التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    فلسطين.. مدفعية الاحتلال تكثف قصفها وسط جباليا بالتزامن مع نسف مباني سكنية شمالي غزة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    المستشار القانوني للزمالك يتحدث عن.. التظلم على سحب أرض أكتوبر.. وأنباء التحقيق مع إدارة النادي    بهدف رويز.. باريس سان جيرمان ينجو من فخ أنجيه في الدوري الفرنسي    مواعيد مباريات دوري المحترفين المصري اليوم السبت    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    ويجز يشعل حماس جمهور حفله في العلمين الجديدة بأغنيتي "الأيام" و"الدنيا إيه"    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    ابنة سيد مكاوي عن شيرين عبدالوهاب: فقدت تعاطفي بسبب عدم مسؤوليتها    5 تصريحات جريئة ل محمد عطية: كشف تعرضه للضرب من حبيبة سابقة ويتمنى عقوبة «مؤلمة» للمتحرشين    تنسيق الشهادات المعادلة 2025، قواعد قبول طلاب الثانوية السعودية بالجامعات المصرية    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    في ظهوره الأول مع تشيلسي، إستيفاو ويليان يدخل التاريخ في الدوري الإنجليزي (فيديو)    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    خطة عاجلة لتحديث مرافق المنطقة الصناعية بأبو رواش وتطوير بنيتها التحتية    تحت عنوان كامل العدد، مدحت صالح يفتتح حفله على مسرح المحكي ب "زي ما هي حبها"    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    خيرى حسن ينضم إلى برنامج صباح الخير يا مصر بفقرة أسبوعية على شاشة ماسبيرو    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    نجاح عملية جراحية دقيقة لاستئصال ورم ليفي بمستشفى القصاصين فى الإسماعيلية    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    ضبط 1954 مخالفة ورفع كفاءة طريق «أم جعفر – الحلافي» ورصف شارع الجيش بكفر الشيخ    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. الدفاع الروسية: سيطرنا على 9 بلدات فى أوكرانيا خلال أسبوع .. وزيرة خارجية سلوفينيا: المجاعة مرحلة جديدة من الجحيم فى غزة.. إسرائيل عطلت 60 محطة تحلية مياه فى غزة    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الاخبار
محفوظ.. قرن من الزمان
نشر في الأخبار يوم 06 - 12 - 2011

بعد قرن من ميلاده ، أصبح نجيب محفوظ جزءا من تاريخ الانسانية ، ورمزا لمصر ، لا ينكره إلا جاهل أو أحمق.
قرن كامل مضي علي ميلاد نجيب محفوظ.. في ديسمبر 1191 جاء إلي العالم وفي أغسطس 6002 خرج إلي النور، إلي الأبدية وما بينهما أبدع للإنسانية ما سيظل خالداً، تلك النصوص الروائية الجميلة، قدر لي أن أكون آخر من يراه، كان ذلك في مستشفي الشرطة الثانية عشرة ليلا، قبل النفس الأخير بساعة واحدة، أعود بالذاكرة إلي يوم جمعة، عندما وقع بصري عليه لأول مرة وسط القاهرة عام تسعة وخمسين.
كأني أراه الآن، في حركته في تقدمه باتجاه المقهي الذي كانت تعقد فيه الندوة الأسبوع التي ستلعب دوراً كبيرا في تكويني، وبعد ان تنتهي وتتوقف بسبب تدخل الأمن، تستمر علاقتي به حتي اكتمال أجله، دائما أعود إلي تلك اللحظة، عندما رأيته أول مرة.. اذن.. كان الوقت قبل العاشرة، إذ كان الاستاذ قادما من ناحية ميدان العتبة الخضراء متجها إلي مقهي الأوبرا، ولأنه شديد الدقة فلابد أن الوقت كان دون العاشرة بدقائق، كان ذلك عام تسعة وخمسين، أحد أيام الجمع الخريفية.
كان يرتدي حلة رمادية، وكان متين البنية، يمشي بقامة مفرودة، بميل قليل إلي الخلف، وعينان تتطلعان إلي الامام، نظرة تتجه إلي أعلي، لا تتجه إلي أسفل، كانت قامته أطول مما هي عليه الآن، ولا أبالغ اذا قلت ان جسده كان ضعف حجمه الحالي، وربما أكثر، لم تكن الشيخوخة سببا وحيدا لضموره، لكنه النظام الصارم الذي ألزم نفسه به منذ اكتشافه مرض السكر عام اثنين وتسعين بالصدفة عندما اضطر إلي اجراء عدة تحليلات طبية كان لابد منها لإنهاء اجراءات خاصة بالتأمين علي الحياة، منذ ذلك الحين لا يأكل الا المسلوق وبكميات ضئيلة، قال لي دوما إن المعدة تنكمش وتتكيف مع كمية الطعام التي تتلقاها، احيانا اثناء تناولنا العشاء كنا ندس له في الطبق قطعة صغيرة من الكفتة، لكنه سرعان ما يكتشفها، فما يأكله محدود بدقة محفوظية صارمة، حتي فنجان القهوة يرشفه بنظام، في البداية يرشف »الوش« مع انفاس السيجارة، ثم رشفة اخري، ثم يغطي الفنجان بالطبق الصغير، وبعد حوالي ثلاث دقائق يعود إليه. الآن يدخن ثلاث سجائر في اليوم، طبقا لتعليمات الطبيب، وبرشاقة محفوظية يقول: »وأحيانا أزوغ نفسين من رابعة..«
إنه مدخن قديم، ومنه تعلمت تدخين النرجيلة، عندما عرفته كان مازال يدخنها، يتردد علي مقهي الفيشاوي، ومقهي عرابي، علاقته بالفيشاوي ومقاهي الجمالية قديمة تعود إلي أيام فتوته وخلال عمله موظفا بالأوقاف نقل مغضوبا عليه الي قبة الغوري، تغيرت وزارة حزب الوفد بوزارة أخري، وكان يشغل منصب السكرتير البرلماني لوزير الاوقاف، الشيخ مصطفي عبدالرازق وزير الاوقاف، وكان استاذه في الجامعة، كان عمله يتلخص في اعداد الرد علي الاستجوابات التي تقدم الي الوزير في البرلمان، وعندما نقل الي قبة الغوري أصبح موظفا في صندوق الدين الذي كان يقدم القروض الحسنة للأهالي أي دون فائدة أو بفوائد ميسرة، كان عملا مسليا كما يقول يتعامل خلاله مع الناس وأبناء البلد. لكن أهم ما اكتشفه في قبة الغوري المكتبة العامرة والتي كانت تضم نفائس نادرة منها نسخة أصلية لرواية مارسيل بروست الشهيرة »البحث عن الزمن الضائع« بالفرنسية والتي عكف علي قراءتها بتأن، كان يختلس بعض اللحظات ليمضي الي المقهي ويجلس وحيدا، النرجيلة أفضل صديق يؤنس الوحدة، انها صديق صامت كما يصفها محفوظ، توقف عن تدخينها في مطلع الستينيات وحل بدلها السجائر التي علقت به حتي رحيله.
في تلك اللحظة النائية التي رأيته فيها لأول مرة، كان عمره تسعة واربعين عاما، وكنت اخطو نحو عامي الخامس عشر، لا أدري كيف عرفت انه نجيب محفوظ، لم يكن التليفزيون قد دخل الي حياتنا بعد، ربما من صورته التي نشرت له علي الغلاف الداخلي لرواية »خان الخليلي« وربما من صور اخري نشرت في بعض الصحف والمجلات الاخري، كنت أقف في مواجهة الجانب الجنوبي للأوبرا القديمة، الجميلة، التي افتتحت في عهد الخديوي اسماعيل بمناسبة احتفالات افتتاح قناة السويس، واحترقت عام واحد وسبعين في القرن الماضي في مفتتح عهد الرئيس أنور السادات، وبذلك اختفي معلم مهم وجميل ورمز من وسط المدينة ليحل مكانه جراج متعدد الطوابق!!
كنت أقف منتظرا صديق وزميل دراسة، يسكن تلك العمارة القديمة المطلة علي شارع عبدالخالق ثروت باشا عندما ظهر نجيب محفوظ، كنت امسك مجموعة قصصية لانطون تشيخوف ترجمها الي العربية الدكتور محمد القصاص، ومازلت احتفظ في مكتبتي بتلك المجموعة الجميلة، تقدمت منه، وعندما نطقت بالتحية.
أطلت عليَّ نظرته الهادئة، المتأملة، التي لم تغيرها السنوات وتواليها وما تحفل به، عين النظرة التي اراها حتي الان، رغم أن العينين ادركهما الوهن، وأصبحتا غير قادرتين علي القراءة، وضاق مدي الرؤية، فلا يميز الشخص إلا من مسافة قصيرة، لكن ماتزال نظرته تلك تضفي حضوراً خاصا يميز ملامحه، يتلخص في كلمة واحدة »طيب« في العامية المصرية كلمة دالة، كلمة »طيب« إنها تعني الدقة والخصال الحسنة، وحب الخير، وكل ما هو انساني جميل، لا أجد إلا تلك الكلمة تلخص نظرة محفوظ وتطلعه اليًّ ذلك الصباح البعيد عني الآن.
»صباح الخير يا استاذ نجيب...«
»صباح النور.. أهلا..«
قلت له إنني مبسوط لرؤيته، وأنني اقرأ له وأحببت ما قرأت، وانني اكتب أيضا، أبدي ترحيبا، ودعاني الي الندوة الاسبوعية، قال بصيغة الجمع »احنا بنقعد كل يوم جمعة من الساعة عشرة...«
في الأسبوع التالي مباشرة، في تمام العاشرة كنت أدخل القاعة في المقهي اوروبي الطابع، أي أنه مقهي بدون نرجيلة، بدون لعب طاولة او دومينو، كان يحتل الطابق الثاني من مبني يتكون من ثلاثة طوابق، الطابق الأول يحتله مقهي انيق، تقدم فيه النرجيلة، وكان من المقاهي القليلة وقتئذ في القاهرة الذي يمكن أن يري فيه المرء نساء يجلسن لتدخين النرجيلة، ويقدم ايضا المشاريب الأخري، الطابق الثاني كان مقهي تقدم فيه المشاريب فقط، اما الثالث فكان له مدخل جانبي خاص، إذ كان عبارة عن ملهي ليلي، معروف باسم صاحبة المبني كله، الراقصة صفية حلمي، ويبدو أنها كانت تحظي بشهرة في ثلاثينيات واربعينيات القرن، واتيح لي أن اراها في هذا الملهي خلال الستينيات، كانت سيدة متقدمة في السن، متوسطة القامة يقتصر ظهورها علي بضع دقائق تتوسط خلالها الراقصات اللاتي سيقدمن استعراضاتهن، ثم تنسحب الي مائدة في أقصي الصالة، وسمعت من يقول إنها عملت مع الراقصة الشهيرة بديعة مصابني، الطابق الثالث لا يعمل إلا بعد العاشرة ليلا، وله مدخل منفصل، لذلك لم يكن جزءاً من الطابقين الاول والثاني، المتصلين عن طريق سلم واحد، كل منهما يؤدي إلي الآخر، وكان المشاهير يقصدون المقهي ويجلسون به، ويبدو ان ادارة المقهي كانت ترحب بندوة محفوظ الاسبوعية فكانت الموائد تضم الي بعضها بشكل طولي، وينتظم حولها الادباء والمريدون، بينما يتصدر محفوظ الجلسة، إذ كان الجميع يتحلقون حوله، كان يصغي ويشارك، ويطرح الاسئلة، وكانت يجلس حوله، الاديب الحضرمي الاصل احمد علي باكثير، والاديب عبدالحميد جودة السحار، والاديب ثروت اباظة، ومن رواد المقهي الشباب وقتئذ القصاص أحمد نوح، وكان صاحب روح ساخرة، سريع النكتة، يكتب قصصا قصيرة ساخرة، اختفي ولم يعد له ذكر، لا أدري شيئا عنه الآن، كان هناك الاديب صبري موسي، والذي ابدي محفوظ اعجابا بمجموعته القصيرة »حكايات صبري موسي« التي صدرت في الكتاب الذهبي، اذكر انه وصفها بخطوة مهمة في سبيل وصل القصة القصيرة بفن المقامة، غير ان صبري موسي لم يواصل ما بدأه، غير ان اهم من التقيت بهم في الندوة زملائي ادباء الستينيات كانت الندوة أهم نقطة تحلق حولها هذا الجيل وتكون. اذكر مقابلتي الاولي لمحمد البساطي، كان قد أنهي خدمته العسكرية للتو، بالأمس، وعند خروجه إلي الحياة المدنية قصد ندوة نجيب محفوظ، كذلك يوسف القعيد الذي جاء من قرية »الضهرية « الي الندوة مباشرة وأصبح صديق العمر لولا تلك الندوة لأمضينا عدة أعوام حتي يتم لقاؤنا، اعني ادباء الستينيات، ولذلك اعتبرها من التجمعات الادبية المهمة التي لعبت دوراً في تقارب وتفاعل ابناء هذا الجيل. وعندما اقول ندوة محفوظ فإنني لا أقصد هذا المكان الذي جلست اليه فيه لأول مرة، إذ انتقلت الندوة بعد ايقافها عام واحد وستين، في عدة اماكن أخري حتي استقر بها المقام في كازينو قصر النيل، وفيه انتهي اللقاء المفتوح بعد محاولة اغتيال الاستاذ عام اربعة وتسعين ليبدأ زمن الاماكن المغلقة والتي عاش يمقتها طوال عمره، إذ عاش عمره يسعي بين الناس، يسعي بالمعني الحرفي للكلمة، يخرج من بيته في العجوزة السادسة صباحا ليمشي حتي وسط البلد، ليرشف فنجان القهوة ويقرأ الصحف، ثم يذهب إلي مكتبه أيام الوظيفة ويعود إلي بيته في سنوات المعاش.
توقف هذا كله، وبدأ منذ عام خمسة وتسعين زمن الاماكن المغلقة، المحروسة بأفراد الامن، لامن نفسه الذي وضع حدا لنهاية لقاء الجمعة الأسبوعي في مقهي الاوبرا!
لو أن المناقشات الادبية التي دارت عبر تلك السنوات سجلت، لحفظ لنا التاريخ وثيقة جيدة ذات شأن كانت الحوارات جادة، يتخللها الضحك احيانا، خاصة مع »قفشات« محفوظ الشهيرة والتي مازال ذهنه يتمتع بالحيوية والرصانة التي تمكنه من اطلاق النكات التي تجعلنا أحيانا نبكي من شدة الضحك. سنوات طويلة نهاية المرحلة، نتحلق حوله: يوسف القعيد، الابنودي، نعيم صبري، زكي سالم، عماد العمودي »العمدة كما كان يسميه« مجدي سعد المحامي والمهندس حسن ناصر. ذات صباح وصلت الي كازينو الاوبرا مبكرا، كان محفوظ يجلس بمفرده، ادركتني رهبة جلست امامه صامتا، وفجأة سألني بحنو.
»جمال.. انت بتكتب ليه..«
بوغت بالسؤال، قلت بعد حيرة
»باكتب لاني عاوز اكتب..«
الآن.. عندما استعيد صوته، والقاءه السؤال، أكاد اثق انه كان يسأل نفسه قبل أن يسألني.. وعندما استعيد طلته عليَّ عندما تقدمت منه لاول مرة، أكاد اراها في عينيه كلما قابلته اول دخوله جلستنا كل ثلاثاء، او عند دخولي عليه، طلة طيبة، رحيمة، اصيلة، ندية، لم تتبدل رغم بلوغه مرحلة متقدمة في العمر، اكتملت رحلته وهو في الرابعة والتسعين، لقد اتصلت علاقتنا وتطورت عبر السنين، انتقلت بصحبته وتحت رعايته من الشباب الي الشيخوخة، عشت معه افراح واحزان الوطن والانسانية، كذلك خلجاتنا الشخصية، احزاننا وافراحنا، واذ تحل ذكراه المائة التي قدر لي ان امر بها بدونه، فإنني لا استعيد زمنا يخصه هو بل عمري بمراحله من الصبا الي الشيخوخة، وايامنا التي كانت.
تلك الصورة
في مكتبي، في بيتي، اعلق نسخة مكبرة من صورة لنجيب محفوظ، التقطتها عام الف وتسعمائة واثنين وتسعين في بيت السحيمي، لست متقنا لفن التصوير، لذلك اعتدت ان اصحب آلة بسيطة، تعمل بشكل آلي، لا تحتاج إلي ضبط فرغم عملي الطويل مع مصورين كبار من ابناء اخبار اليوم. واقترابي ومرافقتي لمكرم جاد الكريم، ولمحمد عبدالرحمن الا انني لم اتقن هذا الفن، ولم أحاول فهم اسراره منهم، بل إنني في السنوات الاخيرة لم أعد اهتم بتسجيل اللحظات المهمة التي تمر بي، وكثيرا ما اسافر بدون آلة التصوير، كما انني لا اشعر بحماس عندما يدعوني احدهم إلي مواجهة الكاميرا، عدم حماس ربما مبعثه ان كل شيء زائل، وانني في مرحلة ترتيب الاوضاع والاوراق قبل السفر الذي سبقني إليه استاذي ومعلمي.
لم اتقن فن التصوير، اعتمد علي تلك الآلة الآلية لالتقاط لحظات حميمة او فريدة خلال رحلاتي، في عام اثنين وتسعين من القرن الماضي قال لي نجيب محفوظ انه يرغب في زيارة الجمالية وبيت السحيمي بالتحديد، اتفقنا علي موعد في الصباح، جاء في عربة اجرة صغيرة الي ميدان بيت القاضي الذي وُلد فيه، في ذلك الوقت كان يتحرك بمفرده، حراً بدون حراسة، وظل الامر كذلك حتي عام اربعة وتسعين عندما وقعت محاولة الاغتيال الآثمة فتبدلت ظروفه تماما ولهذا حديث آخر، نزل متوكئاً علي عصا نحتها وهذبها صديقه الفنان احمد مظهر من حديقة بيته، مشينا إلي بيت السحيمي القريب، اعتدت في صحبتي له عبر حواري وأزقة القاهرة القديمة أن احترم صمته واستغراقه، فمجئ الانسان الي مكان ارتبط به وصار يمثل بالنسبة اليه حجر الزاوية في حياته، ذهاب المرء اليه يعني الرغبة في استعادة ذكريات، لحظات من الزمن المنقضي، الجمالية بالنسبة له كانت منبعا ومصدرا لإلهامه وابداعه، وعبر حوالي خمسة واربعين عاماً أصبحت أعرف عاداته وما يمكن ان يقوله إذا تحاورنا، أصبح لر فقتي له آداب ألتزم بها، في الجمالية اثناء تجوالنا لم اكن ابادر بالنطق الا إذا تحدث هو، في مرات نادرة كنت اسأل عندما اريد أن اتأكد من أمر يتعلق بالمكان نفسه، مثل موقع مقهي قديم، او اسرة رحلت، او بيت تهدم، من هنا حرصت خلال العام الاخير السابق علي الرحيل ان اسجل بالصوت والصورة معالم الاماكن التي عرفتها من خلاله، فلا يوجد في العالم الا شخصي البسيط الذي يعرفها، منذ عام اربعة وتسعين وحتي الرحيل لم يقم بزيارة الجمالية، انني ثاني اقدم صديق له، الاقدم الآن توفيق صالح المخرج السينمائي وعضو جماعة الحرافيش القديمة، يليه العبد لله، أما اصدقاء الطفولة وجماعة العباسية فقد رحلوا جميعا وكان آخرهم عبدالحي الالفي وكيل وزارة المالية السابق، توفاه الله في منتصف الثمانينيات، هكذا اقدمت علي تسجيل حلقات تليفزيونية اذيعت في برنامجي »تجليات مصرية« الذي اقدم فيه الاثار المصرية في القاهرة القديمة واعرف من خلاله بناسها واهلها.
وصلنا بيت السحيمي، واستقبلنا المرحوم محمد مجاهد وقتئذ المشرف عليه، وتظاهرت انني سأتحدث حديثا خاصا معه حتي نترك الاستاذ منفردا، غير انه ناداني بعد دقائق، وراح يحدثني عن بيته الاول الذي رأي فيه الدنيا، وعن الفروق بين السحيمي وبيته، كذلك اوجه التشابه، أثناء جلوسنا دخلت مجموعة من الطالبات، جئن في رحلة مدرسية، تعرفن علي الاستاذ، وقفن بجواره وبعضهن حصلن علي توقيعه، لم تكن يده اليمني قدكفت بعد.
لماذا اصطحبت معي آلة التصوير البسيطة ذلك اليوم.
لا اذكر، لا يمكنني استعادة الدافع، راح من ذاكرتي، عند انصرافنا، مضينا عبر الممر المؤدي إلي الباب، تبعته علي بعد خطوتين، في لحظة خاطفة صوبت آلة التصوير وضغطت الزر، لماذا قمت بتصويره من الخلف؟ لا أدري، طبعت الفيلم، لقطات عديدة مع طالبات الثانوي وهن يحطن به، عند نزوله من عربة الاجرة، ظلت الصور في احد ادراج مكتبي، لم انشر منها أي لقطة، بعد الرحيل، رحت افحص ما قمت بتصويره خلال حوالي ربع قرن، فجأة وجدت هذه الصورة، تلك اللقطة في يدي، كان ذلك في اليوم السابق علي طبع اخبار الادب، هكذا ظهرت اللقطة وكأنه يودع الكون كله متجها إلي هذا الضوء الساطع، لذلك اطلقت عليها، »الخروج الي النهار«، عنوان الكتاب المقدس لمصر القديمة، وكلما سألني سائل عن اسرارها أبتسم تماما كما كان الاستاذ يبتسم إذا رغب ان يسخر من امر ما!
منذ سنوات زارني مصور فرنسي شهير اشتركنا معا في اصدار كتاب عن القاهرة، كتبت له مقدمة طويلة تكاد تكون كتابا متكاملا، تطلع بدهشة واعجاب الي الصورة المعلقة في مواجهتي، قال إنها فنية جدا، راح يسألني عن الفتحات التي استخدمتها وعن كيفية مواجهة الضوء، اسئلة فنية جدا رددها عليَّ الصديق ايمن الصياد رئيس تحرير مجلة »وجهات نظر« عندما قرر نشرها علي غلاف المجلة رغم ظهورها علي غلاف جريدة أخبار الادب بعد رحيل الاستاذ مباشرة.
اسئلة لم أعرف كيف أجيب عليها ليس عن رغبة في الاخفاء، ولكن عن جهل بما فعلت، مازلت أذكر قول المصور الفرنسي بعد أن لاحظ ترددي »انني احترم حرصك علي اسرارك..«
اما الفنان فاروق إبراهيم رحمه الله، فلن أنسي تعليقه، أن هذه الصورة من اكثر اللقطات التي اراها فنية وبراعة، إن في مكتبتي الخاصة او في مكتبي بدار اخبار اليوم اتطلع الي نجيب محفوظ يتجه الي النور المنبعث من فناء بيت السحيمي في كل لحظة ماثلا امامي من الخلف، انظر اليه وكأني اتبعه.
من ديوان النثر العربي :
اعتبرت الأدب حياة لا مهنة، فحينما تعتبره مهنة لا تستطيع إلا ان تشغل بالك بالثمرة ، اما انا فقد حصرت اهتمامي في الانتاج نفسه ، وليس بما ورائه .
نجيب محفوظ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.