الاحساس بالموت. ارادة الحياة. صحبة الرفاق والقلوب. متعة الحكي والقراءة.. هكذا كانت مقالات الكاتب المبدع إبراهيم اصلان فهي أقرب إلي حواديت النفس تمس شيئا ما في داخلك.. ليس من الضروري أن تعرفه ولكنك بلا شك تريد أن تقرأ له وتستزيد من معارفه وتاريخه الذي لا ينضب فمنطقة إمبابة العتيقة والتي عاش فيها معظم سنوات عمره كنز إنساني يمتع من يقترب من عالمه. يقول الكاتب الكبير إبراهيم أصلان عام 2009 في وفاة الناقد عبد العال الحمامصي: رحل صديقنا لن نلتقيه بعد ذلك أبدا في سرادق تعزية ولا في اجتماعات لجنة القصة بالمجلس الأعلي للثقافة ولن يغادر مكانه في عتمة (الجوريون) ويقترب بطيئا من مكاني لكي نتعانق ويسألني: عامل إيه دلوجيت؟ - كنا التقينا آخر مرة في اجتماع لجنة القصة بالمجلس الأعلي للثقافة, جاء شاحب الوجه لا يتكلم, عرفنا أنه بانتظار السيدة زوجته لتسلم نتائج بعض التحاليل, كان يغالب الإغفاء كمن غلب أخيرا علي أمره, وعندما التقت عينانا عبر الطاولة الخشبية دهش كمن يراني أول مرة. في المساء اتصلت بمنزله كي أطمئن وقالوا إنه نائم, وان نتيجة التحليل لم تظهر بعد, وعلمنا جميعا أن المرض الذي انتشر يصعد الي رئتيه, وأن أحدا من المحيطين لم يخبره, وهو رحل دون أن يعرف. كان بيننا نوع من الود الإنساني الصامت والعميق, وأظن أن هذه هي حال علاقته بالكثيرين , كان جميلا وطيبا, وبرغم بعض المآخذ كنت ابتهج برؤيته, وأحبه. تبقي إمبابة مكانه الأثير فيصفها بأنها معشوقته فيقول: لابد أنك علمت إذن أن إمبابة, زمان, كانت موطنا لأعداد من أفذاذ اللاعبين في شتي المجالات, أبطال أوليمبيين في المصارعة والملاكمة وحمل الاثقال. وقد ظللنا نردد ونحن صغار حكايات لا أول لها ولا آخر عن هؤلاء الأبطال, وكم سيطر علينا الوجل ونحن نتذاكر حكاية الرباع الذي نسيت اسمه للأسف, ذلك الذي انتهز فرصة انقطاع الكهرباء ووقف يصل الأسلاك العارية في حديقة عوامته المطلة علي الكيت كات, وكيف ان التيار وصل فجأة وقضي عليه. كان أغلب ابناء امبابة ينتمون إلي الطبقة العاملة, يعملون ما بين المطابع الأمريكية ومصانع الشوربجي إلي جانب نادي الجزيرة بملاعب الجولف والتنس وسباق الخيل, فضلا عن أندية الزمالك والترسانة والأهلي طبعا كما أنها كانت محتشدة بأعداد من الإخوان المسلمين ويكاد لا يوجد بيت لم يقبض فيه علي واحد منهم عقب حملة عبد الناصر بعد إطلاق النار عليه في 54. كما كانت موئلا لأبناء اليسار المصري باختلاف أجيالهم. وفي الليل, كنا نري هؤلاء اللاعبين القدامي يتنقلون من هنا إلي هناك, أو يجلسون في مقاهيها بعدما ولي الشباب وانحسرت الأضواء, يتجمعون في الأركان المعتمة من مقهي السني أو مقهي عوض الله أو غيرها, نري لاعبي كرة قدم أو مدربي تنس ومصارعين ورافعي أثقال وحاملي حقائب الجولف, ولأصلان موهبة أخري في توصيل ما يقرأه للقارئ فيقول في وصفه لأحد الكتب: في هذا كتاب ممتع الي أقصي غايات الامتاع, فيه ألوان من الفائدة لا تكاد تحصي, فيه العبرة وفيه الموعظة وفيه أسوة للشباب وفيه المتعة التي تجدها في كتاب عرف صاحبه كيف يكتبه. هذه هي السطور الأولي التي دبجها طه حسين في تقديمه للسيرة التي كتبها رائد طب النساء والولادة الدكتور نجيب محفوظ (1882 - 1972) والتي أعيد نشرها هذه الأيام في عنوان (حياة طبيب) عن سلسلة (ذاكرة الكتابة) التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة. ولعلنا نذكر أنه هو الطبيب الذي كان عاون كاتبنا الراحل نجيب محفوظ علي الخروج الي الدنيا بعدما تعذرت ولادته, هكذا سمي الكاتب تيمنا باسم النطاسي الشهير. وأنا أريد أن أتوقف معك هنا عند هذه الصفحات التي سجل فيها حكاية الكفاح الذي قاده ضد وباء الكوليرا, كذلك الكفاح المعاكس الذي قاده الأهالي دفاعا عن هذا الوباء, وهو الأمر الذي لن نجد له نظيرا إلا في تلك المقاومة المجيدة التي قادها الأهالي دفاعا عن الدجاج, إخوتنا في المسكن والمأكل, سواء كانت حاملة للانفلونزا أو غير حاملة لها, والوسائل المدهشة التي ابتكروها معرضين أنفسهم للإصابة بالمرض الذي أودي بحياة الكثيرين منهم. والذي حدث انه في مستهل صيف 1902 كانت الكوليرا قد تفشت بين الحجاج في مكة فقضت علي الآلاف وبينهم كثير من المصريين, فلما عاد الحجاج كان بينهم عمدة قرية صغيرة اسمها (موشا) علي مقربة من أسيوط يسكنها حوالي أربعة آلاف من الأهالي وتقوم علي مرتفع, أثناء الفيضان تمتلئ الحياض من حولها وتصبح مثل جزيرة معزولة. وكان هذا العمدة قد جلب معه عشر صفائح من ماء زمزم بعدما كان لحقها ميكروب الكوليرا, ولما وصل العمدة الي البلدة وزع الماء علي الأهالي والأحبة فصبوه في آبارهم للتبرك, وماهي إلا ساعات إلا وراحت تحصدهم حصدا, في ذلك الوقت كان يندر أن تجد طبيبا مصريا يعالج هذا المرض الخطير وقد فعلها الدكتور نجيب محفوظ عندما اكتشف أن المرض انتشر عبر الماء.