مرارا وتكرارا يجب أن نؤكد على حقيقة أسطع من نور الشمس وهى أن ثورة 25يناير هى ثورة كل المصريين ولا ينبغى أن أسمح لنفسى أو لأحد بأن ينسبها أو يختزلها فى شخص أو مجموعة أو فصيل، أو ينسبها لجهات خارجية أو مجموعة من الشباب ينقصها الخبرة السياسية وربما يغيب عنها فى براءة عمرها وعنفوانها الثورى أنهم يمكنهم استخدام العدو لنصرة قضيتهم الوطنية مجانا دون مقابل، أو يمكن لأعداء الأمة أن يتحولوا تحت أى ظرف إلى مناصرين، وما حدث فى أفغانستان حين دفعت أمريكا الشباب العربى لحرب السوفييت بالوكالة عنها ثم انقلبت على هذا الشباب المجاهد وطاردته ليس درسا بعيدا. على هذه الخلفية أكتب الآتى لنفهم حقيقة ما حدث ، ليقودنا هذا الفهم إلى أن نبنى عليه ونؤسس للمستقبل. (1) الربيع العربى، ومن قبله الثورات الملونة التى اجتاحت بعض البلدان فى الغرب والشرق من صربيا إلى جورجيا ولبنان وما حدث فى إيران عقب الانتخابات الرئاسية إلى آخر هذه الهبات والثورات التى اعتمد التحريض عليها وإطلاقها على نظرية أساسية تم التأطير لها والعمل على تطويرها لتحويل جانبها النظرى إلى جانب عملى يصلح للتطبيق على الأرض. وتعتمد هذه النظرية على إيجاد بديل سلمى للحرب والعنف لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية التى تعطل مشاريع الغرب فى التغيير، ولاحظ أننا نتحدث عن أنظمة ديكتاتورية، ولاحظ أيضا أن هذه الأنظمة تعطل عن وعى أو بسبب طبيعتها المسيطرة والمتحكمة فى الأمور مشاريع الغرب الاستعمارى الساعى إلى تغيير هويات ومعتقدات الشعوب التى تخضع لهذه الديكتاتوريات أو تناوئ هذا الغرب مثلما حدث فى حالة سلوبودان ميلوسيفتش الرئيس الصربى وإدوارد شيفرنادزه الرئيس الجورجي، وحالات أخرى لدول تحكمها أنظمة تسعى لبناء قوتها الذاتية ومقاومة التمدد والاستعمار الغربى أو مقاومة ربيبته إسرائيل مثل إيران، وبنسبة أقل سوريا ونظامها الذى رفع لواء الممانعة ضد إسرائيل والغرب قبل أن يسقط فى فخ الانفتاح على الغرب والسماح له بالعبث فى الداخل السورى وخاصة فيما يخص الجانب الاقتصادى. (2) الأجهزة الغربية التى تخطط وتنفذ أجندات التغيير حول العالم وجدت فى أفكار أستاذ أمريكى متخصص فى العلوم السياسية يدعى «جين شارب» الأسلوب الأمثل لإشعال الثورات عن بعد والإطاحة بالأنظمة التى يريد الغرب الإطاحة بها دون تدخل مباشر، فقط التكفل بالتمويل والمعونة اللوجيستية (فى حالة ليبيا خرج السيناريو عن السيطرة فاضطر الغرب للتدخل العسكرى الغاشم الذى يحصد أرواح الليبيين دون تمييز ويدمر البنية التحتية للدولة). «جين شارب» البالغ من العمر الآن حوالى الثالثة والثمانين تبنى على المستوى الشخصى منذ صدر شبابه الأول نبذ العنف المسلح لحل المشكلات بين الدول، هذه العقيدة التى كلفته تسعة أشهر قضاها فى السجون الأمريكية عندما رفض الاشتراك فى الحرب الكورية فى منتصف الخمسينيات، وفيما بعد عمل «شارب» على تحويل أفكاره إلى منهج علمى متماسك تم استلهام أسسه من النضال السلمى للزعيم الهندى «الماهاتما غاندى» وكتابات المؤلف والفيلسوف الأمريكى الذى عاش فى القرن التاسع عشر «هنرى ديفيد ثورو»، ومضى شارب ينفق جانبا من عمره يؤسس ويؤطر لنظريته التى تدعو لاستخدام الكفاح السلمى كوسيلة لممارسة القوة فى فترات النزاع، وفى عام 1983 ولدت ما يمكن أن نطلق عليه استراتيجية إسقاط الأنظمة غير المريحة لقوى الاستعمار الإمبريالى «أمريكا ودول الغرب»، وفى هذا العام نفسه أنشأ شارب معهد «ألبرت اينشتاين» كمنظمة غير ربحية متخصصة فى دراسات العمل السلمى وتعزيزه كوسيلة للحصول على الحقوق والتخلص من الظلم حول العالم .. وهذا هو الجانب المعلن فى المسألة، أما الجانب غير المعلن والذى لم يعد سريا فهو أن المنهج والنظرية تم تحويلهما فى جانبهما الإنسانى النبيل إلى الاستخدام الشيطانى الخبيث، وفى التطبيق العملى فقد تم إنشاء والدفع بعدد من المؤسسات المعاونة للتمويل والتدريب تعمل جميعها فى خطوط متوازية لتحويل منهج «شارب» إلى واقع عملى فى المجتمعات المستهدفة، وفى هذا الصدد يمكن أن نذكر المؤسسة الوطنية للديمقراطية ويرمز لها اختصارا ب «NED» والمعهد الجمهورى الدولى (IRI) والمركز الدولى للصراعات بالطرق غير العنيفة (ICNC) وبيت الحرية (FREEDOM HOUSE) وخلف هذه المعاهد وغيرها تقف وزارة الخارجية الأمريكية، والوكالة الأمريكية للتنمية (US Aid) الجهة الرئيسية التى تعمل على تنفيذ برامج المصالح الاقتصادية والاستراتيجية لأمريكا حول العالم، ويتم من خلال أقسامها المتخصصة رعاية المبادرات فى الدول التى تمر بمراحل انتقالية وإعادة البناء بعد حركات التمرد أو إسقاط الأنظمة، وتساهم مع شركاء آخرين فى تمويل المنظمات والهيئات الأخرى، مثل المؤسسة الوطنية للديمقراطية وكان أول ظهور لها خلال حرب الرئيس الأمريكى الأسبق «ريجان» ضد نيكاراجوا وفى هذه الحرب دعمت هذه المؤسسة الأحزاب المناهضة لجبهة ساندنيستا الوطنية، وفى مهمة أخرى لها عملت هذه المؤسسة جاهدة على زعزعة نظام الحكم الوطنى فى فنزويلا وسعت لإسقاط الرئيس الفنزويلى شافيز المناهض الأول لسياسات الولاياتالمتحدةالأمريكية، ليس فى بلاده فقط ولكن فى أمريكيا الجنوبية كلها، وفى تقسيم آخر للأدوار تقوم مؤسسة «فريدوم هاوس» بدور الوسيط الذى يحتضن ويرعى تنشئة بعض مؤسسات المجتمع المدنى ونشطاء التغيير فى المجتمعات المستهدفة بالتغيير وتولى أعمال التدريب داخل وخارج هذه البلاد اعتمادا على نظرية «جين شارب» للكفاح السلمى واللاعنف. (3) «الخيار النهائي» هذا هو الاسم أو الوصف الذى يطلقه السياسيون على الحروب ، وتعتمد الأنظمة والحكومات والدول هذا الخيار عندما تستنفد جميع الخيارات الأخرى لحسم النزاعات والصراعات خاصة السياسية منها. أما جين شارب فقد وضع نظريته الرافضة للحرب أو الحل العنيف للصراعات على أساسين؛ الأول سعى فيه للبحث عن فهم بديل لطبيعة مشكلة العنف، والثانى طرح فيه حلولا تمكن بشكل كبير من تقليص الاعتماد على خيار الحرب أو وسائل العنف الأخرى لحل أى صراع، أو بمعنى آخر توفير وسائل بديلة تكون قوية بما يكفى للسيطرة على النزاعات، وبحيث تضمن هذه الوسائل البديلة فرصة للنجاح تعادل أو تفوق خيار العنف. ووضع شارب شروطا لهذه الوسائل البديلة أهمها أن تكون (هذه الوسائل) قادرة على معالجة المشكلات الصعبة مثل الصراع ضد الديكتاتوريات ومقاومة الاحتلال والعدوان الأجنبى والانقلابات الداخلية والقمع والقتل ومحاولات القتل الجماعى والتهجير، تلك المشكلات التى كان يٌعتقد أنه لا يمكن حلها دون اللجوء إلى العنف، ووجد شارب أنه يمكن حلها باللجوء إلى مصادر قوة أخرى موجودة فى المجتمعات تعتمد على التعاون بين الشعب والمؤسسات، ويقول شارب إنه حتى قوة الديكتاتوريات تنبع أساسا من مصادر القوة تلك، ويقول أيضا إن هذا النوع من النضال السلمى واقعى جدا وقديم جدا، لكن المؤرخين يتجاهلونه ، ويعطى أمثلة بارزة فى هذا المقام ممتدة على رقعة الزمن منذ القرن الثامن عشر وحتى نهايات القرن العشرين ومنها على سبيل المثال الثورة الروسية التى تفجرت عام 1905م ، واستخدمت الإضرابات والمقاطعة الاقتصادية والنقابات العمالية كوسائل سلمية للصراع، وكذا مقاطعة الصينيين للمنتجات اليابانية 1908م ، والإطاحة بالأنظمة العسكرية فى السلفادور وجواتيمالا 1944م وحتى قيام المواطنين الصرب بمسيرات يومية فى بلجراد ومدن أخرى للاعتراض على نظام حكم سلوبودان ميلوسوفيتش امتدت لسنوات طويلة، ودعمتها حركة أطلقت على نفسها «أوتبور» استطاعت فى النهاية إسقاط ميلوسوفيتش لتتحول هذه الحركة فيما بعد إلى حالة أو دليل عمل أو ورشة كبيرة مدعومة من الغرب لتدريب النشطاء السلميين حول العالم لإسقاط أنظمة الحكم المغضوب عليها أو تلك التى تقرر إزاحتها بعد استنفاد أغراضها، للانتقال وبلوغ درجة أعلى فى مخطط التغيير المنشود. (4) تفاصيل أخرى عديدة تشملها بحوث «شارب» للكفاح السلمى الذى يشمل أساليب مثل المظاهرات والإضراب عن العمل ومقاطعة الانتخابات والعصيان المدنى وتعطيل الأعمال الاعتيادية للنظام ووضع الخصم (السلطة) فى وضع غير متوازن أشبه بما يحدث فى المصارعة اليابانية التى تجرى بين خصمين أحدهما قوى والآخر ضعيف، ويتم فيها توجيه الضربات لمصادر القوة السياسية للسلطة، وتشمل أيضا برامج وطرق نجاح هذه الأساليب، وتفاصيل أخرى كثيرة تم تدريب مجموعات من شباب 6إبريل وعدد آخر من النشطاء الشبان عليها وكشفت عنها بعض المصادر الإعلامية الغربية ومنها ما جاء فى مقالتين نُشرتا فى عددين متتاليين من مجلة التايمز، وتم فيهما الكشف عن أنه كان هناك معاونون لجين شارب فى الوقائع المتعلقة بتدريب نشطاء التغيير من الشبان العرب، وأشارت التايمز إلى ثلاثة أشخاص بالتحديد وسمتهم (بالإضافة إلى شارب الأب الروحى للمجموعة) ومن هؤلاء الثلاثة ستيفن زونس الذى يتشارك مع شارب فى جانب كبير من رؤيته، والثانى بيتر أكرمان تلميذ شارب الأكاديمى منذ سبعينيات القرن العشرين ومؤسس ورئيس المعهد الدولى للنضال السلمى هذا الشخص الذى زار القاهرة متخفيا منذ عدة سنوات على رأس مجموعة من الأعضاء العاملين فى معهده وأدار ورشة عمل تم فيها تدريب بعض من النشطاء الشبان، وقام بتوزيع بحث شمل 198أسلوبا للعمل اللاعنفى وتكتيكاته التى تترواح ما بين الإضراب عن الطعام إلى الاحتجاج بخلع الملابس حتى الكشف عن عملاء سريين داخل الحكومة المصرية .. وللحديث بقية.