يعمل منذ سنوات طويلة على دراسة تاريخ الطائفية القبطية في مصر، يحلل علاقات الكنيسة بالأعيان الأقباط بالسلطة بالجيران المسلمين. بالإضافة لهذا فله كتاب هام حول الفن القبطي في القرن الثامن عشر، من زاوية الفنان يوحنا الأرمني. حول تاريخ الطائفية، وتاريخ بناء الكنائس، والتوتر بين المسلمين والأقباط، والتحرش المتبادل ولديه وثيقة مهمة حول التسامح والاخاء وربما الايثار تؤكد أن أحد البطاركة القبط أنشأ وقفًا، ويذكر أنه في حالة تعذر صرفه على المؤسسات المسيحية التي يذكرها، يُصرف ريع هذا الوقف على مصالح الحرمين الشريفين , ولأهمية هذه الوثيقة وغرابتها سيكون حوارنا مع المفكر الكبير مجدى جرجس. **فى البداية ما حكاية هذه الوثيقة؟ في صيف عام 2005م، في أثناء بحثي في سجلات محكمة الباب العالي بدار الوثائق القومية بالقاهرة، وقعت بين يدي وثيقة فريدة وغريبة، أو هكذا بدت لى آنذاك! استوقفتنى، وأخذت أتأملها وأعيد قراءتها مرات عديدة؛ إذ فوجئت وأخذت أفكر في كيفية تناول هذه الوثيقة وفهم ظروف إنشائها، وانصرف ذهنى إلى دراسة سيرة هذا البطريرك، علنى أجد تفسيرًا لإقدامه على هذا الوقف، ظنًا منى أنه عمل فريد غير متكرر، وبالرغم من أن المدوَّن في سيرته الرسمية لا يسمن ولا يغنى من جوع، إلا أنني تمكنت، من مصادر أخرى، من جمع معلومات وتفاصيل عديدة عن هذا البطريرك وحياته. ، ثم كانت المفاجأة الثانية، وهى عثوري على أربع وثائق أخرى تتعلق بهذا الموضوع نفسه، أي وثائق لقبط يذكرون ضمن مصارف وقفهم الإنفاق على مقدسات إسلامية: الحرمين الشريفين، والحرم الإبراهيمى بالقدس! وعثورى على هذه الوثائق وضعنى في مأزق عملي وعلمي؛ إذ أنى أنفقت وقتًا وجهدًا كبيرين لفهم ظروف هذا البطريرك الذى أنشأ هذا الوقف، ولكنني وجدت قبطا آخرين، قبله وبعده، فعلوا الشيء نفسه! ومن ثم سيكون في غير محله أن أتحدث عن أحد الواقفين وأهمل الآخرين! وكان من الصعوبة بمكان أن أجد تفاصيل عن هؤلاء الواقفين الأخرين، حيث إنهم أناس عاديون، لم يسلكوا المناصب الدينية. ولكنني في النهاية وجدت أن التحليل التاريخي لشخصية الواقف- حتى وإن لم يثبت أن ظروفا بعينها كان لها الأثر في إنشاء هذه الوثيقة- سيكون له أهمية ما، فآثرت أن اتبع نهجى الأول الذى فكرت فيه عندما عثرت على هذه الوثيقة، وهى تقديم السياق التاريخي الذي أقْدَم فيه هذا البطريرك على إنشاء وقفه، ثم طرح أسئلة أعم حول هذه الظاهرة ككل. ما أهمية هذة الوثيقة من وجهة نظرك؟ الحقيقة أن هذا النوع الفريد من الوثائق يركز على جانب مهم من تاريخ المجتمع المصري في العصر العثمانى. وبالرغم من طرافة الموضوع وأهميته، من الناحية التاريخية، إلا أنه يساعدنا، في الوقت نفسه، على تحليل نصوص الوثائق، وفهم الآليات والأساليب المتبعة في إنشاء هذا النوع من الوثائق، ومن ثم الخروج بملاحظات عامة حول كيفية صياغة الوثائق، وبالتالى يمكن للمشتغل بالوثائق أن يقدمها كشواهد تاريخية، يسهل استخدامها بفعالية وأمان في عملية الكتابة التاريخية. وفى هذه الورقة سأركز فقط على جانب واحد، سأحاول ألا أحيد عنه، وهو محاولة فهم دوافع الواقف لإنشاء مثل هذا النوع من الوقف، ويأتى هذا في سياق دور علم الوثائق في تتبع مراحل إنشاء الوثيقة منذ أن كانت فكرة في ذهن منشئها حتى صياغتها النهائية. أي أن محور هذه الورقة يدور حول فهم وتفسير إحدى مراحل إنشاء الوثيقة، وهى دوافع إنشائها. وهذا النوع من الدراسة، يتطلب بعض الخبرة التاريخية، لفهم السياقات المختلفة لظروف إنشاء الوثائق، ومن ثم سيلاحظ القارئ، عدم التعرض لنص الوثيقة نفسها، إلا قليلاً! النص الرئيس المنشور في هذه الورقة هو وثيقة وقف لأحد البطاركة القبط، البابا مرقس الخامس (1603-1619م)؛ حيث أوقف مكانًا بخط المقسم بالقاهرة، وحدد مراتب المستفيدين من وقفه على هذا النحو: على فقراء النصارى اليعاقبة القاطنين والمارين والمترددين على دير أبي مقار بوادى النطرون، فإن تعذر الصرف عليه، صُرف ريع الوقف على الثلاثة أديرة الأخرى بوادى النطرون، فإن تعذر صُرف على كنيسة القيامة بالقدس الشريف، فإن تعذر فعلى فقراء النصارى اليعاقبة أينما كانوا، فإن تعذر فعلى فقراء المسلمين بالحرمين الشريفين. بالطبع قد يتبادر إلى الذهن تفسيرات سريعة حول الدوافع أو الأسباب التي قد تدفع رجل دين، بل هو رئيس لطائفة دينية، في العصر العثمانى، أن يُضمِّن وقفه مؤسسات إسلامية! كأن تكون، على سبيل المثال، دوافع أو تكتيكات سياسية. فاذا عرفنا أن هذا البطريرك تولى منصبه في ظل ظروف عاصفة، حيث إن سَلَفَه البابا غبريال الثامن (1587- 1603م) واجه ثورة عارمة من قبل أقباط الوجه البحرى، عندما حاول تطبيق التقويم الغريغورى في مصر، ولم تكن هذه القضية سوى تعبير عن صراع بدأ يحتدم بين أعيان القبط ورئاستهم الدينية، وبالفعل نجح أعيان الوجه البحرى في إثناء البطريرك عن مخططه، واستصدروا حجة من القاضى الشرعى تلزم البطريرك بالانصياع لرغبة أقباط الوجه البحرى، والاستمرار في تطبيق التقويم القبطى القديم في ظل هذه الظروف،(التى لا يتسع المقام لذكر تفاصيلها ) والصراع الدائر بين البطريرك ومناوئيه، أنشأ هذا البطريرك وقفه في العشرين من شهر ذى الحجة عام 1023ه (20 يناير 1615م). ومن ثَم، قد يكون أحد التفسيرات هو محاولة تقربه إلى ولاة الأمر، عن طريق إظهار اهتمامه بالمقدسات الإسلامية، حتى ينال تأييدا ما في صراعه المرير مع أعيان القبط! ولكن هل يستقيم هذا التفسير مع وجود حالات أخرى لقبط، قبل هذا التاريخ وبعده، يذكرون ضمن المؤسسات المستفيدة من الوقف، مؤسسات إسلامية.؟ بالطبع لا و سأذكر تلك الحالات التي وجدتها، ولا يعني ذلك أنها الحالات الوحيدة، بل الحالات التي تمكنت من العثور عليها: - المثال الأول: في عام 912ه/ 1507م، لدى القاضى الحنفي، أوقفت مارين ابنة جرجس بن [...] بن يوحنا النصراني الكاتب بحانوت الخازن على نفسها ثم "على فقراء النصارى الرهبان ومساكينهم المقيمين بالاديرة الأربع، وهم: دير أبي مقار، ودير أبي بيشاى، ودير السيدة المعروف بالسريان، ودير السيدة المعروف بتروجة، ثم على فقراء النصارى والمسلمين المقيمين بالقدس، ثم على فقراء المسلمين المقيمين بالخليل إبراهيم بالقدس". - المثال الثانى: في عام 965ه/ 1558م، لدى القاضى الحنفي، أوقف كلا من يعقوب بن يوحنا بن اسحاق النصراني اليعقوبي السندواني، ولبوة المراة بنت سبع بن يوسف النصرانية اليعقوبية، مكان بسويقة الحمام بالقاهرة، بحجة من محكمة الباب العالي، تاريخها حادي عشر جمادى الآخرة عام 965ه، ثم ذكرا مصارف الوقف: "انشا الواقفان المذكوران وقفهما هذا على فقرا النصارى اليعاقبة القاطنين بدير أبي مقار والواردين عليه والمترددين اليه فإن تعذر فعلى فقراء النصارى اليعاقبة القاطنين بالدير الابيض والواردين عليه والمترددين اليه فان تعذر فعلى فقرا النصارى اليعاقبة القاطنين بدير السريانى والواردين عليه والمترددين اليه فإن تعذر فعلى فقراء النصارى اليعاقبة القاطنين بدير تروجة والواردين عليه والمترددين اليه فان تعذر فعلى مصالح حرم القدس الشريف فان تعذر فعلى مصالح الحرمين الشريفين وفقرايهما فإن تعذر فعلى فقراء أحدهما فإن تعذرا والعياذ بالله تعالى كان ذلك وقفا على فقراء النصارى اليعاقبة اينما كانوا وحيثما وجدوا"[i]. وهنا يرتب الواقف المستفيدين من الوقف، بعد الأديرة مباشرة، يذكر حرم القدس الشريف، ثم الحرمين الشريفين. إذًا، لم يكن وقف البطريرك عملاً استثنائيًا، تم في ظروف استثنائية، بل هو عمل متكرر من قبط آخرين. ومن ثم لا يمكن القول: إن هذه الأوقاف تمت لإرضاء أحد، أو لتحقيق مكاسب معينة، أو حتى تحت ضغوط؛ فلدينا المئات من الوثائق، تشير إلى أن القبط أنشأوا أوقافهم بكامل الحرية، وقصروا الجهات المستفيدة من الوقف على مؤسسات مسيحية. وما هو التفسير المقبول من وجهة نظركم؟ يبقى التفسير المقبول، هو أن هؤلاء القبط المسيحيين أرادوا فعلاً، وبكامل إرادتهم أن يضمنوا الجهات المستفيدة من الوقف، هذه المقدسات الإسلامية: الحرمين الشريفين بمكة والمدينة، والحرم الإبراهيمى بالقدس. واعتقد أن هذا الأمر جد طبيعي في العصر العثمانى، بالرغم من صعوبة تقبله، ظاهريًا! والمشكلة، في رأيى، لها سببان: الأول: هو المصادر، فالحوليات ترصد لنا التاريخ الرسمى للعصر العثمانى، أو بمعنى آخر علاقة السلطة بالمجتمع، وليس العلاقات بين الجماعات المختلفة والأفراد في هذا المجتمع. وبالتالى يكون تاريخ القبط، كأهل ذمة، يُنظر إليه من هذه الزاوية: تطور علاقتهم بالسلطة، والأطوار المختلفة لهذه العلاقة، ما بين فترات شد وجذب، أو قيود وتساهل ... إلى آخر هذه الثنائيات والمسميات. ولا تقدم لنا الحوليات الرسمية الجانب الآخر من الصورة، وهى العلاقات بين القبط وبين جيرانهم وشركائهم من المسلمين، بعيدًا عن الأطر النظرية التي تظهرها مصادر السلطة وممارساتها. هنا يمكن قراءة مثل هذا النوع من الوثائق من خلال هذا المنظور، كيف يصيغ المجتمع علاقاته بعيدًا عن السلطة وممارساتها، بالرغم من أن هذه النصوص عينها، هي نصوص لمؤسسة سلطة أيضًا. السبب الثاني: هو محاولة فهم التاريخ من منظور الحاضر؛ فحالة التوتر الطائفى والدعوات الانعزالية عن الآخر، لدى كلا الجانبين، وإسقاطها على الماضى، تجعل من الصعوبة بمكان تصور حدوث هذا الود المتبادل في عصور سابقة. أستطيع أن أزعم أن الدين لم يكن العامل الأساسي في صياغة العلاقات الاجتماعية في المجتمع المصرى في العصر العثمانى، بالرغم من أن خطاب السلطة حاضر فيه، وبقوة، عنصر الدين، كمعيار أساسي ورئيس في تحديد الهوية والمكانة الاجتماعية، والحراك الاجتماعى. أقول ذلك استنادًا إلى معطيات عديدة، لا يتسع المجال لذكرها الآن[ii]. وهل كانت هناك حساسيات تجاه الأماكن المقدسة؟ طبقا لما تقدم اسنطيع أن أؤكد أنه لم تكن هناك حساسيات تجاه الأماكن والمقدسات الدينية، فالمشاركة في المناسبات الدينية كانت شائعة، ووجود المسلمين في الاحتفالات الدينية القبطية، أو وجود القبط في المناسبات والاحتفالات الدينية الإسلامية، كان عاديًا وطبيعيًا. والإشارات التاريخية متعددة في هذا المجال. بالطبع ليست لدينا شهادات لأفراد أو جماعات خارج إطار المؤسسات الرسمية، لنعرف حقيقة هذه الانطباعات، والخلاصة، أن السياق التاريخي لإنشاء هذا الوقف، يبين لنا أن الدافع إلى إنشاء هذا الوقف، هو الرغبة الحقيقية في إبراز التقدير لمثل هذه الأماكن المقدسة، ومن ثم يمكن استخدام مثل هذه الوثائق، وباطمئنان، لكتابة فصل من فصول التاريخ الاجتماعى للمجتمع المصرى في العصر العثمانى. وما هى مشروعية وقف غير المسلم على مؤسسات اسلامية؟ مشروعية وقف غير المسلم على مؤسسات إسلامية، من حيث اعتبار القربة في الوقف. وفقًا للمذهب الحنفي، يجب أن تكون القربة موافقة للشرع الإسلامي، بمعنى مقاييس القربة هي المقاييس التي يحددها الشرع الإسلامي، واشترطوا أيضًا أن تكون قربة في نظر الواقف، وعلى ذلك يصح وقف المسلم والذمي على الفقراء وعلى إضافة الغرباء وتسبيل الماء في سبيل الله، وكل ما هو بر لا تختلف فيه الديانات[iii]. وهنا الوقف على الحرمين هو قربة من وجهة نظر الشرع الإسلامي، ولكنه ليس بقربة من وجهة غير المسلم (الواقف). لا يشترط الإمام مالك في جهة الوقف أن يكون الصرف عليها قربة، ولكن يشترط ألا يكون معصية، والاعتبار في كونها معصية أم لا، يرجع إلى اعتقاد الواقف[iv]. والإمام الشافعي لا يشترط القربة في الوقف، بل يشترط ألا يكون معصية؛ ويرجع اعتبار كونه معصية أم لا، إلى اعتبار الإسلام، ولذلك فإن الإمام الشافعي يجيز وقف الذمي على المسجد، لأنه قربة في نظر الإسلام، ولو لم يكن قربة في نظر الواقف[v]. ويشترط الإمام أحمد بن حنبل أن يكون الوقف على بر أو على أمر معروف غير مستنكر من الشرع، والاعتبار في ذلك يرجع إلى نظر الإسلام[vi]. وعلى ذلك نجد أن كلا من المذهبين الحنفي والمالكي يشترطان أن تكون القربة في الوقف موافقة لاعتقاد الواقف، ومن ثم، فوقف الذمي على المساجد لا يجوز في معظم الأقوال. بينما يركز الشافعية والحنابلة على موافقة القربة للشرع الإسلامي، وبالتالي يجوز وقف الذمي على المساجد ونحوها. بينما نجد أن أربعة حالات من الأوقاف المذكورة تمت وفقًا للمذهب الحنفي، وحالة وحيدة تمت وفقًا للمذهب الشافعي. وهنا يمكن طرح سؤال حول منتج المحكمة الشرعية بشكل عام، هل هو منتج يعبر بدقة عن الأطر النظرية للشرع الإسلامي؟ أم أنه يعبر عن آليات المجتمع في تصريف شئونه، وكيفية تعامله مع مؤسسة العدالة، ومن ثم كيفية إضفاء الشرعية على ممارساته الحياتية؟ يمكن التفكير في هذه الأسئلة من خلال دراسة نماذج مختلفة من وثائق المحاكم الشرعية، ودراسة كيفية ملاءمتها لأساسيات الشرع الإسلامي. أو بمعنى أدق كيفية فرض الدولة العثمانية لسياساتها، بغض النظر عن موافقتها مع الشرع الإسلامي أم لا، واستخدام المحكمة الشرعية كغطاء شرعى لهذه الممارسات. قد يبدو أن طرح السؤال بهذه الكيفية، حول موضوع وثائق وقف القبط على مؤسسات إسلامية، يتضمن بعض المبالغة، أو تحميل الموضوع أكثر من قدره، ولكنى أفكر في هذا النوع من الوثائق، بالطريقة نفسها التي أفكر بها في أنواع أخرى من الوثائق. أذكر منها عقود الفائدة؛ أي القروض بفوائد محددة سلفًا، والكيفية التي صيغت بها نصوص الوثائق لكى تلتف حول هذه الحقيقة، بالرغم من المعارضة الصريحة، بنص القرآن، لهذا النوع من العقود[vii]. أو أنواع الوثائق التي تتعلق بإجبار الفلاحين على العمل في أراضى الملتزمين، وإرجاعهم بالقوة إلى تلك الأراضى إذا هربوا منها، وهذا الأمر منافٍ لأبسط قواعد الإسلام، وهى حرية السعي للرزق. والأمر الآخر هو مبادرة السلطة العثمانية بإجبار الناس على تسجيل عقود زواجهم في المحاكم الشرعية ودفع رسوم عن هذه العقود، وابتدعوا بدعة جديدة، وصفها المعاصرون بأنها "يسق الكفر" أي نظام الكفر[viii]. وهل هناك جوانب أخرى فى قضية وقف غير المسلم؟ الجانب الاخر هوتبني الدولة العثمانية لعدم إجازة وقف الذمي على الكنائس، أو شعائر العبادة، ودعمته الإدارة العثمانية بإجراءات واقعية تسير في الاتجاه نفسه؛ ففي فتوى لشيخ الإسلام أبي السعود مفتي السلطنة المتوفى 982ه/ 1574م، صدر على أثرها فرمان ينص على أن وقف الذمي على الكنائس والأديرة غير جائز، ويحب أن يُصادر الموقوف، ولكن يجوز وقف الذمي على الرهبان أو الفقراء أو الأسبلة([ix]). ورغم كل هذه التقنينات والفتاوى إلا أن المجتمع كانت له أساليبه في التكيف، شكلاً، مع هذه الأطر النظرية، والحفاظ على شكل علاقاته ومصالحه على أرض الواقع؛ فمن ناحية يتضح نظريا تقييد الوقف على الكنائس والأديرة وفقًا لكل المذاهب وعلى أرجح الأقوال، ولكن واقعيًا هناك المئات من وثائق الوقف على الكنائس والأديرة، والتي تمت من خلال المؤسسات الشرعية (المحكمة)، وبمباركة وتأييد رجال الدين (القضاة والمفتين)، واستخدم الكتاب، بمساعدة القضاة والمفتين، صيغًا وأساليب معينة تحافظ على الشكل الشرعى، وتسمح لغير المسلمين بالوقف على مؤسساتهم الدينية[x]. انظر أيضًا إلى الفقرة الأخيرة من هذه الوثيقة (موضع النشر)، والخاصة بقصة مختلقة حول نزاع بين الواقف ومتول وهمى للوقف، بعد أن راجع الواقف نفسه، ورغب في الرجوع عن الوقف، ومن ثم حكم القاضى بصحة موقف المتولي، وأجاز الوقف، ثم عزل الواقف المتولي. وهذه القصة بكاملها لم تحدث، ولكن لتمرير الوقف، اخترعت هذه القصة، ليكون الأساس هو حكم القاضى في النزاع حول الوقف، ومن ثم الإٌقرار ضمنا بصحة الوقف وإجازته. وما زالت الأسئلة بحاجة إلى مزيد من المناقشة والتصويب، سواء في الجوانب المتعلقة بعلم الوثائق وأدواته ومناهجه، أو فيما يتعلق بتوظيف الوثائق للكتابة التاريخية.