عرفت محروسة مصر القاهرة النظام النيابى قبل أن يعرفه العديد من دول العالم أو نسمع به.. ففى يوم الأحد 25 نوفمبر، 1866 افتتح ولى النعم أو أفندينا الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على باشا المولود بقصر المسافرخانة بالجمالية مجلس شورى النواب بمقر فى القلعة وكان بصحبته شريف باشا وزير الداخلية وحافظ باشا وزير المالية وعبدالله باشا عزت رئيس مجلس الأحكام وإسماعيل باشا صديق مفتش عموم الاقاليم ورياض باشا المهردار حامل الختم وأحمد خيرى بك كاتب الخديو وكان إسماعيل راغب باشا أول رئيس لأول برلمان بأمر الخديو. وتليت أول خطبة للعرش وكانت تسمى (مقالة الافتتاح وجاء فيها: «من المعلوم أن جدى المرحوم حين تولى مصر وجدها خالية من اثار العمار ووجد أهلها مسلوبى الأمن والراحة فصرف الهمم العالية لتأمين الأهالى وتمدين البلاد بإيجاد الأسباب والوسائل اللازمة إلى ذلك حتى وفقه الله تعالى لما أراده من تأسيس عمارية الأقطار المصرية وكان والدى عوناً له ونصيرًا فى حياته فلما آلت إليه الحكومة المصرية اقتفى أثر أبيه فى إتمام تلك المساعى الجليلة بكمال الجد والاجتهاد فلو ساعده عمره لأكملها على أحسن نظام ثم انقلبت أحوال مصر بعدهما إلى أن قدر الله تعالى تسليم زمام إدارة حكومتها إلى يدى». وقال أيضًا «كثيرًا ما خطر ببالى ايجاد مجلس شورى النواب لأنه من القضايا المسلمة التى لا ينكر نفعها ومزاياها أن يكون الأمر شورى بين الراعى والرعية كما هو مرعى فى أكثر الجهات ويكفينا كون الشارع حث عليه بقوله تعالى «وشاورهم فى الأمر» و(أمرهم شورى بينهم) فلما استنسبت افتتاح ذلك المجلس بمصر تتذاكر فيه المنافع الداخلية وتبدى فيه الآراء السديدة ويكون اعضاؤه متركبة من منتخبى الأهالى ينعقد بمصر فى كل سنة مدة شهرين». لجنة الرد على خطبة العرش لأن يوم افتتاح المجلس وحضور الخديو إسماعيل كان بمثابة يوم عيد فقد أعلن رئيس المجلس ان هذا يوم عيد يجب عدم الاشتغال فيه فوافق الأعضاء ثم انتخبوا من بينهم لجنة مكونة من عشرة أعضاء تتولى تقديم الجواب على خطبة العرش. وفى اليوم التالى (26 نوفمبر) ذهب إسماعيل راغب باشا رئيس المجلس ومعه اعضاء اللجنة إلى السراى الخديوية بملابسهم الرسمية وقدموا إلى الخديو جواب المجلس على الخطبة، الذى كان طويلًا ومفعمًا بكل عبارات التمجيد والتقديس للذات الخديوية وابيه وجده. نظام المجلس وضع الخديو إسماعيل نظام المجلس فى لائحتين الأولى اللائحة الأساسية وتتكون من 18 مادة وسميت الثانية باللائحة النظامية (نظامنا) وهى ما يطلق عليه حاليًا باللائحة الداخلية للمجلس وتتألف من (61) مادة وتتلخص أحكام اللائحتين فى أن المجلس لم تكن له سلطة قطعية فى أى أمر من الأمور ولا تعدو قراراته أن تكون مجرد «رغبات» ترفع إلى الخديو الذى يملك وحده القول الفصل فيها ولم تحدد المسائل التى يبدى فيها المجلس رأيه. وكان المجلس يتكون من 75 عضوًا يتم انتخابهم لمدة ثلاث سنوات ويتولى انتخابهم العمد والمشايخ فى المديريات وجماعة الأعيان فى القاهرةوالإسكندريةودمياط وكان عدد نواب كل مديرية طبقًا لعدد السكان، فالقاهرة تم تمثيلها بثلاثة نواب واثنين عن الإسكندرية وواحد عن دمياط. واشترطت اللائحة الأساسية فى العضو أن يكون مصريًا ولا تقل سنه عن خمسة وعشرين عامًا والا يكون ممن صدرت ضدهم أحكام جنائية بالليمان أو من المحكوم عليهم بالافلاس أو الطرد من وظائف الحكومة. ويشترط فى العضو العلم بالقراءة والكتابة فى الانتخاب السابق أى بعد مضى 18 سنة على هذا النظام وتم إعفاء الأعضاء من هذا الشرط فى الانتخابات الأولى. وكان الغرض من هذا النص ان هذه المدة كافية لانتشار التعليم بحيث يشترط فى الأعضاء بعدها أن تكون لهم دراية بالقراءة والكتابة كما اشترط فى الناخبين الإلمام بالقراءة والكتابة فى الانتخاب الحادى عشر أى بعد انقضاء 30 سنة. ووفقًا للائحة الأساسية يجتمع المجلس شهرين فى كل سنة من 15 كيهك لغاية 15 أمشير (أى من منتصف ديسمبر إلى منتصف فبراير» أما المجلس الأول فإنه اجتمع استثنائيًا من 10 هاتور إلى طوبة (نوفمبر يناير) ويكون اجتماعه فى القاهرة وجلساته سرية وللخديو جمع المجلس (دعوته للانعقاد) أو تأخيره أو تبديل أعضائه (حله)، ويملك الخديو وحده حق تعيين رئيس المجلس ووكيله دون أن يكون للمجلس رأى أو ترشيح فى هذا التعيين. ويفتتح الخديو المجلس بخطبة العرش ويقدم المجلس جوابه عنه بكتاب لا يقطع فيه بشىء من الأمور. ويقرر المجلس صحة انتخاب اعضائه وعرض اسمائهم على الخديو ليعطى كل واحد منهم (البيرولدى) أى الأمر باعتماد عضويته، وتنص اللائحة النظامية على تمتع الأعضاء بالحصانة البرلمانية ولا ترفع عليهم دعوى جنائية فى اثناء دور الانعقاد إلا إذا ارتكب أحدهم جريمة القتل. وتنص المادة (35) من اللائحة النظامية (الداخلية) على احترام المجلس لرأى الاقلية والاصغاء لأقوالها وملاحظاتها، أما المادة (40) فتقضى بأن يحضر الأعضاء إلى المجلس بملابس (الحشمة اللائقة) وجلوسهم (بهيئة الأدب)، ولا يجوز لأى عضو نشر مناقشات المجلس أو طبعها إلا بإذن من الرئيس وإلا كان عرضة للجزاء الذى يوقعه به المجلس (مادة 54) وهكذا تكشف لنا نصوص اللائحتين أن هذا المجلس الذى اقتصرت تركيبته على الأعيان وأصحاب الأطيان ويخلو من المتعلمين لم يكن سوى مسخ لبرلمانات أوروبا ووسيلة يتجمل بها إسماعيل وطريقة يقنن بها فعلاته وتجاوزاته، ومع ذلك فإن هذا المجلس كان أحد انجازاته التى لا ينكرها أحد. لجان المجلس اجتمع الأعضاء يوم الثلاثاء 27 نوفمبر بمقر المجلس بالقلعة واشتغلوا بانتخاب اللجان وكانت تسمى (الاقلام). وكان عددها خمساً وفقًا لنص المادة الثامنة من اللائحة الداخلية وتشمل لجنة المدائن (العواصم) ولجنة روضة البحرين (الغربية والمنوفية) ولجنة الشرقية ولجنة المنيا وأخيرًا أسيوط وكانت مهمة هذه اللجان تحقيق صحة نيابة الأعضاء فإذا انتهت مهمتها ترسل النتيجة بعد عرضها على رئيس المجلس إلى مهردار الخديو لكى تعرض على الاعتاب الخديوية لإعطاء تذكرة الاعتماد (البيرولدى) للأعضاء ثم تبدأ اللجان فى انتخاب لجان أخرى من بين أعضائها تسمى (قومسيونات) لبحث المسائل التى يحيلها إليها المجلس. محاضر الجلسات والمناقشات لم تكن جلسة الافتتاح معدودة ضمن جلسات المجلس التى بدأت بعد تشكيل اللجان. ومحاضر الجلسات كانت تدون بمعرفة كاتب المجلس ويوقع رئيس المجلس على محضر كل جلسة، أما القرارات فيوقع عليها رئيس المجلس وجميع الأعضاء، وكان للمجلس أن يناقش ما تعرضه عليه الحكومة ويبدى رأيه فيها وجاز له أن يناقش اقتراحات الأعضاء.. فعندما يقترح العضو أمرًا يعرضه رئيس المجلس على هيئة المكتب لتقرر نظره من عدمه فإذا استقر رأيها على مناقشته أرسلت صورته إلى المجلس الخصوصى (الحكومة) ثم يحال إلى إحدى اللجان وتقدم تقريرًا مطبوعًا إلى المجلس لمناقشته وإذا استقر المجلس على قرار بشأنه يتم إرساله إلى الخديو ليقرر ما يراه وإذا تطلبت المناقشات حضور بعض كبار الموظفين لتوضيح وجهة نظر الحكومة يحضر الناظر (الوزير المختص) ليدلى بالإيضاحات المطلوبة. ومن الوزراء والموظفين الكبار الذين حضروا مناقشات الدور الأول لمجلس شورى النواب شريف باشا، وزير الداخلية، ومحمد حافظ باشا، وزير المالية، ومحمد مظهر باشا، وكيل وزارة الأشغال، وعلى بك مبارك، الذى حصل على لقب الباشوية فيما بعد وإسماعيل صديق باشا، مفتش عموم الأقاليم، وكان أكثرهم حضورًا. اقتراحات الأعضاء تكشف مضابط الجلسات ان أول اقتراح تقدم به الأعضاء كان من نصيب هلال بك، نائب الدقهلية، وطالب فيه ببحث مسألة السخرة وناقش الأعضاء الاقتراح فى عدة جلسات ثم أحيل إلى لجنة (قومسيون) سميت لجنة العمليات، مكونة من خمسة أعضاء واشترك معهم إسماعيل باشا صديق، وعلى بك مبارك، وثاقب باشا، مفتش هندسة الوجه القبلي، وانتهت اللجنة فى تقريرها إلى تنظيم «السخرة» بمشروعات الرى والهندسة على أساس انها من المنافع العامة وانها مفروضة على من تبلغ أعمارهم ما بين 15 و50 سنة من أهل البلاد المستفيدة من أعمال السخرة وجعلها مبنية على أساس المساواة بين الأهالى (والمساواة فى الظلم عدل) فوافق المجلس على تقرير اللجنة، كما وافق على طلب الحكومة بفرض ضريبة على المواشى بحجة ان أعمال المنافع العامة تتطلب مهمات وأدوات يجب شراؤها وتم فرض ضريبة 20 قرشًا على الأبقار والجاموس والثيران والخيول والبغال فى السنة، أما الجمال ففرض على كل رأس 30 قرشًا وعلى كل رأس من الحمير عشرة قروش وتم استثناء مواشى المدن والبنادر من هذه الضريبة، كما اقترح العضو محمد أفندى حمادي، نائب جرجا، وضع نظام لضبط عملية تحصيل الأموال فى المديريات لمنع عبث الصيارفة ووجود (لخبطة ومغشوشية فى الإيراد). وطالب العضو سليمان أفندى الملواني، نائب الضريبة بمنع مجازاة العمد بعقوبة الضرب ووعدت الحكومة بتقديم قانون يمنع الضرب واكتفى المجلس بذلك. وانتهى الدور الأول لأول مجلس للنواب يوم الأربعاء الموافق 24 يناير سنة 1867. فصل نائبين معارضين تذكر بعض الروايات ان شريف باشا، وزير الداخلية، أفهم النواب ان المجالس النيابية تنقسم دائمًا إلى حزبين، أحدهما يؤيد الحكومة والآخر يعارضها وأن أعضاء حزب الحكومة يجلسون فى مقاعد اليمين ونواب المعارضة يجلسون فى مقاعد اليسار. واستنكر النواب أن يكون من بينهم من يعارض الحكومة وجلسوا جميعًا فى مقاعد اليمين. فأفهمهم شريف باشا انه لابد أن يجلس بعضهم فى مقاعد اليسار فلم يكن من الأعضاء إلا أن انتقلوا إليها جميعًا. وبعيدًا عن مدى صدق هذه الرواية من عدم صحتها إلا أن المسيو جليون ونجلاز، أحد الكُتاب الفرنسيين الذى دون عدة رسائل عن مشاهداته عن مجلس شورى النواب قد أكد ظهور نائبين معارضين أبديا رأيًا مخالفًا لوجهة نظر الحكومة فكان جزاؤهما الطرد من المجلس بأمر الخديو باعتبار انهما عضوان مشاغبان وانهما خطر على الأمن العام وبعد نحو 13 عامًا على إنشاء مجلس شورى النواب شعر الأعضاء بأنهم سلطة أعلى بالفعل من سلطة الحكومة وبدأت تتشكل مظاهر المعارضة وتتبلور، وكان محمود بك العطار، أول زعيم للمعارضة، حيث اقترح بعض النواب تشكيل لجنة للتفاهم مع (ريفرز ويلسون)، وزير المالية الانجليزي، بناء على طلبه واعترض «العطار» وقال ان المجلس لا ينحصر رأيه فى اللجنة المقترحة من بينهم ولابد من حصول المداولة بحضور النواب جميعًا ونظرًا لأن وزير المالية يطلب بعض الأعضاء للاسترشاد برأيهم فلا بأس من انتخاب خمسة لهذا الغرض بشرط ألا يكون لهم رأى يبدونه فى أى مسألة إلا بعد العرض على المجلس. وعندما اشتد الجدل بين أعضاء المجلس والحكومة وظهر عجز الحكومة أمام المعارضة صدر المرسوم الخديوى بإنهاء أعمال المجلس فى عام 1879، وأعلن بعض النواب رفضهم لمرسوم إنهاء الدورة وذهبوا إلى عدم الاعتراف به ووقف محمود بك العطار مطالبًا بتلاوة نصوص الدستور واحتدمت المناقشة بين الأعضاء ورئيس الوزراء وقتئذ رياض باشا وأعلن النائب المعارض محمد أفندى عدم توجه الأعضاء إلى الخديو لشكره إلا إذا أعطى لمجلس النواب كافة حقوقه وأجيبت مطالبه، وقال: «ها نحن منتظرون الجواب الذى يرد على ذلك»، وكان الجواب استقالة وزارة رياض باشا وجاءت وزارة شريف باشا ثم كان ما كان من أحداث الثورة العُرابية. دور الانعقاد الثاني افتتح الخديو اجتماع المجلس فى دور انعقاده الثانى فى يوم 16 مارس سنة 1868 وقد تأخر المجلس عن موعده المحدد في اللائحة الأساسية وهو شهر كيهك (ديسمبر) وبرر الخديو هذا التأخير بمرضه ثم عهد إلى خيرى بك المهردار بتلاوة خطاب العرش وفى هذا الدور نوقشت لأول مرة المسألة المالية وشكل المجلس لجنة من ثلاثة أعضاء لدراستها وتقديم بيان عنها وتوجهوا إلى وزارة المالية واطلعوا على بعض دفاترها وقدم لهم إسماعيل باشا صديق، وزير المالية، بيانات غير صحيحة عن ديون الحكومة وأن المتبقى منها نحو سبعة ملايين جنيه، بينما بلغت الديون فى ذلك العام 134 مليون جنيه، كما قدم «إسماعيل»، المفتش، أول ميزانية لمجلس النواب وكانت «مضروبة» وأرقامها ليس لها ظل من الحقيقة، حيث زعم ان الإيرادات زادت عن المصروفات بمبلغ عشرة ملايين جنيه واختتم الدور الثانى فى 23 مايو عام 1868. دور الانعقاد الثالث تم افتتاح دور الانعقاد الثالث والأخير من الهيئة النيابية الأولى (الفصل التشريعي) فى 28 يناير متأخرًا أيضًا عن موعده وناقشت تعيين مشايخ القرى برغبة الأهالى والتحرى عن سلوكهم وعدم عزل أحد منهم إلا إذا ثبت عليه ارتكاب جنحة، كما ناقش تشجيع الأهالى على تحرير (حجج) بملكياتهم فى المحاكم وتنظيم المبانى بالمدن والقرى ورسم خرائط بمعرفة مهندس التنظيم وفتح الشوارع فى البنادر والقرى وإنشاء مجالس تفتيش الزراعة. الاجتماعات على «مزاج» أفندينا انتهت عضوية مجلس شورى النواب الأول بانقضاء ثلاث سنوات على انتخابه وأجريت الانتخابات للهيئة النيابية الثانية (الفصل التشريعي) فى أوائل عام 1870 وانتهى دور الانعقاد فى أغسطس عام 1871 بعد اعتماد الميزانية كما شاء الخديو وحكومته بدون مناقشة. أما الدور الثانى فلم ينعقد أصلًا. وفى الدور الثالث خطط المجلس مشروع سكة حديد السودان ورغم ان هذا الدور كان أول اجتماع للمجلس بعد صدور «قانون المقابلة» والذى يقضى بدفع ضرائب ست سنوات مقدمًا وكذا الضريبة السنوية مقابل اعفاء أصحاب الأطيان من نصف المربوط عليهم وانقضى المجلس كالعادة بعد الموافقة على ميزانية «إسماعيل»، المفتش، المضروبة، وتوقفت الحياة النيابية لمدة عامين بعد ذلك. تلك حكاية أول برلمان فى مصر.