هنا كانت إمبراطورية محمد على باشا، التى بناها على أطلال الدول السالفة، من الأيوبيين والمماليك إلى العثمانيين. هنا كان مقر حكم مصر، وما حولها من دول وبلاد، طوال عشرات السنين. ومن أبرز علامات القلعة، مسجد محمد على باشا، الذى يشرف على المنطقة، بمآذنه وقبابه. هنا التاريخ يبكى، بعد أن طالته يد الإهمال، وأكلت منه وعليه، وشربت. وصلنا إلى القلعة، ووقفنا عدة دقائق مشدوهين، نطالع عظمة المنظر الفريد داخل القلعة، بدأنا السير خطوة تلو أخرى، ثم بدأت خطواتنا تسرع أكثر فأكثر، وكلما اقتربنا زاد انبهارنا بهذا الصرح العملاق الفريد، وباتت معالمه تبدو واضحة أمامنا. ووجدنا أنفسنا فى حالة صمت أمام جامع محمد على باشا، هذه التحفة المعمارية التى بناها عام 1830، ولم يكن محمد على فى ذلك الوقت إلا والياً على مصر، ولاه الخليفة العثمانى، لكن طموحاته وأحلامه كانت تفوق التصور، حيث كان يطمح إلى حكم مصر، بشكل منفرد، فقرر بناء إمبراطورية خاصة به، وفى الوقت نفسه تتبع الحكم العثمانى، وتكون تحت ولائه، فظهر ذكاء محمد على ودهاؤه فى بناء هذا الجامع، حيث قسمه قسمين، الصحن الخارجى الذى يضم "الميضة" وقباباً صغيرة ومئذنتين يعلوهما الهلال والنجمة اللذان يرمزان إلى الدولة العثمانية، ومن الداخل رمز إمبراطوريته فى قرص الشمس، وكأنه يريد أن يخرج من عباءة الدولة العثمانية ليستقل بذاته. أمر محمد على ببناء الجامع على أعلى ربوة فى مصر ليكون فى بؤرة بصر أى شخص يدخل من أي باب من أبواب القاهرة، ولكن هذا البناء جاء ليمحو جزءاً من تاريخ عصر دولة المماليك البحرية، حيث بناه فوق «القصور السلطانية» بعد هدم الطابق العلوى بالكامل وردم المتبقى بالرمال.. ليظل جزء من تاريخ مصر مدفوناً تحت طموح محمد على. تذكرنا هذه الحقبة من التاريخ وكأننا نستعيد الماضى بعظمته لحظة رؤيتنا ما حدث له فى الحاضر. تابعنا السير ونحن نستعد لدخول القلعة لنلتقط لها بعض الصور، ونقف على آخر ما وصلت إليه أعمال الترميم بها، وأثناء التقاطنا بعض الصور للجامع من الخارج رجعنا إلى الوراء خطوات حتى تظهر الصورة كاملة، وفجأة تعثرت أقدامنا فى حفرة كبيرة بجوار حوض الزرع المقابل للجامع، فسقط كل شىء كان معنا، وحينها اقترب منا رجل فى العقد الرابع من عمره يلهث نحونا وتبدو على وجهه الشاحب علامات الخوف، وسألنا: «حصل لكم حاجة؟».. فأجبناه: لا، الحمد لله. وكان سؤالنا الفورى عن سر هذه الحفرة الغريبة؟ فرد قائلاً: هذه ليست حفرة، إنها هبوط أرضى حدث بسبب مياه رى الزرع المتكررة يومياً. هنا تردد داخلنا سؤال: هل يمكن أن تفتح مياه الرى مجرى تحت أرض القلعة؟ حاولنا أن نحصل منه على بعض المعلومات حول هذا الموضوع الغريب، لكنه أنهى حديثه معنا بأنه ليس متخصصاً فى الآثار، وإنما هو مجرد عامل وليست له علاقة بأى شىء هنا، وطلب منا ألا نتحدث مع أحد فيما قاله لنا. بدأت الحيرة والفضول يتجولان فى خاطرنا، وتملكنا اليقين بأن هناك شيئاً ما تحت الأرض، لم نعلم عنه، حتى الآن، وليس بشىء هين. فضولنا الصحفى دفعنا للبحث عما وراء رد فعل هذا الرجل.. أنهينا جولتنا بالقلعة.. لكننا قررنا أن ندخلها فى اليوم التالى. وفى اليوم التالى ذهبنا إلى موقع أثرى ليس ببعيد عن القلعة، والتقينا أحد مفتشى الآثار لعلنا نجد لديه إجابة عن التساؤلات التى تحولت لشك داخلنا فى وجود شىء مريب، سألناه حول المكان والقلعة فى محاولة للوصول لأى معلومة تكون بداية الخيط لمغامرتنا الجديدة، وجاءت كلماته مفاجأة لنا إذ أكد أن رى زرع القلعة بات يهدد بانهيارها. وحينها قررنا أن نذهب إلى «جامع محمد على» ونحاول بأقصى ما لدينا لكى نصل إلى هذا المكان، وبالفعل فى غضون دقائق وصلنا إلى جامع محمد على وبدأنا البحث عن مكان الباب المؤدى إلى القصور السلطانية التى دفنت تحت الجامع بسبب أنانية محمد على، لكننا أخذنا وقتاً طويلاً فى البحث عن ذلك الباب سبيلنا الوحيد لكنوز الأرض المخفية تحت القلعة. وبحث كل منا فى مكان مختلف، وبينما نحن نرتاح قليلاً منهكين من كثرة البحث وحر الشمس الحارقة جالسين على سور حجرى فى أعلى ربوة بالقلعة مجاور للجامع، بدأنا التقاط بعض الصور لمآذن المساجد التى تبدو وكأنها مترابطة بضعها ببعض، وفجأة وقعت أعيننا على باب أسفل سور حجرى ولم يخطر ببال أحد منا أن يكون هو باب القصور السلطانية، حيث لا تبدو عليه ملامح الفخامة والرقى، لم يكن أمامنا خيار إلا أن نعبر هذا الباب لنكتشف ما وراءه. المفاجأة قفزنا من فوق سور الحرم الأثرى بمحيط الجامع متشبثين بالسور خوفاً من أن نهوى بالعراء، وعبرنا هذا الباب الحديدى الصغير ووجدنا سلماً حجرياً قديماً تبدو عليه عوامل القدم، ولكن تصميمه غير مناسب مع القصور السلطانية. بدأنا النزول بحذر شديد فى هذا الظلام الحالك حتى وصلنا إلى نهاية السلم ثم وجدنا الشمس تسطع بنورها فى إحدى زوايا القصر، ولكننا وقفنا عاجزين عن الحراك من مكاننا، لا نملك إلا أن نتبادل نظرات الحديث الصامتة، حتى لا نصاب بأذى من الحشرات والزواحف التى تملأ المكان، ولاحظنا وجود غرفة صغيرة خاوية على يميننا، وقاعات كبيرة شديدة الظلام على يسارنا تفوح منها رائحة الرطوبة العالية وتستنشق منها نسمات المياه التى لم نعرف مصدرها وتسكن جوانبها وأسقفها جموع هائلة من «الوطاويط» التى تصدر أصواتاً وكأنها صفير حذر من عدم الاقتراب لمنطقتها. وفى منتصف الطريق وجدنا آثاراً لثعابين من الواضح أنها صغيرة الحجم ولكن آثار الخطوط بالرمال توضح الكم الهائل منها الذى يقطن هذا المكان، لم نعط أنفسنا وقتاً لنفكر فى الرجوع فتقدمنا وتخطينا كل مخاوفنا وسرنا وسط كل هذه المخاوف القاتلة، وقمنا بتصوير القصور السلطانية، أو ما يطلق عليه «القاعات السبع» التى يرجع تاريخها فى بادئ الأمر إلى السلطان الأشرف «خليل بن قلاوون»، ثم السلطان «الناصر محمد بن قلاوون»، الذى قام ببناء تلك القصور السلطانية التى ضم إليها فيما بعد عدة قاعات سلطانية مثل القاعة الأشرفية التى تم اكتشافها عن طريق كتب المؤرخين المعاصرين الموثقين مثل «المقريزى» الذى قام بتدوين تخطيط كامل للقلعة، وبناء على ذلك قام الأثريون باكتشاف بعض الحفريات، وبالفعل تشكلت لجنة للبحث وراء هذا الكشف الأثرى الذى كشف عن وجود القاعة الأشرفية التى لم يتبق منها إلا بعض الأعمدة وأطلال بعض الجدران المحطمة، فضلاً عن قاعة أخرى وهى القاعة البيثرية التى اندثرت كل معالمها ولم يتبق منها سوى بعض المعلومات التاريخية عنها فقط. أما الجزء الأخير المتبقى من القصور السلطانية فهو خلف جامع محمد على، حيث بقايا مهدمة عبارة عن أكتاف حجرية تحمل بقايا أبنية من الطوب الحجرى. وقد دون التاريخ على صفحاته أن هذه القصور السلطانية استخدمت سجناً لكبار الشخصيات العثمانية فى مصر، وأيضاً شغل هذا القصر حتى أوائل عام 1946 السجن الحربى للجيش البريطانى. لم يكن اكتشافنا للقاعات السبع فى القصور السلطانية هو الأهم بالنسبة لنا، رغم أنها لم تذكر فى التاريخ، ولم ترق لاهتمام أي من المسئولين أو الأثريين، لكن الاكتشاف الأهم بالنسبة لنا كان وقوفنا على مدى خطورة هذه القاعات على جامع محمد على نفسه، فهى تعانى الإهمال، والتصدعات طالت كل ركن فيها، خاصة مع مياه الرى التى دمرت المبانى بشكل خطير، وإذا لم تتوقف عمليات رى الزرع فى المنطقة، فستتهاوى الحوائط وتنهار القاعات، وحينها سيتعرض الجامع للهدم! الغريب أن جميع المسئولين والأثريين يعلمون جيداً خطورة الموقف، ومع ذلك لم يتحرك أحد لإيقاف هذه المهزلة وإنقاذ المنطقة قبل فوات الأوان. تركنا القصور السلطانية بعدما رصدنا بالكاميرات خطورة الموقف، وقررنا أن نكشف ما يحدث أمام الرأى العام، لعلنا نستطيع إيقاظ ضمائر المسئولين لإنقاذ جزء مهم من تاريخنا قبل أن تمحوه آلة الإهمال والفساد. وترسخت داخلنا حقيقة واحدة هى تحطم وانهيار كل آمال وأحلام «الناصر محمد بن قلاوون» أول وآخر سلاطين المماليك الذى فكر فى توسعة النطاق السلطانى من القلعة لكى يستوعب طموحاته المعمارية التى كانت تعكس ما وصلت إليه القلعة كمقر لحكم الدولة المملوكية، على صخرة طموحات وآمال محمد على باشا الذى أراد أن يبنى مجده على حساب ملك سلطان عظيم مثل السلطان «الناصر محمد بن قلاوون» الذى ما زالت آثاره وأبنيته المعمارية العظيمة التى شيدها فى مصر باقية وشامخة تحمل بين شقوقها عبقاً من التاريخ وتحوى بين صدرها العديد من الصفحات التى سطرها التاريخ بإنجازات هذا السلطان العظيم الذى ظلمه حاكم ونصره تاريخه. تركنا القلعة والقصور السلطانية وأصوات استغاثة التاريخ تدوى فى آذاننا، وهدفنا أن نستكمل رحلتنا داخل أروقة التاريخ وقبل أن نلتقط أنفاسنا حدثت مفاجأة لم نكن نتوقعها. انتظرونا التحقيق المقبل.