التنمية المحلية تتلقى تقريرًا حول نتائج المرور الميداني على 10 مراكز تكنولوجية في قنا    رشوة أوروبية في ملفي الهجرة وغزة.. أبرز نتائج زيارة المنقلب السيسي إلى بلجيكا    استشهاد طفل بنابلس، والاحتلال يقتحم طوباس بالضفة الغربية    أحمد حجازي يقود نيوم ضد الخليج بالدوري السعودي    أحياها محمد ثروت ومروة ناجي.. ليلة في حب حليم ووردة بمسرح النافورة    جديد سعر الدولار اليوم وأسعار العملات أمام الجنيه    مصطفى البرغوثي: الموقف المصري أفشل أخطر مؤامرة ضد الشعب الفلسطيني    الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين: نجاح الجهود المصرية بتثبيت وقف النار إنجاز كبير    انخفاض جماعي في أسعار الفراخ والبيض اليوم 24 أكتوبر    طقس اليوم الجمعة.. تنبيه لتغيرات مفاجئة    تعرف على الحالة المرورية اليوم    موعد تطبيق التوقيت الشتوي في مصر 2025.. تعرف على تفاصيل تغيير الساعة وخطوات ضبطها    هنادي مهنا: «أوسكار عودة الماموث» يصعب تصنيفه وصورناه خلال 3 سنوات بنفس الملابس    فردوس عبدالحميد: كنت خجولة طول عمري والقدر قادني لدخول عالم التمثيل    محمد ثروت: «القلب يعشق كل جميل» غيّرت نظرتي للفن.. والأبنودي الأقرب إلى قلبي و50% من أعمالي معه    التفاصيل الكاملة ل اللوتري الأمريكي 2025 (الشروط ومن يحق له التقديم)    قاذفات «بي-1» الأمريكية الأسرع من الصوت تحلق قرب ساحل فنزويلا    تعطيل الدراسة أسبوعًا في 38 مدرسة بكفر الشيخ للاحتفال مولد إبراهيم الدسوقي (تفاصيل)    «مبحبش أشوف الكبير يستدرج للحتة دي».. شريف إكرامي يفاجئ مسؤولي الأهلي برسائل خاصة    سعر الدولار الأمريكي مقابل بقية العملات الأجنبية اليوم الجمعة 24-10-2025 عالميًا    بعد «أقدم ممر فى التاريخ» و«موكب المومياوات».. مصر تستعد لإبهار العالم مجددًا بافتتاح المتحف المصرى الكبير    عمرو دياب يتألق في أجمل ليالي مهرجان الجونة.. والنجوم يغنون معه    برعاية النائب العام الليبي، معرض النيابة العامة الدولي للكتاب ينظم مسابقة محاكاة جلسات المحاكم    استخراج جثة متوفي من داخل سيارة اشتعلت بها النيران بطريق السويس الصحراوى.. صور    في أجواء روحانية، طوفان صوفي في الليلة الختامية لمولد أبو عمار بالغربية (فيديو)    نوفمبر الحاسم في الضبعة النووية.. تركيب قلب المفاعل الأول يفتح باب مصر لعصر الطاقة النظيفة    أسماء المرشحين بالنظام الفردي عن دوائر محافظة بني سويف بانتخابات مجلس النواب 2025    الاتحاد الأوروبي يسعى لدور أكبر في غزة والضفة بعد اتفاق وقف إطلاق النار    في قبضة العدالة.. حبس 3 عاطلين بتهمة الاتجار بالسموم بالخصوص    فتاة تتناول 40 حبة دواء للتخلص من حياتها بسبب فسخ خطوبتها بالسلام    النيابة العامة تنظم دورات تدريبية متخصصة لأعضاء نيابات الأسرة    «مش بيكشفوا أوراقهم بسهولة».. رجال 5 أبراج بيميلوا للغموض والكتمان    وكيل صحة الفيوم تفتتح أول قسم للعلاج الطبيعي بمركز يوسف الصديق    «بالأرز».. حيلة غريبة تخلصك من أي رائحة كريهة في البيت بسهولة    82.8 % صافي تعاملات المستثمرين المصريين بالبورصة خلال جلسة نهاية الأسبوع    الشناوي يكشف مكافأة لاعبي بيراميدز عن الفوز بدوري الأبطال    التجربة المغربية الأولى.. زياش إلى الوداد    طريقة عمل صوابع زينب، تحلية مميزة لأسرتك    نصائح أسرية للتعامل مع الطفل مريض السكر    سيلتا فيجو يفوز على نيس 2-1 فى الدورى الأوروبى    فحص فيديو تعدى سائق نقل ذكى على فتاة فى التجمع    طعن طليقته أمام ابنه.. ماذا حدث فى المنوفية؟.. "فيديو"    لماذا لم تتم دعوة الفنان محمد سلام لمهرجان الجونة؟.. نجيب ساويرس يرد    مجلس الوزراء اللبناني يقر اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع قبرص    مدرب بيراميدز يتغنى بحسام حسن ويرشح 3 نجوم للاحتراف في أوروبا    محمد كساب: ستاد المصري الجديد تحفة معمارية تليق ببورسعيد    نجم غزل المحلة السابق يشيد ب علاء عبدالعال: «أضاف قوة مميزة في الدوري»    ماكرون: العقوبات الأمريكية ضد روسيا تسير في الاتجاه الصحيح    بعد المشاركة في مظاهرة بروكسل.. أمن الانقلاب يعتقل شقيقا ثانيا لناشط مصري بالخارج    رئيسة معهد لاهوتي: نُعدّ قادةً لخدمة كنيسة تتغير في عالمٍ متحول    راقب وزنك ونام كويس.. 7 نصائح لمرضى الغدة الدرقية للحفاظ على صحتهم    النيابة تكشف مفاجأة في قضية مرشح النواب بالفيوم: صدر بحقه حكم نهائي بالحبس 4 سنوات في واقعة مماثلة    إكرامي: سعداء في بيراميدز بما تحقق في 9 أشهر.. ويورشيتش لا يصطنع    ما الدعاء الذي يفكّ الكرب ويُزيل الهم؟.. أمين الفتوى يجيب أحد ذوي الهمم بلغة الإشارة    هل تأخير صلاة الفجر عن وقتها حرام؟| أمين الفتوى يجيب    الشيخ خالد الجندي: الطعن فى السنة النبوية طعن في وحي الله لنبيه    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-10-2025 في محافظة الأقصر    ما حكم بيع وشراء العملات والحسابات داخل الألعاب الإلكترونية؟ دار الإفتاء تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسعد حجازى يكتب : تأملات وخواطر فى ذكرى ميلاد عبد الناصر
نشر في الوفد يوم 16 - 01 - 2012

يوافق اليوم – الخامس عشر من يناير 2012 – الذكرى الرابعة والتسعون لميلاد الرئيس والزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، وهى تأتى فى وقت تمر فيه مصر بفترة حرجة عصيبة، وأجواء ملبدة بالغيوم ومشوبة بالتوتر والقلق والخوف من المستقبل المجهول ، بعد أن ضاعت البوصلة ، وغابت الرؤية،...
تأتى هذه الذكرى قبل عشرة أيام من الذكرى الأولى لثورة 25 يناير المصرية التى لم تكتمل، لأن ثمة قوى عديدة ونافذة فى الداخل والخارج لا تريد لها أن تكتمل ، لأنها ورغم عدم إكتمالها أطلقت كل إنذارات وأجراس الخطر الذى يهدد عروش وممالك ، ومصالح وأهداف إستراتيجية كبيرة لدول كبرى بعد أن قلبت الثورة كل حساباتهم رأسا على عقب.
إن الذكرى الرابعة والتسعين لميلاد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليست – فى رأيى- مناسبة للإحتفال ككل الأعوام والعقود السابقة، بقدر ما هى دعوة للتأمل والتفكير وإستنباط العبر من التجربة الناصرية الثرية بحلوها ومرها، والتى لو أردت أن ألخصها فى كلمتين فقط فسأقول : قوة الإرادة،.. الإرادة هى الحد الفاصل بين الفشل والنجاح، بين الهزيمة والنصر، وبين اليأس والأمل، وفى المقابل فإن نقص الإرادة وكما تقول الكاتبة الأمريكية ” فلاور نيوهاوس” ” غالبا ما ينجم عنه ضررا يفوق النقص فى الذكاء أو الإمكانيات”.
أنا أنتمى إلى جيل الثورة، .. جيل عبد الناصر، لكننى لست ناصريا، ولا ساداتيا ولا مباركيا ولا حتى طنطاويا، فأنا أرفض التصنيف و” القولبة ” والتحزب، فقد كانت قناعتى دوما ولا تزال أن الكاتب الصحفى لا ينبغى له أن ينضم إلى أى حزب سياسى إلا حزب البحث عن الحقيقة دون أن يدعى أى إحتكار لها، كما أننى أرفض أى قيود على الفكر أو أى ضوابط حزبية قد تتعارض فى وقت ما مع الإلتزام الأخلاقى أو المهنى إنطلاقا من إحساس عميق بخطورة مسئولية الكتابة وأمانة الكلمة وولائى للقارىء.
لقد عاصرت كصبى وشاب التجربة الناصرية بكل ما لها وما عليها، شربت وتذوقت مع جيلى حلاوة إنجازات الثورة وإنتصاراتها، وتجرعت مع جيلى أيضا مرارة الهزيمة وكئوس النكسة وإنكسار الحلم، دون أن تنكسر إرادتنا، وكيف تنكسر والحس الوطنى كان فى أعلى درجاته ، وإنتصارات الثورة وإنجازاتها وإحساسنا بالعزة والكرامة كانت كلها بمثابة جهاز مناعة ومضادات حيوية ضد الإنكسار، وأعترف أنها قد أعانتنى كثيرا خلال حياتى فى سنوات الغربة والترحال والهجرة والتى تعدت السنين التى عشتها فى مصر،.. لقد نما وجدان جيلى وتشكل مع صوت عبد الحليم حافظ وأغانيه الوطنية، وكلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل ،.. لقد ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية أن صوت عبد الحليم حافظ كان أحد الأسلحة السرية للرئيس جمال عبد الناصر إبان فترة العدوان الثلاثى الغاشم على مصر فى عام 1956 .
لم يكن جمال عبد الناصر نبيا أو قديسا، كان بشرا ، ولم يكن معصوما من الخطأ، .. كان كأحد أبطال شخصيات التراجيديات الإغريقية القديمة، .. عظيما فى إنجازاته، كبيرا فى أخطاءه، وكان الخصوم والأعداء فى الداخل والخارج يبحثون عن نقاط ضعف له ،.. عن ” كعب أخيليوس” ليوجهوا إليه سهامهم القاتلة ، .. لست هنا بصدد تقييم التجربة الناصرية أو حتى شخصية عبد الناصر، فهذه عملية أخالها وقف خاص وحق أصيل للمؤرخين الموضوعيين والباحثين الجادين، وإنما أحاول أن أسجل خواطر ووقائع كنت شاهدا عليها، وأخرى كنت طرفا فيها لم يتسنى لى أن أنشرها من قبل.
تعرفت على الرئيس عبد الناصر لأول مرة وأنا طفل صغير من خلال صوته وخطبه الحماسية فى ” الراديو”، ثم بعد ذلك على صورته وخطبه فى التليفزيون فى أوائل الستينيات من القرن الماضى، ومع كل خطبة لناصر كانت الشوارع والميادين شبه خالية من المارة والسيارات، ليس فى مصر فقط، وإنما فى معظم البلدان العربية من المحيط إلى الخليج، كان جمال عبد الناصر يتمتع بشخصية قيادية وزعامة حقيقية غير مفتعلة، و” كاريزما” طاغية، كان الغرب والقوى الإستعمارية أول من أدركوا خطورتها على مصالحهم ومخططاتهم بعد أن فشلت معه كل محاولات الإحتواء خلال السنوات الأولى بعد الثورة، ... كانت خطورة عبد الناصر ، وسر قوته أيضا من وجهة نظر الغرب أنه كان يخاطب الشعوب العربية من فوق رؤوس حكامها، وكان يدعو إلى تحرر الشعوب المحتلة من القوى الإستعمارية فى قارات آسيا وأفريقية وأمريكا اللاتينية، فكان لابد أن يتحول الإحتواء إلى عداء، ودارت آلة الدعاية الصهيونية فى أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية بأقصى سرعة ضد الرئيس عبد الناصر، ووصفته كذبا وبهتانا بأنه ” هتلر جديد” يريد إبادة اليهود ويلقى بدولة إسرائيل فى البحر.
عندما قامت ثورة يوليو 1952 كان البكباشى جمال عبد الناصر يبلغ من العمر 34 عاما، وتولى إلى جانب منصبه فى مجلس قيادة الثورة منصب وزير الداخلية، رغم أنه لم يحدث فى مصر وقتئذ إنفلات أمنى، ومع ذلك رأينا جنرالات المجلس العسكرى الحاكم الذى يدير شئون البلاد منذ الحادى عشر من فبراير الماضى يحجمون عن تعيين أحد جنرالات المجلس فى منصب وزير الداخلية لماذا؟ لأنه لا توجد إرادة لإتخاذ مثل هذا القرار رغم الإنفلات الأمنى وأعمال البلطجة فى طول البلاد وعرضها!.
لقد شهدت مصر فى حقبتى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى فى عهد عبد الناصر أعظم نهضة ثقافية وفنية فى النصف الثانى من القرن العشرين، .. نهضة ما كان لها أن تتحقق لو لم تكن هناك رؤية وحرية فى الخلق والإبداع، ولكن علينا هنا أن نعترف أن تلك النهضة أيضا كانت إحدى ثمار جودة التعليم والثقافة والوعى خلال عقود ما قبل إندلاع ثورة يوليو 1952 ، فكل أعلام الفكر والثقافة والفن فى هاتين الحقبتين كانوا قد تلقوا تعليمهم قبل الثورة ، بل وحتى عبد الناصر نفسه والضباط الأحرار تلقوا تعليمهم قبل الثورة، وكان من بينهم عدد لا بأس به من الضباط العسكريين وضباط الشرطة الذين ساهموا بدور كبير فى تحقيق تلك النهضة الثقافية والفنية مثل د. ثروت عكاشة ود. عبد القادر حاتم ويوسف السباعى وأحمد حمروش وأحمد مظهر وعز الدين ذو الفقار وصلاح ذو الفقار وسعد الدين وهبة وغيرهم.
لقد كان المجتمع المصرى قبل الثورة وحتى وفاة الرئيس عبد الناصر فى سنة 1970 يتميز بالتعددية وروح الإخاء والتسامح وقبول الآخر، .. لم يعرف جيلى التطرف الدينى أو الهوس الطائفى الذى شهدته مصر خلال العقود الأربعة الماضية، .. لم نكن نسمع عن تفرقة بين مسلمين وأقباط، فقد كان الجميع يشترك فى معركة البناء،.. بناء السد العالى، وبناء المصانع والمستشفيات والمدارس وإستصلاح الأراضى والإسكان والتعمير، كما كانوا يشتركون فى كل الحروب التى خاضتها مصر، .. كانت الدولة المصرية فى عهد عبد الناصر تتبنى شعار ثورة 1919 ” الدين لله والوطن للجميع” ،... أين نحن الآن من كل هذا؟!.
إختطاف الثورة بعد إختطاف مصر
لكل شعب من الشعوب روحه العامه وخصائصه التى تميزه عن باقى الشعوب والأمم ، وهذه الروح تكشف عن نفسها فى اللغة والدين والتراث الشعبى والأساطير والفن والأدب وقواعد الأخلاق السائدة، والعرف الإجتماعى والقانون،.. وهذه الروح العامه لأى شعب تدخل فى نطاق بحث ما يسمى بعلم نفس الشعوب أو ” فولك سيكولوجى” والذى يعنى بدراسة الخصائص النفسية للشعوب المختلفة، .. والشعب المصرى عبر تاريخه الطويل له سمات وخصائص تميزه عن غيره من شعوب المنطقة وتعبر عن هويته، ولكن الذى حدث هو أن الثورة المصرية فى الخامس والعشرين من يناير 2011 التى ألهمت الكثير من شعوب العالم قد تم إختطافها ، وقبل ذلك تم إختطاف مصر نفسها على يد مبارك وأسرته ، ولصوص الإنفتاح ” سداح مداح” وعصابة الخصخصة، كما تم إختطاف الإسلام الوسطى المعتدل فى مصر على يد الإخوان والسلفيين الوهابيين فى غياب دور الأزهر الشريف ، حتى انتشر في مصر والقنوات الفضائية فقه البداوة الصحراوى وتجار الدين الذين يرون أن المرأة ” عورة ” ! .
هؤلاء الناس من غلاة الحنابلة والوهابيون يريدون سجن المرأة بين أربعة جدران وباب مقفول ، أو تدثيرها بثياب سوداء لأنهم يرون العالم بعيون وعقول ظلامية حالكة السواد ،.. هم أناس قد أغلقوا عقولهم بالضبة والمفتاح، ويجهلون جوهر الإسلام وتعاليمه وحتمية تطوره لأنه دين صالح لكل زمان ومكان ولا يتوقف فقط عند إسلام القرن السابع الميلادى، .. وهؤلاء الناس لا ينتقصون فقط من حقوق المرأة التى منحها لها الإسلام، وإنما هم لا يحترمون أصلا حقها فى أن تنعم بالحرية المسئولة وفى حقها أن تكون إنسانة .
ثورة يوليو والمرأة
على الرغم من أن ثورة يوليو 1952 كانت ثورة عسكرية أيدها الشعب، إلا أنها أعطت المرأة المصرية الكثير من الحقوق فى التعليم والعمل والمساواة فى الأجر مع الرجل وفى الحقوق السياسية فأصبحت عضوة فى البرلمان ووزيرة ، بل إن الثورة سبقت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها فى بعض المجالات ، فالمرأة الأمريكية فى كثير من الولايات الأمريكية لا تزال تعانى من مشكلة عدم المساواة فى الأجور والترقيات مع الرجل.
لقد أدرك الرئيس الراحل عبد الناصر فى سن مبكرة إن غاية كل الأديان السماوية، وكل الحكومات الصالحة، بل والغاية من الحياة ذاتها هى إنجاب الفرد السوى السعيد، الذى يتمتع بالجسم السليم والعقل السليم ، كلاهما لا يتحققان إلا إذا حقق الإنسان فرديته وتميزه بعيدا عن باقى أفراد القطيع، وفردية الإنسان السعيد السوى لا يمكن أن تتحقق بدون الحرية ،.. والحرية لا تتحقق إلا بالتحرر من الخوف، والتحرر من الخوف يقوم على حريتين أساسيتين هما :
التحرر من الفقر والعوز ، والتحرر من الجهل والتخلف ، .. الأولى تتحقق بالعدالة الإجتماعية، والثانية تتحقق بالديمقراطية ، فإنحاز للفقراء والمعدمين من العمال والفلاحين وللطبقة المتوسطة ، وحقق قدرا كبيرا من العدالة الإجتماعية، ولم يتمكن من تحقيق الديمقراطية نظرا للتحديات الجسام التى واجهها ، لكنى لا أشك أنه لو إمتد به العمر وتمكن من إزالة آثار العدوان لشرع فى تطبيق النهج الديمقراطى.
لقد رحل الرئيس جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر عام 1970، غير أن كثيرا من الكتاب والمحللين السياسيين يرون أنه قد مات فى الخامس من يونيو عام 1967 – عام النكسة، بعد الهزيمة المريرة التى لحقت بالجيش المصرى فى سيناء، لكنى لا أشاركهم فى هذا الرأى، بل أعتقد أن السنوات الثلاث بين النكسة والرحيل كانت من أهم ثلاث سنوات فى حياة عبد الناصر، على الرغم من وطأة الحزن والألم ومرارة الهزيمة وآلام المرض، فقد كانت أيضا سنوات عمل شاق ومضن لإعادة بناء القوات المسلحة المصرية من جديد على أسس علمية جديدة، لقد بدا عبد الناصر بعد النكسة كرجل دولة بعد أن كان لسنوات طويلة ثائرا، رجل دولة إستخلص واستوعب دروس تجربة طويلة بكل ما فيها من عيوب وأخطاء، وأصبح تفكيره أكثر واقعية وتقديرا للأمور، وظهر ذلك واضحا جليا فى محاضر جلسات مؤتمرات القمة العربية عن تلك الفترة .
فى عهد عبد الناصر كنت أتصور أنه يعد واحدا من أبرز الشخصيات فى العالم العربى فى القرن العشرين، لكنى فى الحقيقة وبعد هجرتى إلى كندا فى أواخر السبعينيات أكتشفت أنه كان زعيما عالميا حتى فى الدول التى كانت تحاربه، وقد لمست ذلك مرات عديدة بنفسى، وأذكر أنه فى بداية سنوات الهجرة أن ألتقيت فى إحدى المناسبات بأحد الكنديين من أصل بريطانى، وكان يكبرنى فى السن كثيرا، وما أن عرف أننى من أصل مصرى حتى وجدته أكثر ترحابا بى وهو يقول بالحرف : جمال عبد الناصر ، فسألته ماذا عن جمال عبد الناصر؟ فقال : كان رجلا وطنيا عظيما ، .. ثم قلت له أليس غريبا أن تأتى هذه الإشادة من رجل إنجليزى؟! فأوضح لى أنه يحب مصر ويعشقها وقد عاش فيها أجمل سنوات عمره ، حين كان يخدم فى الجيش البريطانى فى منطقة القناة، وكان ضمن آخر كتيبة خرجت من مصر بعد توقيع إتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا، ثم أردف قائلا: ” قد أختلف معه فى بعض السياسات والتوجهات لكنه كان زعيما مخلصا لبلده ولمست إعجاب المصريين به، ولذا فأنا أحترمه “.
لم يكن هذا الموقف فريدا، فقد تكرر معى مرات عديدة بصور مختلفة، ومع جنسيات أوروبية وأمريكية مهاجرة إلى كندا ، ومدينة تورونتو التى كنت أقيم فيها هى أكبر مدينة كندية تضم أكبر عدد من المهاجرين من الجاليات الأجنبية المهاجرة من جميع أنحاء العالم، .. التقيت مهاجرين من اليونان وإيطاليا وفرنسا وأرمن كانوا يعيشون فى مصر ، وبعضهم ولدوا فى الإسكندرية ، وكانوا يحكون لى عن أيام طفولتهم وذكرياتهم فى مصر، ولا حظت إعجابهم الكبير بشخصية الرئيس ناصر على الرغم من أن أملاك أسر بعضهم قد تعرضت للتأميم فى عهد عبد الناصر وبقرار منه.فيلم السادات يسىء له ولناصر
فى سنة 1984 أنتجت هوليوود فيلما سينمائيا من جزئين خصيصا للعرض التليفزيونى بعنوان ” سادات ” عن قصة حياة الرئيس الراحل أنور السادات ، وعندما عرض الفيلم فى عرض خاص فى السفارة الأمريكية فى القاهرة أحدث ضجة كبيرة فى الصحافة والإعلام المصرى بسبب الأخطاء الفظيعة والساذجة التى ظهرت فى السيناريو الردىء للفيلم ، ووصل الأمر أن قدمت الحكومة المصرية إحتجاجا رسميا على هذا الفيلم الذى يسىء للسادات نفسه ولشخصية الرئيس عبد الناصر، وطبعا طيرت وكالات الأنباء العالمية أخبار الضجة والإحتجاج المصرى الرسمى على الفور، وبعد أيام قليلة طلب منى صديقى جوزيف هول كبير محررى الشئون الخارجية فى صحيفة تورونتو ستار الكندية فى ذلك الوقت أن أكتب مقالا عن الفيلم بإعتبارى كاتب مصرى – كندى ، فقمت على الفور بالإتصال بشركة ” كولومبيا بيكتشرز” الأمريكية فى هوليوود منتجة الفيلم للحصول على كل المعلومات المتاحة عن فيلم السادات وظروف إنتاجه، وترتيب إجراء حديث تليفونى مع بطل الفيلم الذى يقوم بدور الرئيس السادات الممثل الأمريكى ” لويس جوسيت جونيور” ، وخلال 24 ساعة وصلنى بالبريد السريع المخصوص ظرف من الحجم الكبير يحتوى على كم من المعلومات والصور الفوتوغرافية تكفى لتأليف كتاب من الحجم المتوسط، .. وفى نفس الوقت وصلتنى دعوة خاصة من شبكة تليفزيون سى تى فى الكندية لحضور عرض خاص للفيلم قبل إذاعته فى وقت لا حق.
شاهدت الفيلم فى العرض الخاص، ولمدة 4 ساعات تخللتها إستراحة قصيرة، وكانت تجربة قاسية وصدمة كبيرة لى ، وبعد خمس دقائق من البداية أدركت على الفور أنه فيلم صهيونى متحيز ضد المصريين والعرب ، وتحملت على مضض مشاهدة باقى أحداث الفيلم الذى تضمن أخطاءا فادحة حتى فى سرد أبسط الأحداث التاريخية المعروفة، ... كتبت المقال الذى نشر على ثلثى صفحة من الحجم الكبير فى العدد الأسبوعى، وكان مقالا نقديا لاذعا وملىء بالسخرية، أبرزت فيه الحقائق والمعلومات الصحيحة التى تجاهلها الفيلم، وبينت كيف أن الفيلم قد أساء إلى الرئيس السادات نفسه، وتعمد تشويه صورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وقدمها فى صورة كاريكاتيرية قميئة من خلال إساءة إختيار ممثل بريطانى مغمور قصير القامة وسمين ليقوم بدور عبد الناصر! ، كذلك وجدت الفيلم فرصة لمهاجمة كل أشكال الصور النمطية السلبية التى تعرضها الصهيونية العالمية ضد العرب منذ سنوات طويلة فى أفلام هوليوود وأجهزة الإعلام المختلفة والتى تسيطر على معظمها الصهيونية،.. وكنت أتوقع ردود فعل سيئة وتعليقات مهينة لى وللجريدة من كثير من القراء، خاصة وأن تورونتو بها أكبر جالية يهودية فى كندا كلها، لكنى إندهشت من ردود الفعل الإيجابية والإشادة بالمقال من خلال الخطابات التى وصلت إلى الصحيفة، التى نشرت بعضها فى صفحة القراء، وأدهشنى أكثر أن معظم الردود جاءت من يهود كنديين وأقلها من الكنديين العرب! . ،.. وبعد نشر المقال ببضعة أيام، إتصلت بى إحدى المحطات التليفزيونية للظهور فى برنامج كندى شهير يذاع على الهواء مباشرة لمدة ساعة يوميا، وهو برنامج حوارى أشبه ببرنامج ” الإتجاه المعاكس” على قناة الجزيرة، وإعتذرت فى أدب لمعد البرنامج الذى إتصل بى ، لكنه أصر رغم إصرارى على موقفى، وكان أكثر إلحاحا فعاود الإتصال بى مرة أخرى وأنا أعتذر له بل حاولت أن أختلق له الأعذار وأضع أمامه بعض العقبات، مثل سؤالى إياه كم سيدفعون لى مقابل الظهور فى البرنامج، رغم علمى أن محطات التليفزيون الكندية الكبيرة لا تدفع مقابلا ماديا للضيوف الذين يظهرون فى برامجها، .. فى الواقع كان السبب الحقيقى لرفضى هو أننى كنت مشاهدا جيدا للبرنامج، وكنت أخشى أن يستضيفوا معى فى نفس الحلقة أحد الشخصيات الصهيونية أو أحد المسئولين الإسرائيليين المتعصبين، وتتحول الحلقة إلى خناقة على الهواء، خاصة أننى كنت أعلم أن مقدم البرنامج يهودى كندى من أصل بريطانى، وكانت طريقته فى توجيه الإسئلة وإجراء الحوار مستفزة إلى أبعد الحدود، .. وأخيرا وافقت على الظهور فى البرنامج بعد أن إشترطت عدم ظهور أى مسئول إسرائيلى أو صهيونى معى فى الحلقة، ... وعندما وصلت إلى المحطة فى السيارة الليموزين التى أرسلوها لى قبيل تسجيل الحلقة كنت متوترا بعض الشىء، وفى الأستديو طلب منى المعد أن أنتظر قليلا أمام غرفة الماكياج، وبعد برهة وجيزة سمعت صوتا جهوريا ينادينى بإسمى ، ويعلق على إحدى الجمل النقدية الساخرة التى جاءت فى مقالى، .. المفاجأة أن الصوت كان يتحدث بلغة عربية وبلهجة مصرية صميمة، أما المفاجأة الأكبر لى فكانت أن صاحب الصوت هو بعينه ” توم تشارينجتون” مقدم البرنامج والذى كان يجلس على كرسى فى غرفة الماكياج ،.. أنتهى توم من الماكياج ثم نهض ليرحب بى بحرارة وأنا فى ذهول من وقع المفاجأة، .. ثم قلت له فى دهشة: تتحدث العربية وبلهجة مصرية؟!! فأجابنى بلهجة مصرية أيضا : ولما لا أنا ولدت فى الإسكندرية وعشت فيها 18 سنة حتى غادرت مصر مع أسرتى فى أواخر الخمسينيات.
كنت سعيدا جدا بتلك المفاجأة السارة التى أنهت قلقى وتوترى فى الحال، ثم بدأت الحلقة وكان توم فيها على غير عادته، وظهر معى فى المقابل ضيف آخر كان صحفيا ، وفى الوقت نفسه ” قس كاثوليكى” يكتب عمودا فى الشئون الدينية فى صحيفة التورونتو ستار، .. ولم تكن هناك مواجهة على الإطلاق، وفى أثناء الفواصل الإعلانية كان توم شارينجتون يحكى لى عن ذكرياته فى الإسكندرية وحنينه إلى مصر، ولم يخفى لى إعجابه بكاريزما جمال عبد الناصر، وأنه لا يزال يتذكر خطاب ناصر الشهير فى الإسكندرية الذى أعلن فيه تأميم شركة قناة السويس.
لقد تعمدت السرد فى تلك الواقعة كى أبرهن للقارىء على خطأ شائع فى الثقافة المصرية والعربية، ألا وهو وضع كل اليهود والصهاينة كلهم فى سلة واحدة، لأن الواقع على الأرض مغاير تماما للصورة الذهنية التى ترسخت عند كثير من العرب.
من المفاجأت الأخرى لى أثناء حياتى فى كندا هى مشاهدة بعض الشرائط التليفزيونية النادرة من خلال أفلام وبرامج وثائقية يتحدث فيها الرئيس الراحل عبد الناصر بالإنجليزية أثناء إجراء مقابلات صحفية وتليفزيونية خاصة مع وسائل إعلام أمريكية، وقد أدهشنى مستواه الرفيع فى اللغة الإنجليزية نطقا وتمكنا من إستخدام المفردات والتعبيرات المناسبة، والثقة الكبيرة التى كان يتحدث بها وطريقة عرضه للحقائق بعقلانية ومنطق شديدين يبعثان فى نفس المشاهد الروعة والإعجاب.
لازالت فى ذاكرتى الكثير من الوقائع والمفاجآت والأحداث عن جمال عبد الناصر لا يتسع لها هذا المقال، وعزائى أنه على الرغم من رحيل الزعيم عبد الناصر منذ أكثر من أربعين عاما، فإنه لا يزال حيا فى وجدان الملايين فى مصر والعالم العربى، والعالم بأسره.
سلام على ناصر يوم مولده ، ويوم رحيله، ويوم يبعث حيا، .. لقد كان جمال عبد الناصر زعيما تاريخيا حقيقيا، وكان عظيما بأفكاره ، والأفكار العظيمة لا تموت أبدا ،.. وما أحوجنا فى تلك الأوقات العصيبة إلى إستلهام روح وأفكار وكفاح وعزم وإرادة الزعيم الراحل عبد الناصر ،.. تحية إلى ناصر أعز الرجال فى زمن عز فيه الرجال، وتسلط على مصر فيه أشباه الرجال.
-------------
كاتب صحفى مصرى- كندى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.