إذا كانت مصر تعيش مأساة السيول فى رأس غارب وغيرها، وسط تنديد بعدم استعداد الحكومة، فإن التغيرات المناخية التى نواجهها تنذر باحتمالات مواجهة أمور أكثر شدة من تلك السيول، ما يتطلب العمل على الاستعداد لمواجهة مثل هذه الكوارث والحد من خسائرها، وتأثيراتها السلبية. وفى هذا الإطار حذر الخبير الدولى فى شئون البيئة الدكتور محمد الراعى من خطورة تجاهل آثار التغيرات المناخية التى تظهر تدريجيًا وتسببت فى تقلب المناخ الذى نشهده حاليًا، مطالبًا بوضع نظام مؤسسى متكامل لذلك، كما تطرق الراعى لعلاقة الرؤساء بالعلم.. معتبرًا أن نظام مبارك تجاهل بناء نهضة علمية حقيقية، ولم يهتم إلا بتنمية أمواله الخاصة. وفى ظل أهمية هذه القضية التى فرضت نفسها بقوة على الساحة المصرية فى الفترة الأخيرة التقت «الوفد» الدكتور الراعى الذى تطرق فيه إلى العديد من القضايا المهمة، التى كشفت عنها دراسات مختلفة، منها تلك الدراسة التى تم إعدادها بجامعة الإسكندرية عن تغير المناخ وتوقع شتاء قارس البرودة، مما يتطلب الاستعداد له مبكراً. ومن الأزمة الأخيرة التى تواجهها مصر كان منطلق الحوار: ما أسباب التقلبات المناخية أو السيول التى تشهدها المحافظات المصرية مع بداية موسم الشتاء؟ - هذا الأمر فى الأساس نتيجة للتغيرات المناخية، فمن المعروف علميًا أن التغيرات المناخية تصحبها زيادة وشدة فى حالات المناخ الجامحة، أى تظهر موجات شديدة الحرارة أو شديدة البرودة، وسبق أن حذرنا فى عام 1990 ونشرت جميع الصحف أن هناك تغيرات مناخية من المتوقع أن تتزايد لدرجة 4. 5 درجة فى متوسط الكرة الأرضية بسبب الغازات الملوثة للهواء، ومن هنا نجد أنه بعد هذا الطقس البارد، قد تظهر التغيرات المناخية كزيادة مستمرة فى متوسط درجة حرارة الأرض أو نقص فى معدلات سقوط الأمطار وارتفاع فى سطح البحر، وكذلك عواصف بحرية ورملية. وقد ظهرت بعض هذه الأعراض مثلًا خلال العاصفة البحرية الشديدة التى ضربت الإسكندرية فى ديسمبر 2015، وهذه بالتالى ستؤثر سلبًا على جميع قطاعات التنمية والإنتاج فى كل الدول بنسب متفاوتة، وسيكون التأثير أشد وأسرع فى الدول الفقيرة، وفى مصر على الأخص سيكون التأثير سلبياً كنقص فى الموارد المائية والزراعية، والتدهور فى بعض المناطق الساحلية والسياحية فى الدلتا والبحر الأحمر، كما سوف يؤدى إلى انتشار بعض أنواع الحشرات التى تسبب أمراضًا قد تزيد معدلات الإصابة ببعض الأمراض كالملاريا. هل نحن مستعدون لمواجهة التغيرات المناخية؟ - يجب علينا أن نستعد، ولذلك عقدت جميع دول العالم كلها مؤتمرات لمناقشة حلول أكدت الاشتراك فى المسئولية، والدول المتقدمة تقدم معونة للدول الأقل تقدماً، ويجب أن نستعد لهذا، ومن الواضح أن تأثيرات التغيرات المناخية لا يمكن مواجهتها أو التكيف معها فى ظل سوء الإدارة والفساد وعدم الوعى البيئى السائد، ونحن ندرس الآن كيفية حماية المدن الساحلية على البحر الأبيض من العواصف الشديدة، التى قد تصل إلى مستوى التسونامى (لا قدر الله) من خلال التخطيط الاستباقى لمواجهة الكارثة والإنذار المبكر بها وتوعية المواطنين، حتى لا تتكرر أزمة فى الكهرباء نتيجة ضغط استعمال المكيفات. كما يجب تطوير خطة زراعة محاصيل تتحمل الحرارة حتى لا تتكرر أزمة «الطماطم» قبل ذلك وأزمة الأرز الآن، وندرس تأثيرات ذلك على الصحة العامة، ونحن نحاول دراسة ذلك من خلال مركز التغيرات والمناخية الحد من المخاطر بجامعة الإسكندرية، حيث نجد أن التغيرات الموسمية مثل الفيضانات سوف تقل فى المستقبل، ولكن سوف تزيد التغيرات الحادة فى معدلاتها، وسوف نواجه موجة حرة مرتين فى السنة والأمطار التى تتساقط سوف تكون أشد فى المستقبل، وهذا ما نعانى منه. وماذا عن تأثير التغيرات المناخية على ارتفاع سطح البحر.. وهل حقيقى ستغرق الدلتا وما المواقع المحتملة لذلك أيضاً؟ - أشارت نتائج مسح المنظمة العالمية للتغيرات المناخية فى عام 2007 إلى ارتفاع سطح البحر المتوقع حتى نهاية القرن الحالى ما بين 18 سم و58 سم، ولكن بعد ذلك تم نشر العديد من البحوث العالمية التى تؤكد أن الارتفاع المتوقع قد يصل إلى أكثر من متر، فإذا أخذنا فى الاعتبار أن اليابسة فى الدلتا المصرية تهبط بمعدلات ثابتة، فإننا نجد أنفسنا أمام خطر لا يمكن إهماله، وعلى ذلك فقد تم إجراء دراسات عديدة عن مدى تأثر المدن الساحلية والدلتا بوجه عام بارتفاع سطح البحر، حيث يتوقع أن ما يقرب من 10-12٪ من شمال الدلتا سوف يتأثر بارتفاع سطح البحر وتغلغل المياه المالحة وتدهور الأراضى وإذا لم تتخذ الاحتياطات اللازمة للحماية، لذلك يلزم أن نخطط لاستباق الأحداث بالعمل على توفير إنذار مبكر ولحل المشاكل التى تتسبب فى غرق الإسكندرية. أثار العديد من العلماء قضية غرق الدلتا والإسكندرية.. فما أحدث الدراسات فى هذا الأمر وتأثير ذلك على جغرافية مصر ككل؟ - لا يمكن وضع مدى زمنى لهذا حيث يلاحظ أن الظاهرة شأنها شأن العديد من الظواهر البيئية، تظل مستترة ومستمرة تدريجيًا حتى إذا ظهرت على السطح أصبحت غير قابلة للحل، ويلاحظ أن الدلتا أو مدينة الإسكندرية أو أيًا من المدن الساحلية لن تغرق، وإنما الأكثر تأثرًا بارتفاع منسوب البحر هو منطقة المنتزه وأبى قير بمحافظة الإسكندرية، لأنها واقعة 4 أمتار تحت سطح البحر، ويلزم أن نعمل فيها مسارات للسيول لحمايتها من الغرق، وسوف تتأثر المناطق المنخفضة فيها تدريجياً، مما يؤثر سلبًا على الإنتاج الزراعى والمناطق الحضرية، مما يؤدى إلى هجرة السكان تدريجيًا إلى مناطق أخرى أفضل إنتاجية وأكثر أمناً، وبالتالى فإن على المخطط أن يستبق بأن يوفر فرص عمل وتنمية فى مواقع أكثر أمنًا نسبيًا، وخاصة أن الغالبية العظمى من أراضى مصر آمنة كسيناء وغرب الإسكندرية. وما جهود الباحثين حاليًا بالنسبة لقضية التغيرات المناخية؟ - نعمل حاليًا كباحثين على إنجاز «الإبلاغ الوطنى الثالث لمصر»، وهو عبارة عن تقرير يرصد جميع آثار الانبعاثات الخاصة بالحرارة والتغيرات المناخية، حيث إن جميع قطاعات التنمية فى مصر تتأثر بتغير المناخ بلا استثناء من أول قطاع الزراعة إلى قطاع الموارد المائية وكذلك السياحة والإنتاج الحيوانى والصحة العامة أيضاً، وعندما ننتهى من التقرير سنرسله للوزارات المعنية وبعد مناقشته علميًا بالوثائق، يتم إرساله إلى الأممالمتحدة. وكيف ترى الوضع حالياً؟ - كشفت الدراسات الأخيرة أن مناطق الدلتا هى منطقة حساسة ولا بد من حمايتها، فالحماية الاستباقية مهمة جداً، ويجب أن نعلم أن ما نقوم به سيكون مفيدًا فى مصر، سواء كانت هناك تغيرات مناخية أو لا: فعلى سبيل المثال فالخروج إلى الصحراء ضرورة حتمية لا بد منها، فمعدل السكان لدينا فى زيادة والأرض تتدهور إنتاجياتها، وهناك أمور يجب معالجتها فوراً، فقد رصدت الأقمار الصناعية منطقة فى مجرى نهر النيل وصل حجم الردم بها إلى 60٪ من فرع رشيد، وذلك لصالح أحد الأفراد وتم بيع جزء من النيل المردوم لمواطنين آخرين وبناء مناطق عشوائية عليها! والكارثة الأكبر أن نسبة 40٪ الباقية من النهر عليها مزارع سمكية وأقفاص ممنوعة وعلى «مدد الشوف»، والبيئة لم تفعل شيئاً، وعندما قلت هذا مرة لوزير البيئة السابق صرخ الوزير «فين وفين»، ويمكن حاول ومقدرش عليهم، والحقيقة أن تدخل الإنسان هو الأخطر من تغيرات الطبيعة. شاركت فى عدة لجان علمية للمشروعات التى أثارت جدلًا ومنها الضبعة وأجريوم.. فما سر تلك الأزمات؟ - سر الأزمة غالبًا واحد، فلدينا 3 أطراف مخطئة، وهم المستثمر والمواطن والدولة، فالدولة مخطئة فى المركزية الرهيبة، وأنها لا تطبق القوانين التى أصدرتها ولا تحترمها وتمنح امتيازات لشخصيات معينة، مما أدى إلى انعدام الثقة بين المواطن وبينها، والمستثمر مخطئ لأنه لم يقم بواجبه، ولم يلتزم بنظام رقابة صارم على الأجهزة الخاصة، لأنه وجد إهمالًا من الحكومة فى المتابعة، والمواطن مخطئ لأنه لم يتابع ويبحث عن الحقيقة، ففى لجنة أجريوم، مثلًا: «وجدنا أن المصنع على بعد 5 كيلو من مدينة دمياط»، وبذلك فالتأثيرات ضعيفة، خاصة أن دمياط أصلًا هى مدينة تملؤها الدهانات، و«السبرتو والدوكو» بسبب صناعة الأثاث ونشارة الخشب وهى أصلًا مواد ملوثة قوية، وعندما تم نقل المشروع 200 متر فقط هدأوا، فشعرت بأن الأمر لم يكن هدفه التلوث، ولكن الأرض فقط، وتبين أن سر أزمة مناطق الضبعة وأجريوم هو أن الأهالى ليست على مستوى الوعى الكافى، ولذلك تسود فى الكثير من المؤتمرات والتأكيدات على ضرورة توعية الأهالى بالمشاكل والحلول المستقبلية، لأنهم شركاء. وما رأيك فى مشروعات الطاقة النووية بشكل عام لمصر والتى تأخرت لعقود؟ - الطاقة النووية لا بد منها لمصر، ولكن هل ينفع نعمل معمل تعقيم فى «إسطبل خيل»، فيجب أولًا تنمية العلوم كلها، وإقامة نهضة شاملة من خلال نظم مؤسسية، فالمشكلة من وجهة نظرى هى: كيف نصل فى مستوى الطاقة النووية إلى آخر مستوى وباقى العلوم متوقفة، والغريب أن وزارة الكهرباء تعتبر أن هذا المشروع تحت يدها، ويجب أن يكون هناك نظام منفصل للطاقة النووية متكاملة ومصر تحتاج إلى مصادر كبيرة للطاقة، فعلى مدار 10 سنوات سوف نواجه مشكلة خاصة، ومع العمل على استغلال الطاقة الشمسية فسوف تظل مكلفة وغالية جداً، ولذلك نريد طاقة عالية جدًا ورخيصة ولا يوجد أمامنا سوى الطاقة النووية. ماذا تطلب من النظام الجديد سواء كان رئيس الجمهورية أو مجلس الوزراء والبرلمان لإنقاذ مصر من دمار التغيرات المناخية؟ - أطالب الرئيس عبدالفتاح السيسى والبرلمان بإنقاذ مصر من التغيرات المناخية بوضعها فى الاعتبار، لأنها تؤثر فى جميع قطاعات التنمية ككل فى الدولة، من الواضح أنه ما زال أمامنا الكثير لتنمية البحث العلمى فى مصر وأن المبادرات الموجودة حاليًا هى مبادرات فردية لا ترقى فى رأيى إلى تطوير بنية مؤسسية للبحث العلمى فى مصر وأن الدولة كالعادة قامت بتبنى بعضها مما يزيد من النمو الأفقى ويؤخر تمامًا النمو الرأسى وجودة المنتج، وأرى أن احتياجات التنمية فى الدولة تحتاج إلى إنشاء مراكز للتميز العلمى تضم العلماء والمجتمع المدنى ومتخذى القرارات فى منظومة إدارية لا مركزية متكاملة تهدف إلى حل مشكلات التنمية والإنتاج. ماذا عن ظاهرة الاحتباس الحرارى وأثرها على التغيرات المناخية؟ - الاحتباس الحرارى يؤثر على التغيرات المناخية بشكل خطير بسبب انبعاث الغازات من مختلف مصادرها، وهو إنتاج 50 سنة، وأحذر من أن ظاهرة قطع الأشجار تشكل خطورة على رئة العالم، لأن حرق الخشب والصناعات ينتج عنها ثانى أكسيد الكربون، الذى يمثل خطورة على صحة المواطنين. برواز الدكتور محمد الراعى فى سطور: عمل فى علوم الفضاء والاستشعار عن بعد واستخدم الأقمار الصناعية فى تطبيقات البيئة أنشأ أول قسم لتطبيقات البيئة فى جامعة الإسكندرية، ثم شغل منصب عميد معهد البحوث بالإسكندرية، وأصبح عضوًا بلجنة تغيرات المناخ المصرية، ومجلس بحوث الفضاء المصرى رئيس قطاع العلوم البيئية بالمجلس الأعلى للجامعات.