«رأيتهم يجرُّونه بقسوة بالغة، اثنان أمسكا به من تحت إبطيه وجراه بعيدا عن ساحة المرجة، وثالث يركله على ظهره طوال الوقت. وحين اقتربوا من عمود كهرباء على الرصيف ضربوا رأسه بالعمود». هكذا وصف شاهد عيان معاملة أجهزة الأمن للمفكر السورى الكبير الطيب تيزينى أثناء فضّهم التجمع السلمى الذى دعا إليه أهالى المعتقلين السياسيين أمام وزارة الداخلية السورية يوم 16 مارس الماضى والذى أسفر عن اعتقال عشرات من المتجمعين كان «أخطرهم» وأصغرهم طفلا لم يتجاوز العاشرة جاء حاملا صورة والدته المعتقلة ومطالبا بعودتها إليه. وكذلك تم اعتقال الفيلسوف تيزينى صاحب «بيان فى النهضة والتنوير العربى» الذى أمضى عدة ساعات فى أقبية الأمن وخرج بالتأكيد من دون أن يعرفه من حقق معه. ولقد تحدثت جميع وسائل الإعلام غير المدجنة سوريا وعربيا عن الطابع السلمى الهادئ للتجمع وخلوّه من أية شعارات تحريضية من جهة، وعن الطابع العنيف الذى وجه به من قبل عناصر أمنية (بلطجية) بلباس مدنى. فهل انكسر حاجز الصمت؟ وهل تجاوز السوريون حاجز الخوف الذى طبع حياتهم العامة منذ خمسة عقود أو أكثر؟ لقد جاء هذا الحادث يوما بعد انطلاقة مظاهرة مفاجئة من قلب دمشق القديمة لمجموعة من الشباب كانت تطرح السؤال الذى فكر به الجميع وهو: «أين أنت أيها السورى» مما يجرى فى كل البلدان العربية؟ أين أنت من ربيع عربى مبتغى؟ وكان شعارهم الثانى: «الله، حرية، سوريا وفقط»، أما شعارهم الثالث فاستعاد ما صرخ به شباب الأسواق القديمة منذ عدة أسابيع احتجاجا على إهانة أحدهم من قبل شرطى مرور بالقول: «الشعب السورى لا يُذل». يمكن القول بأن حاجز الخوف قد سقط، إذ لم يكن لأحد، كما فى تونس تماما، وبصورة أقل فى مصر، أن يتصوّر «تفوه» شباب متحمس بهذه العبارات ذات الدلالة منذ وصول البعث إلى الحكم فى 1963، مع فرض حالة الطوارئ، وأكثر تحديدا بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة فى 1970. فلقد أعملت أجهزة الأمن الرسمية، مخابرات على أنواعها، وغير الرسمية، كما الحزب القائد ونقاباته ومنظماته الشعبية، على ترسيخ ثقافة كم الأفواه والتخوين لكل انحراف عن مسيرة التبجيل والمديح المجانى لكل ما تقوم به القيادة الحكيمة مهما اشتد فساده أو سوء إدارته أو مستوى قمعه. وقد ساهمت عملية تأطير مختلف الفئات العمرية من خلال ما يسمى المنظمات الشعبية المعنية بشئون الشباب (طلائع، شبيبة، اتحاد طلبة) فى إفقاد الأجيال طموحاتها وإفقار مساهماتها وإجهاض تعبيراتها. وتزامن ذلك مع تأميم المجتمع المدنى وحصر نشاطاته فى الشأن الخيرى مع ممارسة رقابة سياسية صارمة على كل تطلعاته. فى ظل هذا المناخ، هُمّشت الأحزاب ودُجّنت وتم توزيع فتات الموائد عليها أو على ما تبقى منها. ومنذ بدء انتفاضات الشعوب العربية ونزوعها إلى التحرر من الاستبداد السياسى والفساد المالى الذى مارسته عليها سلطات فقدت شرعيتها منذ عقود، تردد المراقبون فى إجمال سوريا ضمن فئة الدول المهيأة لربيع الحرية. وفى هذا التردد وجه من منطق، رغم أن التنبؤ فى هذا الإطار أثبت فشله من خلال مفاجآت بدأها التونسيون الذين كانوا يتهمون عن غير وجه حق بأنهم مثال عن الطاعة والخضوع لحاكم مستبد. ففى الحالة السورية، «ميّزات» عدة تريح السلطة السياسية من تحمل عبء الخوف الذى نقل معسكره من صفوف الشعوب إلى صفوف القادة العرب. فمجتمعهم غير متجانس، فعلى الرغم من انعدام الصدامات الإثنية والطائفية وتعايش مجمل مكوناته بصورة مقبولة، فإن تكويناته تلك تمنحه تعقيدا لا يسمح بتصور توحد جميع فئاته على مطالبات اجتماعية وسياسية وثقافية موحدة. فالعامل الكردى، يزرع الخوف لدى السلطات وبعض من المعارضة. إذ إن المطالبات الثقافية والهوياتية الكردية المحقة والتى يؤيدها المجتمع السورى بجميع توالينه، تصطدم بتوجهات استقلالية نمت خصوصا بعد نشوء الحكم الذاتى الكردى شمالى العراق. وأية مطالبة من هذا النوع ستصيب فى مقتل كل تحرك جماهيرى مشترك بين العنصرين العربى والكردى. أضف إلى ذلك، تعتبر الأقليات الدينية، وهى كثيرة، أن النظام رغم كل تجاوزاته وممارساته، هو الأضمن لاستمرارها فى العيش «بسلام» فى ظل أوضاع إقليمية تعانى فيها الأقليات شتى صنوف القهر والتمييز (العراق مثلا). ويعزز هذا الاعتقاد، خطاب فئوى وطائفى تتبناه بعض الأصوات الفيسبوكية ذات التأثير والتى تسىء إلى كل محاولة صادقة لتجميع قوى الشعب السورى على أهداف مشتركة ذات أبعاد وطنية ومدنية وعلمانية. إلى جانب ذلك، فقد عرف السوريون الخوف ولمسوه لمس اليد من خلال أحداث دامية فى ثمانينيات القرن الماضى عصفت بمدنهم إبان المواجهات الدامية بين الطليعة المقاتلة فى الإخوان المسلمين، التى قتلت ودمّرت واستباحت، ورد أجهزة السلطة التى لم تنأى بنفسها عن ممارسات أصابت أساسا مدنيين وعزّل. هذا إلى جانب ممارسات حقبة الأسد الابن الممتدة منذ بداية الألفية الثانية والتى أصبغت على نفسها صفة التحديث والتطوير وأغدقت بالوعود ونشرت بذور الآمال لدى فئات الشعب السورى وخصوصا لدى الشباب منه. وامتدت الوعود سنوات عشر دون أن يتلمس السوريون أيا من إنجازاتها لا على المستوى المعيشى ولا على مستوى حرية التعبير والتنظيم والتحزّب. ولقد أطلقت مبادرات عدة من أحزاب معارضة وشخصيات مثقفة وجوبهت بالقمع والترهيب والاعتقال. فقد عرفت سوريا أكبر سجين رأى سنا فى التاريخ الحديث وهو المحامى هيثم المالح (80 سنة) الذى اتهم «بوهن عزيمة الأمة» وأمضى سنوات عدة فى السجن قبل أن يجرى إطلاق سراحه بموجب عفو عن الجرائم الجنائية. وتعتبر هذه التهمة من أسهل التطبيقات المنافية للقانون التى تعتمد عليها المحاكم الاستثنائية فى زج المعارضين أو حتى أصحاب الرأى المختلف فى غياهب السجون. ولم يتساءل أحد ممن يوقعون على هذه الأحكام عن طبيعة هذه «الأمة» التى توهن عزيمتها مقالة أو تعبير عن رأى. إن مجمل الخطوات التجميلية التى أسرعت السلطات فى طرحها بعد انطلاقة موجة الحرية العربية لدرئها عن التأثير فى الداخل السورى أثبتت فشلها. فلا الترقيعات الاقتصادية أو الحملات الإعلامية أو الاستجابات المحدودة لمطالب عمالية يمكن أن تُغنى عن المطلب الرئيسى وهو الحرية والكرامة، وهذا ما علمتنا إياه ثورتا تونس ومصر، وسيستمر التاريخ فى فرضه كأساس لا غنى عنه فى تطور المجتمعات. إن السوريين بجميع تكويناتهم ليسوا طلاب عنف ولا تغييرات دراماتيكية، متطلباتهم «بسيطة» فى عرف الثورات وهى تستند إلى مبادئ أساسية للعيش الكريم اتفقت عليها البشرية جمعاء من رفعٍ لحالة الطوارئ وانتخابات حرة وتعددية حزبية ومجتمع مدنى حر وإطلاق للمعتقلين السياسيين وتحرير الإعلام ومحاربة الفساد على أعلى مستوياته. فهل يفطن النظام إلى ما فطن إليه الملك المغربى محمد السادس ويقوم بفتح السجون وإطلاق ورشة الحوار والإصلاح الحقيقى والابتعاد عن التخوين والترهيب والقمع؟ أم أنه سيختار صمّ الآذان عن الحقيقة وتشديد الآلة القمعية وحماية رموز الفساد وتحطيم التلاحم الوطنى ووهن العزيمة الحقيقة للأمة وللإنسان؟ هل ستكون الحملات العشوائية أو المنظمة فى الاتجاه الخاطئ والتى تذخر بها مواقع التواصل الاجتماعى الافتراضية مرتعا لتطوير استراتيجية التغيير أم أنها ستساهم، من حيث تدرى أو لا تدرى، فى تعزيز قوى الممانعة والمصارعة داخل النظام؟ هل أطروحاتها الطائفية وخطاباتها الشتائمية ستساعد فى دعم مطالب السواد الأعظم من الشعب السورى بالحرية وبالكرامة أم أنها ستزود أعداء الحرية بكل الحجج لقطع الطريق أمام الأحلام المشروعة؟ من المؤكد أن سوريا بعد ثورة البوعزيزى وساحة التحرير ستتغير، مهما اختلفت طرق التغيير والتى ستعتمد أساسا على استيعاب النخب السياسية الحاكمة والمعارضة لدروس المرحلة، «فنحن لا نعيش فى جزيرة معزولة، والتاريخ لن يتوقف عند أعتاب دولتنا العتيدة» كما يقول القيادى المعارض والمعتقل السياسى السابق رياض الترك.