشاى مش لاقيينها وكيلو السكر بالضالين. لم أحاول السيطرة على غضب الرجل الذى يحتاج كل يوم لمن يعينه على ركوب حمارته ولم أندهش عندما قال: «الأرض مافيهاش خير زى الأول والناس بتبيع أو تبنى بيوت لأن الناس كتير وعيالهم عاوزة تتجوز ومايقدروش يشتروا بيوت ومش قدامهم إلا أنهم يبيعوا الأرض ويشتروا أو يبنوا عليها ويرجعوا يلوموا الفلاح إنه باع أرضه». دموع بهيّة طرحة وجلابية.. حلق مخرطة وكردان زتون.. طيور تنقر الأرض وكتاكيت تخرج من البيض، صوت الحليب الطازج ينساب من ضرع البقرة السمينة.. وجه صبوح وجسد فى رشاقة الفراشات.. رائحة الخبز تنبعث من فرن فلاحى صنعته بنفسها من الطين.. تلك كانت «بهيّة» وحكايتها الأسطورية. مدرسة «الكفاية الإنتاجية» الأولى فى البشرية منذ عهد الفراعنة.. تلك هى لوحة الجمال الأكثر إبداعاً فى ريف مصر.. وتلك نفسها هى الصورة التى اختفت لتحل محلها صورة تثير الشفقة لامرأة ضعيفة شاحبة سكن قلبها الهم والغم.. وابتلع جسدها غول المرض والضعف والهزال.. وغاصت ملامحها فى بئر الأحزان. الشكوى هى أول ما قابلتنا به، وكأنها بركان غضب على وشك الانفجار لكنها تشكو بصوت ضعيف مثل حالها لا تقوى على الصراخ، بهية الفلاحة المصرية، التى قاربت على الستين عاماً فيما تبدو امرأة فى العقد الثامن بلا مبالغة تجذبنى من يدى وتلف بى الدار الخاوية على عروشها وكأنها تريد أن تُشهد العالم على ما آل إليه حالها. فتحت باب حجرة كبيرة خالية تقريباً وتقول: دى كانت الزريبة وضّبناها وردمناها بعد ما بعنا البقرة وجوزنا الجدع. تدمع عين الفلاحة المسكينة وكأنها تتذكر بقرتها ثم تبكى بحرقة شديدة: كانت حلوة وماليا عليا الدار بالخير لبن وأعمل جبنة وقشطة، ناكل لما نشبع ونهادى الجيران كعادتنا. كبر الجدع واشتغل فى الأرض مع أبوه وأصبح الجواز لازم وليس معنا شىء ولا فلوس ولا دار ولم يكن أمامنا إلا بيع الأرض أو البهائم. تمسح الأم دموعها وتقول: فدان وثلث نعرضهم للبيع يجيبوا ثلاثة آلاف جنيه. يعنى كأننا بنرميهم. والراجل كان هيروح فيها من الحسرة على أرضه.. اضطرينا لبيع البقرة، ومن وقتها الخير انقطع من الدار. تشير الفلاحة إلى مكان آخر فى الدار.. بقايا قش وأطلال فرن.. وأطلال حياة بمعنى الكلمة: كنت أخبز العيش وهذا الشارع كله بطوله وعرضه كان يأكل عيش «بهيّة» ويحلف بحلاوته. وماذا حدث؟ - انقطع الدقيق من الدار لما بطلوا يزرعوا القمح وقالوا نزرع شجر برتقال والزرع بيقع قبل ما الفاكهة تستوى، الراجل قالى الموالح أحسن والقمح بيخسر فطاوعته ويا ريتنى قلت لأ. وأحياناً كان يزرع ذرة كنت أنشفه فوق السطح وأطحنه وأخبزه.. أصبحنا فى حال غير الحال مش لاقيين الدقيق ونشترى العيش من الفرن ومابيكفيش. نظرت إلى «بهيّة» لأواسيها وقلت: معلش يعنى الطيور برضه خير فى البيت. زاد حزنها وقالت وقد انسابت الدموع من عينيها: فين الطيور دى؟ كان زمان ولغاية وقت قريب كان البيت مليان فراخ وبط ووز وحمام وندبح وناكل ولا نشترى لحم ولا فراخ من برة. وماذا أصابها؟ - لم يصبها شىء كانت زى الفل لكن خوفونا وقالوا لازم تدبحوا الطيور علشان الانفلوانزا وإلا هيحبسونا. دبحتها بإيدى.. يومين بطولهم أدبح وأنا بأبكى وكنت هموت من الحزن عليها. كانوا ماليين عليا الدار أقوم من الفجر أطعمها من خير الدار وأسقيها وأشوف بيضها بعينى يفقس ويكبر ويبيض ونأكل ونشبع، تواسى «فاطمة» جارتها «بهيّة» وتقول: كلنا عملنا كدة يا «أم إمام» افتكرنا إن الفراخ هتموتنا منهم لله. ثم مسحت دموع جارتها وقالت: ماتزعليش أنا اشتريت شوية دقيق والله الكيلو ب8 جنيه وهنخبز شوية عيش «مرحرح» زى زمان. نظرت إلى ما تقوم به جارة «بهيّة» وسألتها: وهل ستكفى هذه الكمية للبيتين؟ قالت: لا طبعاً لكن حاجة نفرّح بيها العيال وبعدين أنا مريضة وكل الفلاحين هنا عيانين والمرض هد حيلهم يعنى أنا كليتى تعبانة ومحتاجة عملية وماعندناش فلوس، و«بهيّة» عضمها وصدرها تعبانين وبرضه الفقر هيموتها بمرضها ولا أحد بيسأل فينا إحنا الفلاحين لا أحد يشعر بنا كأننا «من بلد تانية». كنا نزرع الخضراوات ونأكل من أرضنا ونربى الطيور ونأكل لحمها ونبيع منها فى السوق، وكنا نطبخ بالسمن البلدى من خير البقرة ونعمل جبنة قشطة ونغمس عسل وفطير. كانت تحكى كأنها الأسطورة والخيال. وتحكى وتحكى: كان عندى صحة أخدم 8 عيال وأبوهم وأجرى ع الغيط شايلة الصينية من كل شكل ولون علشان ياكلوا ويعزقوا الأرض. وأجرى أشيل «الوعى» وأطلع ع الترعة وأغسلها تضوى ضى فى عين الشمس. عادت «بهيّة» لركن فى دارها، تكومت بجسدها النحيل لترفع رأسها بالدعاء أن يفك كربها ويعيد إليها دارها التى كانت، وقالت: الدنيا لم يعد بها الخير مثلما تربينا وتعودنا وأولادنا مساكين لا اللى شغال بالفاس عارف يعيش ولا اللى اشتغل فى مصر بالدبلوم مرتاح.. ولا إحنا عارفين نشترى الدوا ولا ناكل لقمة حلوة. الفراخ البيضا ب30 جنيه ومالهاش لازمة واللحمة ب130 وما بنشوفهاش ولا حتى بنسأل عنها. أخيراً عثرت على ابتسامتها حينما قالت: الحمد لله عشنا يومين حلوين زمان نصيبنا لحد كده والباقى فقر ومرض. أدركت من كلماتها أنها ابتسامة دفنتها فى ذكريات زمان وتستدعيها وقتما يشتد بها الحزن على دارها وأرضها وأولادها عسى أن توافق ساعة النهاية ابتسامة حتى ولو كانت من الماضى الجميل.