يطغى الهمّ الطائفي على العرب، حكاماً وشعوباً، بالتزامن مع استمرار الربيع العربي بحثاً عن الحرية والعدالة . يحق للعرب شأنهم شأن الشعوب الأخرى كافة- إطلاق ثوراتهم بحثاً عن حرية الوطن وحرية المواطن بعيداً من القمع، ويحق لهم طلب العدالة التي فرضها الله تعالى في كتابه الكريم، ودعا إلى النضال من أجلها، كيف لا وهي رجاء المستضعفين في بقاع الأرض؟ بيد أن المستغرب في هذه المرحلة بروز انفعالات طائفية، ومطالبات طائفية تحت شعار إنصاف هذه الطائفة أو تلك في مواجهة نظيراتها من الفئات المُكونة للمجتمع! ثمة جهل أو تجاهل لحقيقة الشعب المُكوّن من مجموعة مواطنين متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات . قد يقال: تجربتنا في الحياة الدستورية فتيّة، وعهدنا بالمواطنة لايزال ضعيفاً أو غائباً تحت ضغط الفئويات، والعصبوية المنتشرة، غير أن الثورات العربية معنيّة بتعميق هذه التجربة، لا بإجهاضها . فالثورة لا تكون ثورة إذا فقدت شعبيتها على المستوى الوطني، فكيف إذا انحدرت نحو الاقتتال؟ ما يساعد على استعادة الاستقرار العربي وجود أنشطة سياسية واجتماعية، على المستويين الرسمي والشعبي، في إطار الإصلاح والدعوة إلى نبذ الطائفية والشروع في بناء الدولة المدنية . حصل ذلك ويحصل في مصر وبلاد الشام والرافدين ومنطقة الخليج وشمالي إفريقيا، وثمة دعوات إلى الأخذ بثقافة الحوار في إطار المجتمع المدني والدولة المدنية . هنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة التمييز بين فكرة الدولة المدنية وفكرة العلمانية الأوروبية . فالدولة المدنية هي دولة مواطنين تتيح للمجتمع تشكيل أحزابه وجمعياته ونقاباته ومؤسساته الإعلامية وغير الإعلامية خارج الأطر الرسمية الحكومية . إنها دولة المساواة أمام القانون الذي يحترم المعتقد الديني، كما يحترم التعددية السياسية، وعليه فإن للمعارضة السياسية وجوداً معترفاً به شريطة الحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع . قد يحتاج الأمر إلى بذل جهود كبيرة لنشر هذه الثقافة في المدارس والإعلام، وعبرهما إلى المجتمع الوطني، لكن لا بد من خوض غمار هذه التجربة الثقافية على غير مستوى، ومن مصادر مختلفة . تأسيساً على ذلك، من غير المقبول وطنياً أن ينقسم المصريون مثلاً بين مسلمين وأقباط، وأن ينقسم الخليجيون بين سنّة وشيعة، أو بين عشائر وقبائل متصارعة، وأن تعمّ الفتنة بلاد المشرق وسط اضطرابات المِلَل والنِحَل . لو عدنا بالذاكرة إلى ما نشر قبل ثلاثة عقود عن استراتيجية “إسرائيل” في الثمانينات، عن تقسيم بلاد العرب إلى كيانات طائفية، لأدركنا أن ما كان بمنزلة الخيال في ذاك الزمان بات شبحاً مخيفاً في هذه المرحلة . فهل من المقبول أن نبرّر، في شكل أو في آخر، وجود (الدولة اليهودية) التي جلبت اعترافات غربية بها، تحت عناوين طائفية في بلادنا؟ فكرة المواطنة ضرورة ثقافية وفكرية وسياسية واجتماعية لمنع التصدّع العربي، وفكرة العروبة الجامعة مصدر استقرار لا مصدر تخريب أو انقسام، إنها علاج للطائفية ولأية فئوية . أما الفكر الوسطي الذي ينطوي على العدل والاعتدال، فإنه عماد الدين والوطن، قد يحتاج إليه العرب في سعيهم إلى تحقيق أهداف الربيع العربي التي يجب أن تظل تقدمية وإنسانية .