الصور المستفزة التى تبثها وسائل الإعلام المختلفة عقب كل مصيبة طائفية، تأتى دائما بنتائج عكسية؛ فكبار رجال الدين لهم حساباتهم وتوازناتهم، ومن ثم ظهورهم معا، متعانقين متصافحين باسمين، يُفهم على أنهم جزء من دعاية النظام التى لا يصدقها أحد. فموائد الوحدة الوطنية، وتجمعاتها وهيلماناتها هى إعلانات مدفوعة الأجر، ولا تعبر فى كثير من الأحيان عن سياق طبيعى يتعايش فيه المصريون. وعلى الرغم من أن التاريخ يُستخدم فى كثير من الأحيان، أيضا، لتأجيج أو تخفيف النعرات الطائفية. فإننى سأستعير من التاريخ فصلا مهما، من سجلات المحاكم الشرعية، يقدم صورة مغايرة لما يحدث بواقعنا المعيش. والحق أن الموضوع مستفز! إذ إنه يقدم صورة لأحد البطاركة القبط وهو يوقف على الحرمين الشريفين (فى مكة والمدينة). وبإسقاط ممارسات الحاضر على الماضى، قد يُفهم هذا التصرف فى سياق حسابات وتوازنات سياسية أو اجتماعية! هذا لا ينفى أن تاريخ مصر الحديث، ملىء بنماذج لقبط أنفقوا على مساجد أو أنشأوها، وكذلك تبرعات مسلمين لمؤسسات وكنائس مسيحية. ففى عام 1615م أوقف البطريرك القبطى مرقس الخامس (16031619م) مكانا بالقاهرة، على دير أبى مقار بوادى النطرون، ثم على الأديرة الثلاثة الأخرى بوادى النطرون، ثم على كنيسة القيامة بالقدس، ثم على فقراء المسلمين بالحرمين الشريفين. بالطبع قد يتبادر إلى الذهن تفسيرات سريعة حول الدوافع أو الأسباب التى قد تدفع رجل دين مسيحى، فى العصر العثمانى، أن يُضمِن وقفه مؤسسات إسلامية! كأن تكون، على سبيل المثال، دوافع أو تكتيكات سياسية. والحق أن سيرة حياة هذا البطريرك قد تسهم فى هذا الظن، فقد تولى هذا البطريرك منصبه فى ظل ظروف عاصفة، حيث إن سلفه البابا غبريال الثامن (1587 1603م) واجه ثورة عارمة من قبل أقباط الوجه البحرى، عندما حاول تطبيق التقويم الغريغورى فى مصر، ولم تكن هذه القضية سوى تعبير عن صراع بدأ يحتدم بين أعيان القبط ورئاستهم الدينية. وتشير المصادر إلى استمرار تمرد أعيان القبط فى الوجه البحرى ضد البطريرك الجديد البابا مرقس الخامس (16031619م)، ولكن تظهر آثار هذا الصراع فى القاهرة أيضا. والروايات متباينة فى أسباب هذه الأزمة، وتسجل إحدى المخطوطات القبطية الخبر باختصار، «نالت هذا الأب شدائد كثيرة من أهالى الوجه البحرى بسبب الأصوام والزيجة، وحبسه متولى مصر فى برج الإسكندرية»، ثم يصدر كاتب المخطوطة حكما عاما عن البابا مرقس الخامس بأنه «كان محبا للمال والخمر»، ويجب ملاحظة أن هذا الاتهام جاء من طرف أحد رجال الدين، حيث إن كاتب سيرة البطريرك هو كاهن أو راهب، مما يعنى أيضا أن من بين الإكليروس (رجال الدين) من كان فى صف البطريرك ومنهم من كان ضده. وبلغ الصراع ذروته عندما تمكن أعيان الوجه البحرى من إقناع والى مصر محمد باشا قول قران (16071611م)، بعزل هذا البطريرك وسجنه، بعد جدل وشكاوى عديدة. وتم تنصيب بطريرك آخر يسمى يوأنس، واسمه العلمانى: جرجس بن بطرس، وفور تعيينه، أخذ هذا البطريرك الجديد يستبعد معاونى البطريرك المعزول (البابا مرقس الخامس) ويعين بدلا منهم معاونين جددا. عاد البطريرك المعزول، مرقس الخامس، مرة أخرى إلى منصبه فى عام 1611م، فأخذ يصحح الأوضاع، ودار صراع مرير بين الموالين للبطريرك الدخيل وبين أعوان البطريرك الأصلى. فى ظل هذه الظروف، أنشأ هذا البطريرك وقفه. ومن ثَم، قد يكون أحد التفسيرات هو محاولة تقربه إلى ولاة الأمر، عن طريق إظهار اهتمامه بالمقدسات الإسلامية، حتى ينال تأييدا ما فى صراعه المرير مع أعيان القبط!. ولكن لا يستقيم هذا التفسير مع وجود حالات أخرى لقبط، قبل هذا التاريخ وبعده، يذكرون ضمن المؤسسات المستفيدة من الوقف، مؤسسات إسلامية. سأذكر تلك الحالات التى وجدتها، ولا يعنى ذلك أنها الحالات الوحيدة. ففى عام 1507م أوقفت سيدة قبطية تُدعى مارين ابنة جرجس، مكانا على أديرة وادى النطرون، ثم على فقراء النصارى والمسلمين المقيمين بالقدس ثم على فقراء المسلمين المقيمين بالخليل إبراهيم بالقدس». وفى عام 1558م، أوقف رجل قبطى اسمه يعقوب بن يوحنا السندوانى، وزوجته لبوة بنت سبع مكانا بالقاهرة، على أديرة وادى النطرون ثم من بعدهم «على مصالح حرم القدس الشريف، فإن تعذر فعلى مصالح الحرمين الشريفين». فى عام 1625م، أوقف حسب الله بن عطية الصايغ، مكان بالقاهرة، على أديرة وادى النطرون، ثم على فقراء الحرمين الشريفين». فى عام 1626م أوقفت هيلانة بنت ميخاييل مكان بالقاهرة «على دير أنبا أنطونيوس، ثم على الحرمين الشريفين بمكة والمدينة». إذن، لم يكن وقف البطريرك عملا استثنائيا، تم فى ظروف استثنائية، بل هو عمل متكرر من قبط آخرين. ومن ثم، لا يمكن القول إن هذه الأوقاف تمت لإرضاء أحد، أو لتحقيق مكاسب معينة، أو حتى تحت ضغوط؛ فلدينا المئات من الوثائق، تشير إلى أن القبط أنشأوا أوقافهم بكامل الحرية، وقصروا الجهات المستفيدة من الوقف على مؤسسات مسيحية. وعلى ذلك، يبقى التفسير المقبول، وهو أن هؤلاء القبط المسيحيين أرادوا فعلا، وبكامل إرادتهم أن يضمّنوا الجهات المستفيدة من الوقف، هذه المقدسات الإسلامية: الحرمين الشريفين بمكة والمدينة، والحرم الإبراهيمى بالقدس. والمتابع للعصر العثمانى يلمس بسهولة النظر باحترام إلى الأماكن الدينية أيا كانت، فالمشاركة فى المناسبات الدينية كانت شائعة، ووجود المسلمين فى الاحتفالات الدينية القبطية، أو وجود القبط فى المناسبات والاحتفالات الدينية الإسلامية، كان عاديا وطبيعيا. والإشارات التاريخية متعددة فى هذا المجال. سأذكر، على سبيل المثال، مصدر رسمى قبطى، ورد فيه، عرَضا، ذكر الحج الإسلامى. إذ ورد فى إحدى المخطوطات القبطية، المراحل المختلفة لعملية إعداد زيت الميرون، عام 1703م، ومنها كيفية الحصول على دهن البيلسان، والعود القمارى. فطلب أحد الأعيان القبط، وهو الشخص الذى تولى الإنفاق على هذه العملية، من أحد أصدقائه المسلمين، إحضار هذه الأصناف من الحجاز، أثناء سفره لأداء الحج، فتذكر المخطوطة خبر الحج على هذا النحو: «وعند عودة الحاج إلى محروسة مصر فى الأيام المعلومة بسلام»، فالمرة التى يرد فيها ذكر موكب الحج فى كتاب كنسى فى هذه الفترة، يرد بهذا الشكل الحميمى. والمثير، أيضا، فى الأمر أن مستشار هذه العملية، والذى حضر جانبا منها هو الشيخ عبدالرحيم الشريف شيخ سوق الفحامين. وليس هذا الأمر عاديا أن يشترك شخص غير مسيحى فى مراحل إعداد هذا الزيت إذ إنه عمل مقدس، وركن من أركان عقيدة القبط الأرثوذكس السبعة. جانب آخر، يبين النظرة المتبادلة إلى المقدسات الدينية والمزارات، هو ما تذكره مصادر العصر من حرص كبار المباشرين القبط على الوجود فى المناسبات الاجتماعية العامة، خاصة الموالد الإسلامية الكبرى، وأن هذه الاحتفالات لا تتعلق بدين، وإنما هى طقوس مشتركة يتقاسمها المسلمون والمسيحيون بجانب من الاحترام، وإن جميعها مصرية خالصة. والمصادر الكنسية تسجل حكما عاما عن علاقة القبط بالمسلمين فى هذه الفترة، فتقول: «عاشوا كل هذه المدة مع إخوانهم المسلمين على أحسن حال مشاركين لهم فى السراء والضراء». والمعنى أن المشاعر تجاه المقدسات الدينية كانت موضع احترام وتقدير لدى كل من القبط والمسلمين، وبالتالى ليس من المستغرب أن يعبر بعض القبط عن هذا التوجه من خلال تَذكُر الحرم الإبراهيمى والحرمين الشريفين، كأماكن دينية يُصرف عليها من ريع أوقافهم. يمكن تلمس الأمر عينه عند المسلمين، فما شهدته جميع كنائس وأديرة القطر المصرى من تعمير وترميم فى العصر العثمانى، بموافقة ومباركة المشايخ والقضاة، لهى أبلغ دليل على هذا الأمر. يمكن أن أذكر أمثلة أخرى فى هذا السياق، منها كيف يوقف مسلم، بالوكالة عن أحد القبط، على أديرة قبطية؛ إذ قام الحاج رمضان بن الحاج أحمد القصاب، الوكيل الشرعى عن غبريال بن ميخاييل القطيعى بوقف على دير أبوبشاى الصندفاوى بالمحلة الكبرى، أو أن يشترى الحاج محمد بن محمد الزناتى وهو الوكيل الشرعى عن نور بنت شنودة الحاضرة معه بالمجلس مكان بخط المقسم، ثم يوقفه على دير مارى جرجس للبنات بمصر القديمة ودير مارى تادرس للبنات بحارة الروم. بالرغم من أن دور المسلم فى كلتا الحالتين كان دور وكيل شرعى، إلا أن قيامه بالوكالة فى هذا الفعل يوضح، فى جانب منه، تقديره للفعل والأماكن الموقوف عليها. هذه صورة من عصر يوصم بالتخلف والجهل وسيادة المفاهيم الدينية فى مقابلة صور من القرن العشرين عصر الدولة القومية وسيادة قيم حقوق الإنسان!. كيف يمكن حقيقة إعادة قراءة تاريخنا، وتدريسه للأجيال الواقعة بين براثن التعصب والطائفية؟.