تستهلك مصر 16 مليون طن قمح سنوياً تنتج منها 9 ملايين طن والباقى تستورده من الخارج، ولتنفيذ خطة الاكتفاء الذاتى من القمح شرعت وزارة الرى فى تجربة زراعة القمح مرتين خلال الموسم الشتوى وعرفت باسم «القمح المبرد» الذى استمرت زراعته بعد 4 سنوات من البحث، فى مناطق جغرافية متباينة مناخياً. والهدف كما أعلن الفريق البحثى هو زراعة القمح مرتين سنوياً إلى جانب توفير 55% من المياه من خلال توفير مياه ريتين كاملتين.. أما وزارة الزراعة فلم تمارس الصمت كعادتها هذه المرة، بل خرجت بتقرير رسمى لمركز البحوث الزراعية يؤكد أن التجربة مضيعة للوقت وإهدار للمال العام وتخالف النظام البيئى لزراعة القمح فى مصر، إذ إن زراعته فى سبتمبر ستسبب خسائر فادحة للمزارعين، حيث ينخفض إنتاج المحصول بصورة كبيرة، وترتفع فى التكاليف. وجاء الاعتراض من وزارة الزراعة لعدة أسباب، أهمها أن تبريد البذور بهدف تقصير فترة النمو فى يناير غير صحيح من الناحية العلمية ومخالف للقواعد العلمية لزراعة القمح الربيعي، حيث يصل الإنتاج فى الفدان إلى 7 أرادب فقط فى حين أن متوسط الإنتاج فى الزراعات العادية يصل إلى 18 أردباً و28 للحقول الإرشادية. البسمة التى رأيناها ترتسم على وجوه رجال الرى والزراعة أثناء حصاد نهاية التجربة، لم تدم طويلاً حتى ثار خلاف وتحول إلى لغز لدى الفلاحين.. وهو: «هل التجربة حقيقة أم وهم؟»، ولم تمر أيام حتى تدخلت رئاسة الجمهورية وطالبت بحسم الخلافات فى هذا النزاع ووضع نهاية لهذا الجدل، الذى أصبح شبيهاً بجهاز علاج فيروس «سى» وتحويل الفيروس إلى «صباع كفتة». نادر نورالدين، أستاذ الأراضى والمياه بكلية الزراعة جامعة القاهرة، يرى إن وزارة الرى تتدخل فى غير اختصاصها، متسائلاً عن سر علاقتها بالزراعة، فالبحوث الزراعية جزء أصيل من اختصاص وزارة الزراعة التى يوجد بها أقدم مركز أبحاث و18 كلية زراعة، فعلى سبيل المثال قسم المحاصيل بالوزارة لديه متخصصون فهناك أساتذة محاصيل وأساتذة تربية لإنتاج أصناف جديدة ذات إنتاجية عالية أو مقاومة للحشرات، أما وزارة الرى 90% من العاملين فيها مهندسون و10% باحثون فى الصرف الزراعى. ووصف ما تسعى إليه وزارة الرى بأنه «شو إعلامى» وخداع للمواطنين، فلا يوجد فى العالم قمح يحصد فى الشتاء. وأوضح أن وزارة الرى حصلت على التقاوى من وزارة الزراعة ولم تستعلم حتى عن خواص تلك التقاوى.. وكل ما تصرح به غير علمى وأبرز ما صرحت به لا يخاطب العقل المنطقى.. فكيف يمكن زراعة 3 ملايين فدان تحتاج إلى 40 ألف كيلو تقاوى، فما حجم الثلاجات ليسع 120 مليون كيلوجرام من التقاوى؟ كما أن الزراعة فى فبراير صعبة ويحدث زحام فنصف مساحة الأراضى قمح والآخر برسيم إلى جانب البنجر وشعير خالى الكحول والفول والحمص وغيرها.. فكيف ندبر 3 ملايين فدان لزراعة القمح المبرد فى شهر فبراير؟ كما أن الحصاد يكون فى شهر مايو مع بداية سخونة الجو والشمس حتى تجف الحبة وتكون قابلة للطحن. أما تجربة وزارة الرى فالحبوب خضراء غير قابلة للطحن لارتفاع نسبة الرطوبة بها والتى تسمى «فريك» تستخدم لأكلات الصعيد، إلى جانب أن الحصاد فى هذه الفترة يعرض الحبوب أثناء التخزين لفطر «الافلاتكسون»، لذلك تضع مصر قيوداً على استيراد القمح ومنها ألا تزيد نسبة الرطوبة به على 13% ودول أوروبا المصدرة للقمح طلبت أكثر من مرة أن توافق مصر على استيراد القمح بنسبة رطوبة 14% ومصر ترفض دائماً. وأضاف أن وزارة الرى أعلنت أن زراعة القمح المبرد ترشد المياه بنسبة 30 إلى 50% ثم أعقبته بتصريح آخر بأنها توفر المياه بنسبة 55%، وقالت الوزارة إن زراعة القمح ستكون فى سبتمبر والحصاد فى فبراير بفترة بقاء فى الأرض 3 شهور فقط، لكن إذا حسبنا الفترة من أول سبتمبر حتى نهاية فبراير ستكون 6 أشهر، كما أن وزارة الزراعة تحذر الفلاحين من الزراعة بعد ديسمبر حتى لا يتعرض المحصول لأمراض الصدأ التى تبيد المحصول وترهق الأرض فى حين ترى الرى غير ذلك أيضاً. وأضاف أن الباحث الذى تحدث عن هذه التجربة لم يعلم أن القمح المبرد تم تحويره وراثياً ليتحمل البرودة الشديدة وفى المنطقة التى رأى فيها هذا الباحث القمح المبرد فى بعض الدول الأوروبية لا يعرف أنهم قاموا بنقل «جين» تحمل البرودة الموجودة فى الأسماك إلى القمح عن طريق الهندسة الوراثية حتى يمكن زراعة القمح المبرد بهذه الطريقة. نتائج زائفة بعد الهجوم الشرس الذى تعرضت له وزارة الرى بسبب تجربة القمح المبرد، واتهامها من قبل الأساتذة والمتخصصين بأن التجربة إهدار للمال العام ولا تحقق أى نتائج جيدة، خرجت الوزارة لتعلن أن التجربة تمت من أجل الاهتمام بالمياه والحفاظ عليها، وتوفير عدد ريات من كمية المياه المستخدمة لزراعة الأراضى، إلى جانب توفير استهلاك الأسمدة وتقصير فترة نمو النبات. وقال دكتور على محمد إبراهيم استشارى وخبير التنمية الزراعية، إن قياس نجاح التجربة يكون بمدى جدواها الاقتصادية، فزراعة القمح مرتين سنوياً تكلف المزارع عمليات تجهيز للتربة وحصاد إلى جانب أن زراعة الأرض بمحصولين «نجيلين» يؤثر على خصوبة التربة ويصيبها بأمراض. ويؤكد خبير التنمية أن بعض الأصناف تنتج ما يصل إلى 30 أردباً للفدان الواحد وتستهلك نفس كمية المياه أو تزيد قليلاً، فى حين أن إنتاج الفدان حسب تجربة وزارة الرى ينتج 10 أرادب، فلا جدوى منها وما هى إلا استهلاك إعلامى. وقال مصدر بوزارة الزراعة رفض ذكر اسمه إن «دورة حياة نبات القمح الكاملة من 3 إلى 6 أشهر وزراعته مرتين بالعام»، وتساءل: «هل يمكن أن تخبرنا وزارة الرى هل سيوفر لهم الفلاح الأرض فى منتصف سبتمبر لزراعة العروة الأولى أى خالية من نهاية أغسطس لإعداد وحرث وتخطيط الأرض لزراعة القمح، أم أنه سيستغنى تماماً عن زراعة محصول الصيف سواء الذرة أو الأرز، وهذا يعنى مصيبة أخرى بالإضافة إلى نقص فى محاصيل أخرى استراتيجية لا تقل أهمية عن القمح؟». وأشار المصدر إلى أن الزراعات الأخرى ومنها البرسيم لتغذية الماشية طوال فصل الشتاء، والتخطيط الزمنى لوضع القمح بعروتين أى 8 أشهر خلاف فترات تجهيز الأرض قبل وبعد الحصاد. والأربعة أشهر المتبقية بالعام بعد زراعة القمح مرتين فماذا ستقدم للفلاح لسد احتياجه من باقى المحاصيل؟ وهل الحبوب الجديدة الناتجة من القمح المبرد ممتلئة ومكتملة النمو الجنينى وتصلح للزراعة باستمرار فى الأجيال القادمة؟ وهل الأقماح المنتجة تامة الجفاف وتتحمل التخزين فى الصوامع دون أن تتعفن؟