محافظ البحيرة: المرأة البحراوية تتصدر مشهد الانتخابات منذ الصباح الباكر    جامعة أسيوط تطلق الزي الموحد للعاملين بالمطعم المركزي    وزير الإسكان: العاصمة الإدارية أصبحت مركزًا متكاملًا للحكومة    برامج مساندة لشريحة متوسطى الدخل لمساعدتهم فى مواجهة الأعباء.. إنفوجراف    صعود مؤشرات البورصة بختام تعاملات جلسة بداية الأسبوع    محافظ المنوفية يناقش إحلال ورفع كفاءة كوبري مبارك بشبين الكوم    ليبيا.. رئيس الأركان التركي يشارك في مراسم تشييع الوفد العسكري    الأحزاب السياسية في تايلاند تسجل مرشحيها لمنصب رئيس الوزراء المقبل    غضب عارم.. جماهير ليفربول تهاجم ذا أتلتيك دفاعًا عن محمد صلاح    اتصال هاتفي بين وزير الخارجية ونظيره المغربي    محمود عاشور حكمًا لل VAR بمواجهة مالي وجزر القمر في كأس الأمم الأفريقية    رئيس الوزراء يُتابع ترتيبات عقد امتحانات الثانوية العامة لعام 2026    وزارة الداخلية تضبط 4 أشخاص جمعوا بطاقات الناخبين    قضية تهز الرأي العام في أمريكا.. أسرة مراهق تتهم الذكاء الاصطناعي بالتورط في وفاته    محمد أبو عوض: برلمان 2026 سيشهد نضجا سياسيا.. وتدخل الرئيس صحح المسار    بابا لعمرو دياب تضرب رقما قياسيا وتتخطى ال 200 مليون مشاهدة    مواعيد وجدول مباريات اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025    بتكلفة 17 مليون جنيه.. محافظ المنيا يفتتح أعمال تطوير مدرسة "النور للمكفوفين"    هجمات بطائرات مسيرة أوكرانية تجبر مطارين بموسكو على الإغلاق لساعات    محمود حميدة: طارق النبراوي يفهم معنى العمل العربي المشترك وقادر على رسم المستقبل    وزارة الصحة: غلق مصحة غير مرخصة بالمريوطية وإحالة القائمين عليها للنيابة    من مخزن المصادرات إلى قفص الاتهام.. المؤبد لعامل جمارك بقليوب    مباشر أمم إفريقيا - الجابون (0)-(0) موزمبيق.. صاروخ مبكر    الزمالك يصل ملعب مباراته أمام بلدية المحلة    وصول جثمان المخرج داود عبد السيد إلى كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة    رحيل أسطورة الشاشة الفرنسية بريجيت باردو عن عمر 91 عامًا    صاحب الفضيلة الشيخ / سعد الفقي يكتب عن : شخصية العام!    " نحنُ بالانتظار " ..قصيدة لأميرة الشعر العربى أ.د.أحلام الحسن    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : حينما نزل الغيث ؟!    لتخفيف التشنج والإجهاد اليومي، وصفات طبيعية لعلاج آلام الرقبة والكتفين    مؤسسة التضامن للتمويل الأصغر تجدد اتفاق تمويل مع بنك البركة بقيمة 90 مليون جنيه    وصول جثمان المخرج داوود عبدالسيد إلى كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة    مي كساب تبدأ تصوير مسلسل «نون النسوة» استعدادًا لرمضان 2026    الداخلية تقضي على بؤر إجرامية بالمنوفية وتضبط مخدرات بقيمة 54 مليون جنيه    52 % نمو في أرباح ديجيتايز خلال 9 أشهر    البنك الأهلي وبنك مصر يخفضان الفائدة على الشهادات متغيرة العائد المرتبطة بالمركزي    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة في صورة بطاطين    أزمة السويحلي الليبي تتصاعد.. ثنائي منتخب مصر للطائرة يلجأ للاتحاد الدولي    بدون حبوب| أطعمة طبيعية تمد جسمك بالمغنيسيوم يوميا    «ليمتلس ناتشورالز» تعزز ريادتها في مجال صحة العظام ببروتوكول تعاون مع «الجمعية المصرية لمناظير المفاصل»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم فى سوهاج    هيئة الرعاية الصحية تستعرض إنجازات التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم القناة    الصحة: الشيخ زايد التخصصي يجري قساطر قلبية معقدة تتجاوز تكلفتها مليون جنيه على نفقة الدولة    وزير الصناعة يزور مقر سلطة الموانئ والمناطق الحرة في جيبوتي ويشهد توقيع عدد من الاتفاقيات    أمم أفريقيا 2025.. تشكيل بوركينا فاسو المتوقع أمام الجزائر    مد غزة ب7400 طن مساعدات و42 ألف بطانية ضمن قافلة زاد العزة ال103    الناخبون يتوافدون للتصويت بجولة الإعادة في 19 دائرة ب7 محافظات    لافروف: روسيا تعارض استقلال تايوان بأي شكل من الأشكال    أول تعليق من حمو بيكا بعد انتهاء عقوبته في قضية حيازة سلاح أبيض    2026 .. عام الأسئلة الكبرى والأمنيات المشروعة    2025.. عام المشروعات الاستثنائية    كيف ينتج تنظيم الإخوان ازدواجيته.. ثم يخفيها وينكرها؟    الزمالك يخشى مفاجآت كأس مصر في اختبار أمام بلدية المحلة    انطلاق الانتخابات التشريعية في ميانمار    شريف الشربيني يشارك في اجتماع لجنة الإسكان بمجلس الشيوخ اليوم    عبد الفتاح عبد المنعم: الصحافة المصرية متضامنة بشكل كامل مع الشعب الفلسطينى    أمطار ورياح قوية... «الأرصاد» تدعو المواطنين للحذر في هذه المحافظات    يوفنتوس يقترب خطوة من قمة الدوري الإيطالي بثنائية ضد بيزا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الاخبار
محفوظ.. قرن من الزمان
نشر في الأخبار يوم 06 - 12 - 2011

بعد قرن من ميلاده ، أصبح نجيب محفوظ جزءا من تاريخ الانسانية ، ورمزا لمصر ، لا ينكره إلا جاهل أو أحمق.
قرن كامل مضي علي ميلاد نجيب محفوظ.. في ديسمبر 1191 جاء إلي العالم وفي أغسطس 6002 خرج إلي النور، إلي الأبدية وما بينهما أبدع للإنسانية ما سيظل خالداً، تلك النصوص الروائية الجميلة، قدر لي أن أكون آخر من يراه، كان ذلك في مستشفي الشرطة الثانية عشرة ليلا، قبل النفس الأخير بساعة واحدة، أعود بالذاكرة إلي يوم جمعة، عندما وقع بصري عليه لأول مرة وسط القاهرة عام تسعة وخمسين.
كأني أراه الآن، في حركته في تقدمه باتجاه المقهي الذي كانت تعقد فيه الندوة الأسبوع التي ستلعب دوراً كبيرا في تكويني، وبعد ان تنتهي وتتوقف بسبب تدخل الأمن، تستمر علاقتي به حتي اكتمال أجله، دائما أعود إلي تلك اللحظة، عندما رأيته أول مرة.. اذن.. كان الوقت قبل العاشرة، إذ كان الاستاذ قادما من ناحية ميدان العتبة الخضراء متجها إلي مقهي الأوبرا، ولأنه شديد الدقة فلابد أن الوقت كان دون العاشرة بدقائق، كان ذلك عام تسعة وخمسين، أحد أيام الجمع الخريفية.
كان يرتدي حلة رمادية، وكان متين البنية، يمشي بقامة مفرودة، بميل قليل إلي الخلف، وعينان تتطلعان إلي الامام، نظرة تتجه إلي أعلي، لا تتجه إلي أسفل، كانت قامته أطول مما هي عليه الآن، ولا أبالغ اذا قلت ان جسده كان ضعف حجمه الحالي، وربما أكثر، لم تكن الشيخوخة سببا وحيدا لضموره، لكنه النظام الصارم الذي ألزم نفسه به منذ اكتشافه مرض السكر عام اثنين وتسعين بالصدفة عندما اضطر إلي اجراء عدة تحليلات طبية كان لابد منها لإنهاء اجراءات خاصة بالتأمين علي الحياة، منذ ذلك الحين لا يأكل الا المسلوق وبكميات ضئيلة، قال لي دوما إن المعدة تنكمش وتتكيف مع كمية الطعام التي تتلقاها، احيانا اثناء تناولنا العشاء كنا ندس له في الطبق قطعة صغيرة من الكفتة، لكنه سرعان ما يكتشفها، فما يأكله محدود بدقة محفوظية صارمة، حتي فنجان القهوة يرشفه بنظام، في البداية يرشف »الوش« مع انفاس السيجارة، ثم رشفة اخري، ثم يغطي الفنجان بالطبق الصغير، وبعد حوالي ثلاث دقائق يعود إليه. الآن يدخن ثلاث سجائر في اليوم، طبقا لتعليمات الطبيب، وبرشاقة محفوظية يقول: »وأحيانا أزوغ نفسين من رابعة..«
إنه مدخن قديم، ومنه تعلمت تدخين النرجيلة، عندما عرفته كان مازال يدخنها، يتردد علي مقهي الفيشاوي، ومقهي عرابي، علاقته بالفيشاوي ومقاهي الجمالية قديمة تعود إلي أيام فتوته وخلال عمله موظفا بالأوقاف نقل مغضوبا عليه الي قبة الغوري، تغيرت وزارة حزب الوفد بوزارة أخري، وكان يشغل منصب السكرتير البرلماني لوزير الاوقاف، الشيخ مصطفي عبدالرازق وزير الاوقاف، وكان استاذه في الجامعة، كان عمله يتلخص في اعداد الرد علي الاستجوابات التي تقدم الي الوزير في البرلمان، وعندما نقل الي قبة الغوري أصبح موظفا في صندوق الدين الذي كان يقدم القروض الحسنة للأهالي أي دون فائدة أو بفوائد ميسرة، كان عملا مسليا كما يقول يتعامل خلاله مع الناس وأبناء البلد. لكن أهم ما اكتشفه في قبة الغوري المكتبة العامرة والتي كانت تضم نفائس نادرة منها نسخة أصلية لرواية مارسيل بروست الشهيرة »البحث عن الزمن الضائع« بالفرنسية والتي عكف علي قراءتها بتأن، كان يختلس بعض اللحظات ليمضي الي المقهي ويجلس وحيدا، النرجيلة أفضل صديق يؤنس الوحدة، انها صديق صامت كما يصفها محفوظ، توقف عن تدخينها في مطلع الستينيات وحل بدلها السجائر التي علقت به حتي رحيله.
في تلك اللحظة النائية التي رأيته فيها لأول مرة، كان عمره تسعة واربعين عاما، وكنت اخطو نحو عامي الخامس عشر، لا أدري كيف عرفت انه نجيب محفوظ، لم يكن التليفزيون قد دخل الي حياتنا بعد، ربما من صورته التي نشرت له علي الغلاف الداخلي لرواية »خان الخليلي« وربما من صور اخري نشرت في بعض الصحف والمجلات الاخري، كنت أقف في مواجهة الجانب الجنوبي للأوبرا القديمة، الجميلة، التي افتتحت في عهد الخديوي اسماعيل بمناسبة احتفالات افتتاح قناة السويس، واحترقت عام واحد وسبعين في القرن الماضي في مفتتح عهد الرئيس أنور السادات، وبذلك اختفي معلم مهم وجميل ورمز من وسط المدينة ليحل مكانه جراج متعدد الطوابق!!
كنت أقف منتظرا صديق وزميل دراسة، يسكن تلك العمارة القديمة المطلة علي شارع عبدالخالق ثروت باشا عندما ظهر نجيب محفوظ، كنت امسك مجموعة قصصية لانطون تشيخوف ترجمها الي العربية الدكتور محمد القصاص، ومازلت احتفظ في مكتبتي بتلك المجموعة الجميلة، تقدمت منه، وعندما نطقت بالتحية.
أطلت عليَّ نظرته الهادئة، المتأملة، التي لم تغيرها السنوات وتواليها وما تحفل به، عين النظرة التي اراها حتي الان، رغم أن العينين ادركهما الوهن، وأصبحتا غير قادرتين علي القراءة، وضاق مدي الرؤية، فلا يميز الشخص إلا من مسافة قصيرة، لكن ماتزال نظرته تلك تضفي حضوراً خاصا يميز ملامحه، يتلخص في كلمة واحدة »طيب« في العامية المصرية كلمة دالة، كلمة »طيب« إنها تعني الدقة والخصال الحسنة، وحب الخير، وكل ما هو انساني جميل، لا أجد إلا تلك الكلمة تلخص نظرة محفوظ وتطلعه اليًّ ذلك الصباح البعيد عني الآن.
»صباح الخير يا استاذ نجيب...«
»صباح النور.. أهلا..«
قلت له إنني مبسوط لرؤيته، وأنني اقرأ له وأحببت ما قرأت، وانني اكتب أيضا، أبدي ترحيبا، ودعاني الي الندوة الاسبوعية، قال بصيغة الجمع »احنا بنقعد كل يوم جمعة من الساعة عشرة...«
في الأسبوع التالي مباشرة، في تمام العاشرة كنت أدخل القاعة في المقهي اوروبي الطابع، أي أنه مقهي بدون نرجيلة، بدون لعب طاولة او دومينو، كان يحتل الطابق الثاني من مبني يتكون من ثلاثة طوابق، الطابق الأول يحتله مقهي انيق، تقدم فيه النرجيلة، وكان من المقاهي القليلة وقتئذ في القاهرة الذي يمكن أن يري فيه المرء نساء يجلسن لتدخين النرجيلة، ويقدم ايضا المشاريب الأخري، الطابق الثاني كان مقهي تقدم فيه المشاريب فقط، اما الثالث فكان له مدخل جانبي خاص، إذ كان عبارة عن ملهي ليلي، معروف باسم صاحبة المبني كله، الراقصة صفية حلمي، ويبدو أنها كانت تحظي بشهرة في ثلاثينيات واربعينيات القرن، واتيح لي أن اراها في هذا الملهي خلال الستينيات، كانت سيدة متقدمة في السن، متوسطة القامة يقتصر ظهورها علي بضع دقائق تتوسط خلالها الراقصات اللاتي سيقدمن استعراضاتهن، ثم تنسحب الي مائدة في أقصي الصالة، وسمعت من يقول إنها عملت مع الراقصة الشهيرة بديعة مصابني، الطابق الثالث لا يعمل إلا بعد العاشرة ليلا، وله مدخل منفصل، لذلك لم يكن جزءاً من الطابقين الاول والثاني، المتصلين عن طريق سلم واحد، كل منهما يؤدي إلي الآخر، وكان المشاهير يقصدون المقهي ويجلسون به، ويبدو ان ادارة المقهي كانت ترحب بندوة محفوظ الاسبوعية فكانت الموائد تضم الي بعضها بشكل طولي، وينتظم حولها الادباء والمريدون، بينما يتصدر محفوظ الجلسة، إذ كان الجميع يتحلقون حوله، كان يصغي ويشارك، ويطرح الاسئلة، وكانت يجلس حوله، الاديب الحضرمي الاصل احمد علي باكثير، والاديب عبدالحميد جودة السحار، والاديب ثروت اباظة، ومن رواد المقهي الشباب وقتئذ القصاص أحمد نوح، وكان صاحب روح ساخرة، سريع النكتة، يكتب قصصا قصيرة ساخرة، اختفي ولم يعد له ذكر، لا أدري شيئا عنه الآن، كان هناك الاديب صبري موسي، والذي ابدي محفوظ اعجابا بمجموعته القصيرة »حكايات صبري موسي« التي صدرت في الكتاب الذهبي، اذكر انه وصفها بخطوة مهمة في سبيل وصل القصة القصيرة بفن المقامة، غير ان صبري موسي لم يواصل ما بدأه، غير ان اهم من التقيت بهم في الندوة زملائي ادباء الستينيات كانت الندوة أهم نقطة تحلق حولها هذا الجيل وتكون. اذكر مقابلتي الاولي لمحمد البساطي، كان قد أنهي خدمته العسكرية للتو، بالأمس، وعند خروجه إلي الحياة المدنية قصد ندوة نجيب محفوظ، كذلك يوسف القعيد الذي جاء من قرية »الضهرية « الي الندوة مباشرة وأصبح صديق العمر لولا تلك الندوة لأمضينا عدة أعوام حتي يتم لقاؤنا، اعني ادباء الستينيات، ولذلك اعتبرها من التجمعات الادبية المهمة التي لعبت دوراً في تقارب وتفاعل ابناء هذا الجيل. وعندما اقول ندوة محفوظ فإنني لا أقصد هذا المكان الذي جلست اليه فيه لأول مرة، إذ انتقلت الندوة بعد ايقافها عام واحد وستين، في عدة اماكن أخري حتي استقر بها المقام في كازينو قصر النيل، وفيه انتهي اللقاء المفتوح بعد محاولة اغتيال الاستاذ عام اربعة وتسعين ليبدأ زمن الاماكن المغلقة والتي عاش يمقتها طوال عمره، إذ عاش عمره يسعي بين الناس، يسعي بالمعني الحرفي للكلمة، يخرج من بيته في العجوزة السادسة صباحا ليمشي حتي وسط البلد، ليرشف فنجان القهوة ويقرأ الصحف، ثم يذهب إلي مكتبه أيام الوظيفة ويعود إلي بيته في سنوات المعاش.
توقف هذا كله، وبدأ منذ عام خمسة وتسعين زمن الاماكن المغلقة، المحروسة بأفراد الامن، لامن نفسه الذي وضع حدا لنهاية لقاء الجمعة الأسبوعي في مقهي الاوبرا!
لو أن المناقشات الادبية التي دارت عبر تلك السنوات سجلت، لحفظ لنا التاريخ وثيقة جيدة ذات شأن كانت الحوارات جادة، يتخللها الضحك احيانا، خاصة مع »قفشات« محفوظ الشهيرة والتي مازال ذهنه يتمتع بالحيوية والرصانة التي تمكنه من اطلاق النكات التي تجعلنا أحيانا نبكي من شدة الضحك. سنوات طويلة نهاية المرحلة، نتحلق حوله: يوسف القعيد، الابنودي، نعيم صبري، زكي سالم، عماد العمودي »العمدة كما كان يسميه« مجدي سعد المحامي والمهندس حسن ناصر. ذات صباح وصلت الي كازينو الاوبرا مبكرا، كان محفوظ يجلس بمفرده، ادركتني رهبة جلست امامه صامتا، وفجأة سألني بحنو.
»جمال.. انت بتكتب ليه..«
بوغت بالسؤال، قلت بعد حيرة
»باكتب لاني عاوز اكتب..«
الآن.. عندما استعيد صوته، والقاءه السؤال، أكاد اثق انه كان يسأل نفسه قبل أن يسألني.. وعندما استعيد طلته عليَّ عندما تقدمت منه لاول مرة، أكاد اراها في عينيه كلما قابلته اول دخوله جلستنا كل ثلاثاء، او عند دخولي عليه، طلة طيبة، رحيمة، اصيلة، ندية، لم تتبدل رغم بلوغه مرحلة متقدمة في العمر، اكتملت رحلته وهو في الرابعة والتسعين، لقد اتصلت علاقتنا وتطورت عبر السنين، انتقلت بصحبته وتحت رعايته من الشباب الي الشيخوخة، عشت معه افراح واحزان الوطن والانسانية، كذلك خلجاتنا الشخصية، احزاننا وافراحنا، واذ تحل ذكراه المائة التي قدر لي ان امر بها بدونه، فإنني لا استعيد زمنا يخصه هو بل عمري بمراحله من الصبا الي الشيخوخة، وايامنا التي كانت.
تلك الصورة
في مكتبي، في بيتي، اعلق نسخة مكبرة من صورة لنجيب محفوظ، التقطتها عام الف وتسعمائة واثنين وتسعين في بيت السحيمي، لست متقنا لفن التصوير، لذلك اعتدت ان اصحب آلة بسيطة، تعمل بشكل آلي، لا تحتاج إلي ضبط فرغم عملي الطويل مع مصورين كبار من ابناء اخبار اليوم. واقترابي ومرافقتي لمكرم جاد الكريم، ولمحمد عبدالرحمن الا انني لم اتقن هذا الفن، ولم أحاول فهم اسراره منهم، بل إنني في السنوات الاخيرة لم أعد اهتم بتسجيل اللحظات المهمة التي تمر بي، وكثيرا ما اسافر بدون آلة التصوير، كما انني لا اشعر بحماس عندما يدعوني احدهم إلي مواجهة الكاميرا، عدم حماس ربما مبعثه ان كل شيء زائل، وانني في مرحلة ترتيب الاوضاع والاوراق قبل السفر الذي سبقني إليه استاذي ومعلمي.
لم اتقن فن التصوير، اعتمد علي تلك الآلة الآلية لالتقاط لحظات حميمة او فريدة خلال رحلاتي، في عام اثنين وتسعين من القرن الماضي قال لي نجيب محفوظ انه يرغب في زيارة الجمالية وبيت السحيمي بالتحديد، اتفقنا علي موعد في الصباح، جاء في عربة اجرة صغيرة الي ميدان بيت القاضي الذي وُلد فيه، في ذلك الوقت كان يتحرك بمفرده، حراً بدون حراسة، وظل الامر كذلك حتي عام اربعة وتسعين عندما وقعت محاولة الاغتيال الآثمة فتبدلت ظروفه تماما ولهذا حديث آخر، نزل متوكئاً علي عصا نحتها وهذبها صديقه الفنان احمد مظهر من حديقة بيته، مشينا إلي بيت السحيمي القريب، اعتدت في صحبتي له عبر حواري وأزقة القاهرة القديمة أن احترم صمته واستغراقه، فمجئ الانسان الي مكان ارتبط به وصار يمثل بالنسبة اليه حجر الزاوية في حياته، ذهاب المرء اليه يعني الرغبة في استعادة ذكريات، لحظات من الزمن المنقضي، الجمالية بالنسبة له كانت منبعا ومصدرا لإلهامه وابداعه، وعبر حوالي خمسة واربعين عاماً أصبحت أعرف عاداته وما يمكن ان يقوله إذا تحاورنا، أصبح لر فقتي له آداب ألتزم بها، في الجمالية اثناء تجوالنا لم اكن ابادر بالنطق الا إذا تحدث هو، في مرات نادرة كنت اسأل عندما اريد أن اتأكد من أمر يتعلق بالمكان نفسه، مثل موقع مقهي قديم، او اسرة رحلت، او بيت تهدم، من هنا حرصت خلال العام الاخير السابق علي الرحيل ان اسجل بالصوت والصورة معالم الاماكن التي عرفتها من خلاله، فلا يوجد في العالم الا شخصي البسيط الذي يعرفها، منذ عام اربعة وتسعين وحتي الرحيل لم يقم بزيارة الجمالية، انني ثاني اقدم صديق له، الاقدم الآن توفيق صالح المخرج السينمائي وعضو جماعة الحرافيش القديمة، يليه العبد لله، أما اصدقاء الطفولة وجماعة العباسية فقد رحلوا جميعا وكان آخرهم عبدالحي الالفي وكيل وزارة المالية السابق، توفاه الله في منتصف الثمانينيات، هكذا اقدمت علي تسجيل حلقات تليفزيونية اذيعت في برنامجي »تجليات مصرية« الذي اقدم فيه الاثار المصرية في القاهرة القديمة واعرف من خلاله بناسها واهلها.
وصلنا بيت السحيمي، واستقبلنا المرحوم محمد مجاهد وقتئذ المشرف عليه، وتظاهرت انني سأتحدث حديثا خاصا معه حتي نترك الاستاذ منفردا، غير انه ناداني بعد دقائق، وراح يحدثني عن بيته الاول الذي رأي فيه الدنيا، وعن الفروق بين السحيمي وبيته، كذلك اوجه التشابه، أثناء جلوسنا دخلت مجموعة من الطالبات، جئن في رحلة مدرسية، تعرفن علي الاستاذ، وقفن بجواره وبعضهن حصلن علي توقيعه، لم تكن يده اليمني قدكفت بعد.
لماذا اصطحبت معي آلة التصوير البسيطة ذلك اليوم.
لا اذكر، لا يمكنني استعادة الدافع، راح من ذاكرتي، عند انصرافنا، مضينا عبر الممر المؤدي إلي الباب، تبعته علي بعد خطوتين، في لحظة خاطفة صوبت آلة التصوير وضغطت الزر، لماذا قمت بتصويره من الخلف؟ لا أدري، طبعت الفيلم، لقطات عديدة مع طالبات الثانوي وهن يحطن به، عند نزوله من عربة الاجرة، ظلت الصور في احد ادراج مكتبي، لم انشر منها أي لقطة، بعد الرحيل، رحت افحص ما قمت بتصويره خلال حوالي ربع قرن، فجأة وجدت هذه الصورة، تلك اللقطة في يدي، كان ذلك في اليوم السابق علي طبع اخبار الادب، هكذا ظهرت اللقطة وكأنه يودع الكون كله متجها إلي هذا الضوء الساطع، لذلك اطلقت عليها، »الخروج الي النهار«، عنوان الكتاب المقدس لمصر القديمة، وكلما سألني سائل عن اسرارها أبتسم تماما كما كان الاستاذ يبتسم إذا رغب ان يسخر من امر ما!
منذ سنوات زارني مصور فرنسي شهير اشتركنا معا في اصدار كتاب عن القاهرة، كتبت له مقدمة طويلة تكاد تكون كتابا متكاملا، تطلع بدهشة واعجاب الي الصورة المعلقة في مواجهتي، قال إنها فنية جدا، راح يسألني عن الفتحات التي استخدمتها وعن كيفية مواجهة الضوء، اسئلة فنية جدا رددها عليَّ الصديق ايمن الصياد رئيس تحرير مجلة »وجهات نظر« عندما قرر نشرها علي غلاف المجلة رغم ظهورها علي غلاف جريدة أخبار الادب بعد رحيل الاستاذ مباشرة.
اسئلة لم أعرف كيف أجيب عليها ليس عن رغبة في الاخفاء، ولكن عن جهل بما فعلت، مازلت أذكر قول المصور الفرنسي بعد أن لاحظ ترددي »انني احترم حرصك علي اسرارك..«
اما الفنان فاروق إبراهيم رحمه الله، فلن أنسي تعليقه، أن هذه الصورة من اكثر اللقطات التي اراها فنية وبراعة، إن في مكتبتي الخاصة او في مكتبي بدار اخبار اليوم اتطلع الي نجيب محفوظ يتجه الي النور المنبعث من فناء بيت السحيمي في كل لحظة ماثلا امامي من الخلف، انظر اليه وكأني اتبعه.
من ديوان النثر العربي :
اعتبرت الأدب حياة لا مهنة، فحينما تعتبره مهنة لا تستطيع إلا ان تشغل بالك بالثمرة ، اما انا فقد حصرت اهتمامي في الانتاج نفسه ، وليس بما ورائه .
نجيب محفوظ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.