نشرت جريدة «هفنجتون بوست» فى 4/12/2011 مقالاً للدكتور ستيفن زونس، أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة سان فرانسيسكو عن الثورات السلمية العربية، وقدرتها على تحقيق أهدافها يعتبر حافزاً لثورتنا الطاهرة التى اندلعت فى 25 يناير ورداً مفحماً على الفلول وحلفائهم من كل القوى الرجعية التى تشكك فى نجاح الثورة، وتهلل بأنها أجهضت أو على وشك أن يتم إجهاضها. يقول «زونس»: بينما كنت جالساً فى مقهى بالقاهرة على بعد قليل من ميدان التحرير منذ شهرين لم أستطع تجنب مشاهدة شاشة التليفزيون فى ركن المقهى وهى تذيع أخبار المساء، فقد كانت العادة فى مصر والدول العربية الأخرى أن تكون أخبار النشرة هى أخبار الرئيس أو الملك وهو يلقى خطاباً أو يحيى زائراً أجنبياً أو يزور مصنعاً أو يقوم بأحد أعماله الرسمية، ولكن هذا المساء كانت الأخبار المذاعة هى عن إضرابات عمالية بالإسكندرية، أو أقارب الشهداء الذين سقطوا فى معارك الثورة خلال فبراير وهم يتظاهرون احتجاجاً أمام وزارة الداخلية، أو أنباء تطورات الصراع من أجل الديمقراطية فى اليمن وسوريا. ولم يكن هناك شىء أفضل من ذلك لإبراز التغيير العميق فى العالم العربى الذى حدث خلال العام الماضى، لم يعد القادة هم صانعو الأخبار، ولكن الشعوب العربية نفسها هى التى أصبحت تصنع الأخبار. لقد اكتسح التفاؤل الأول الذى صاحب الثورات السلمية مثل ثورة تونس ومصر اللتين أطاحتا بالديكتاتوريين فى بداية العام الساحة السياسية، وامتد سريعاً إلى باقى الساحة العربية بطريقة مشابهة لسقوط الأنظمة الشيوعية فى أوروبا الشرقية سنة 1989، ولكن التفاؤل سرعان ما انحسر، فالقمع الجارى حالياً فى مصر والذى يمارسه الحكم العسكرى الذى تسانده أمريكا يوضح لنا أن إسقاط الدكتاتور هو مجرد الخطوة الأولى فى الطريق للتحول الديمقراطى، وغطى التمرد المسلح الذى سانده حلف الناتو فى ليبيا والذى انتهى إلى قتل معمر القذافى دون محاكمة قانونية، غطى بستار داكن ما كان فى حقيقته ظاهره ثورة إقليمية سلمية إلى حد كبير، ومع هذا فمازالت هناك أسباب لأن نأمل فى أن ما يسمى بالربيع العربى سيحول الشرق الأوسط إلى الأفضل فالتغيرات السياسية الكبرى تستغرق وقتاً، فقد استغرق الأمر قرابة العشرة أعوام بين مظاهرات عمال الميناء فى ميناء جدانسك البولندية وبين سقوط الحكم الشيوعى فى بولندا، واستغرق الصراع الديمقراطى فى شيلى ضد حكم الدكتاتور بينوشيه ثلاث سنوات بين أول موجة إضرابات ضخمة وبين إجراء الاستفتاء الذى انتهى بإخراج الدكتاتور من السلطة، وفى 1986 عندما سقط الدكتاتور الفلبينى فردناند ماركوس من السلطة كان سقوطه تتويجاً لعدة سنوات من الكفاح الشعبى ضد نظام الحكم بقوانين الطوارئ وحتى حركات الإصلاح التى تشتعل فى الدول الديمقراطية المتطورة كثيراً ما تستغرق سنوات عديدة حتى تحقق أهدافها ومثال ذلك الصراع من أجل المساواة فى الحقوق المدنية الذى قام به السود فى الجنوب الأمريكى، والواقع أن كون الإنسان على حق وأن أغلبية المواطنين تسانده لا يكفى فى حد ذاته لتحقيق التغيير، فالتغيير يحتاج لتخطيط استراتيجى طويل المدى، وإلى تتابع منطقى لتكتيكات التغيير، وإلى القدرة على الاستفادة من مواطن القوة لدى الراغب فى التغيير ومواطن الضعف فى خصومه الذين يريد إسقاطهم من السلطة، وفى الدول التى يوجد فيها مجتمع مدنى ضعيف تقليدياً وجهاز قمع قوى لدى الدولة نادراً ما يحدث تغيير سريع، ومع ذلك فالأحداث الدرامية التى وقعت خلال العام المنصرم، قد أوضحت لنا أين تكمن القوة الحقيقية فى نهاية المطاف، فحتى لو كانت الدولة تحتكر القوة العسكرية وتحظى بتأييد القوة العظمى الوحيدة فى العالم فإنها تظل عاجزة أمام شعب يرفض الخضوع لسلطتها، فمن خلال الإضرابات العامة التى تملأ الشوارع، والرفض الجماعى لطاعة الأوامر الرسمية، وغير ذلك من صور المقاومة السلمية لا يمكن لأى حكم مهما كان طغيانياً أن يستمر فى السلطة. وقد قامت مؤسسة فريدم هاوس الأمريكية سنة 2005 بإجراء دراسة بعنوان «كيف تكتسب الحرية: من المقاومة المدنية إلى الديمقراطية الراسخة»، وقد رصدت هذه الدراسة أن من بين حوالى سبعين دولة تم فيها التحول من الحكم الدكتاتورى إلى درجات مختلفة من الحكم الديمقراطى خلال الثلاثين سنة الماضية، فإن أقلية ضئيلة من هذه الدول تم فيها هذا التحول عن طريق الكفاح المسلح من القاعدة الشعبية أو الإصلاح الذى تقوم به السلطة الحاكمة من تلقاء نفسها، ونادراً جداً ما كان التحول الديمقراطى يتم عن طريق الغزو العسكرى من الخارج، فثلاثة أرباع الدول التى تحولت من دكتاتورية إلى ديمقراطية تم التحول فيها عن طريق منظمات المجتمع المدنى التى استخدمت الوسائل السلمية فى صراعها للوصول للديمقراطية. وبالمثل فإن الكتاب الذى صدر مؤخراً للكاتبين إيركا شنويث وماريا استيفان بعنوان «لماذا تنجح المقاومة السلمية، المنطق الاستراتيجى للصراع السلمى»، يعرض تحليلات لثلاثمائة وثلاثة وعشرين تمرداً رئيسياً من أجل الحصول على حق تقرير المصير وعلى الحكم الديمقراطى منذ سنة 1900. ويوضح الكتاب أن المقاومة المسلحة لم تنجح إلا بنسبة 26٪ فقط من الحالات، بينما وصلت نسبة نجاح حركات المقاومة السلمية إلى 53٪، فبين أفقر شعوب أفريقيا وشعوب شرق أوروبا الناهضة نسبياً وبين أنظمة الحكم الشيوعية والدكتاتوريات العسكرية اليمينية، وعلى اتساع المجال الثقافى والجغرافى والأيديولوجى فإن قوى الديمقراطية والتقدم قد أدركت قوة المقاومة السلمية للتحرر من الطغيان، ولم تأت هذه النتيجة فى أغلب الأحوال من التزام أخلاقى أو روحانى نحو المقاومة السلمية، ولكن ببساطة لأن المقاومة السلمية أثبتت قدرتها على النجاح. هناك تاريخ طويل للمقاومة السلمية فى الشرق الأوسط، من صراع مصر 1919 للاستقلال من الاحتلال البريطانى حتى ثورة الأرز اللبنانية سنة 2006 التى أنهت السيطرة السورية التى استمرت سنوات طويلة على لبنان ولإيران تاريخ طويل من هذه الانتفاضات مثل إضرابات التبغ سنة 1890 والثورة من أجل الدستور سنة 1906، وإسقاط حكم الشاه سنة 1979، والثورة الخضراء التى أجهضت سنة 2009، أما فلسطين فقد شهدت الإضرابات العامة خلال ثلاثينيات القرن الماضى، والانتفاضة الأولى أواخر الثمانينيات والصراع الأخير ضد الحائط العازل الذى أقامته إسرائيل لتوسيع مستوطناتها فى الضفة الغربية، وفى حالة السودان فإن المقاومة السلمية أسقطت الدكتاتوريات العسكرية سنتى 1964 و1985، رغم أن الحكومات الديمقراطية التى تلتها تم إسقاطها بانقلابات عسكرية. إن الأحداث الدرامية التى وقعت خلال العام الماضى تمثل تصعيداً مثيراً لظاهرة المقاومة السلمية التى ظلت تنمو فى المنطقة وعلى مستوى العالم فى الحقبات الأخيرة إنها تنبهنا أنه لكى تأتى الديمقراطية العالم العربى فإن ذلك لن يكون من خلال كفاح مسلح أو تدخل أجنبى أو تصريحات براقة من واشنطن، ولكن الديمقراطية ستأتى من الشعوب العربية عندما تستخدم قوة المقاومة السلمية. وإلى هنا ينتهى عرض الدكتور زونس، وإذا طبقنا ما جاء على ثورتنا المجيدة التى اندلعت فى 25 يناير فإن التفاؤل الكامل بنجاح أهدافها يملؤنا، فمهما كانت العقبات التى تعرضت ومازالت تتعرض لها ومهما كانت ضراوة الأعداء المحيطين بها وعلى رأسهم أمريكا وإسرائيل وأنظمة الحكم القمعية فى السعودية ومشيخات الخليج، ومهما كانت أفعال المجلس العسكرى من قمع ومحاكمات عسكرية لشباب هذه الثورة الطاهر، ومهما كانت الفلول تمول بالأموال المنهوبة وبالمأجورين أعمال الثورة المضادة ومهما كانت القوى الانتهازية تحاول ركوب الموجة والاستيلاء على الثورة لحسابها فإن الشباب الواعى الذى فجرها كفيل بحمايتها حتى تحقق أهدافها، ولن يبخل عليها بأرواحه أو دمائه، كما أثبت فى معارك الجمل وماسبيرو وغيرها من المعارك الدنيئة التى تعرض لها، وستثبت الأيام أن الثورة ستنتصر إن شاء الله وتخرج من بين صفوفها أردوغان مصرى يعيد الجيش إلى ثكناته بعد أن يكتمل بناؤها السياسى وتتول حكم البلاد، وعلينا أن نذكر أن ثورة 1919 الخالدة لم تتولى الحكم إلا سنة 1924 بعد أن استكمل الزعيم الخالد سعد زغلول تشكيل حزب الوفد، إن المسألة مسألة وقت وستثبت الأيام صدق ظننا بعون المولى تبارك وتعالى. -------- نائب رئيس حزب الوفد