الحياة في الريف، لذة وتعب في آنٍ واحد، فالحياة وسط الطبيعة والهواء النقي تشعرك كأنك في الجنة، لا تريد الخروج منها، ولكن من يتمتع بهذه اللذة بالتأكيد أصحابها وليس العاملون بها، فهناك قطاع كبير من المقيمين بقرى ريفية يعملون في الحقول لكسب قوت يومهم، ولتلبية احتياجاتهم المختلفة، من هؤلاء مجموعة من الفتيات لا يعرفن في حياتهن غير الخضرة والزرع وطريق منازلهن، حيث يذهبن في الصباح إلى الحقل ويعدن في المساء من أجل 40 جنيهًا في اليوم الواحد، وذلك لكي لا يجلسن في المنزل من دون عمل، وحتى تستطيع كل واحدة منهن إحضار "جهازها" والأدوات التي تحتاجها لكي تتزوج، ويخففن بذلك عن كاهل أسرهن الكثير من الأعباء عندما يتقدم أحد الأشخاص لابنتهما. قبل تسليط الضوء على حكايات بعض الفتيات اللائي يعملن في الحقول، وقصص كفاحن وبعض الأمور التي "تثير الضحك" عند سماعها من أفواههن عن المدن. سنتحدث أولًا عن طبيعة القرى الريفية، عادةً في الريف تكون حياة الناس منقسمة إلى أقسام عدة، أهمها: أشخاص يملكون مساحات واسعة من الأراضي وعادةً ما يفكرون في بيع أجزاء منها، خصوصًا أن ما ينفقونه عليها أكثر من عائدها، كما أن حياة المدن ورفاهية بعض الأشخاص فيها تجذبهم ويسعون لتقليدها، لذلك لا سبيل لديهم إلا بيع أحزاء من أراضيهم لكي ينعموا بالأموال ويعيشوا حياة مرفهة قد لا يعيشونها وهم مالكون للأراضي، أما القسم الآخر فهم الفلاحون الغلابة والعاملون بالحقول "سواء تنقية أو تجميع الزرع في موسمه"، كل مهمتهم العمل والسعي وراء رزقهم. واستمعت "بوابة الوفد" إلى قصص فتيات من قلب الريف، ففي قرية بالفيوم بمنطقة الكفر، مكان عمل صفاء ودعاء ومنى، نماذج حية لكفاح الفتيات، فعلى رغم أن كلًا منهن تسكن في منطقة مختلفة عن الأخرى، إلا أنهن يتجمعن سويًا لكي يذهبن إلى مكان عملهن، حيث تنتظرهن عربة لتأخذهن إلى الحقل، ليعملن طوال النهار ثم يعدن إلى منازلهن وعلى وجوههن ابتسامة. في منطقة الكفر، كان لقاؤنا في "الحقل" مع الفتيات الثلاث، حيث قمنا بقضاء يوم بالكامل معهن. في الصباح الباكر حوالي الساعة 6 صباحًا، قابلنا الفتيات الثلاث واستقلينا معهن العربة التي قامت بتوصلينا إلى حقل بمنطقة الكفر بالقرب من بولاق الدكرور، وبعد الوصول إلى الحقل، تابعت خطواتهن، وماذا يفعلن من وقت نزولهن من العربة إلى أن ينتهي عملهن ويعدن إلى المنزل. تبديل العباءات بغيرها لكي يتمكن من العمل وحتى لا تتسخ ملابسهن من أول عمل يقمن به، ثم يتجمعن مع بعضهن البعض وبجوارهن شابان يعملان في الحقلن فسه، ليتناولوا وجبة الإفطار وهي: "فول وطعمية وجبنة وبطاطس وشوية جرجير"، بعد الانتهاء من تناول الطعام تذهب صفاء لكي تقوم بإشعال مجموعة من الخشب لعمل الشاي عليها، بعد ذلك يتوزعن في الحقل لكي تقوم كل واحدة منهن بتجميع الزرع. "الحقل اللي انت شايفه ده كان مليء بالفتيات من كل مكان ولكن الحال زي ما انتي شايفه صفى على ثلاثة أو خمسة بعد ما كان المئات يعملون فيه"، بهذه الكلمات بدأت صفاء، التي تبلغ 19 عامًا، حديثها بحزن شديد. وأشارت إلى أن الزحف العمراني إلى المساحات الخضراء، حوّل الحياة والخصب إلى كتل خرسانية، فلم تعد الأرض تلد خيرًا بل باتت جرداء لا زرع فيها ولا ماء، والفلاحات والعاملات هجرن حياة الريف إلى المدينة بحثًا عن فرصة عمل. قالت، وهي تحبس دموعها، العمل بالأراضي الزراعية عفا عليه الزمن ولا نحصد منه إلا الجوع والفقر والحرمان، فتركنا بيوتنا بحثًا عن فرصة للحياة. لا تكاد تنتهي صفاء من كلمتها، حتى تقاطعها منى: "الحمد لله على كل حال، والدي توفى عندما كنت صغيرة وبدأت أعمل في الحقل عندما كان عمري لا يتجاوز 10 سنوات، لكي أنفق على والدتي وأخواتي الثلاثة، مشيرةً إلى أنها لم تستطع أن تدخل المدرسة وتتعلم كغيرها من الفتيات ولكن تسعى لكي تعلم أخواتها حتى لايعانون مثلها. وأكدت أن الفلاح اليوم لم يعد يعيش في هناء وسعادة، بل أصبح يشقى وراء حياة الكفاف، محرومًا من صحبة الخلان الذين تفرقوا في طرقات العمل". وأثناء حديثي معها، التفت إلى الجانب الأخر من الحقل، ولاحظت قدوم امرأة، سألت منى عن هذه المرأة: "فنظرت إليها وقالت.. الله يعينها"، دي أم محمد تأتي يوميًا إلى أرضها لكي تهتم بها بعد مرض زوجها، مشيرةً إلى أنها تستيقظ الفجر لكي تحلب الجاموسة ولتبيع اللبن والزبدة، ثم تخبز لعائلتها، وحوالي الساعة ال7 صباحًا تأتي إلىي الحقل حاملة مشنتها لتحصد محصولها الذى شقيت فى زراعته، ثم تعود قبل "المغربية" على دارها مرضية، تحمد الله على نعمه. وأشارت إلى أنهن مثل أم محمد: "لا يحملن عقد عمل ولا يتمتعن بتأمين اجتماعى أو صحى، ولا ينتمين لنقابة تحميهن وقت الشدة، لافتة إلىي أن بعض السيدات يضطررن للذهاب إلى الحقل في شهور الحمل الأخيرة". لم اندهش من قصة أم محمد التي روتها "منى"، فطبقًا لدراسة للدكتورة سلوى العنترى، فإن نوعية النساء اللاتى يعملن فى منازلهن من دون كلل ولا ملل، والأهم من دون أجر، ومن دون انتظار مكافأة، حوالي 84٪ من عمالة النساء من دون أجر فى الأنشطة الزراعية وتربية الطيور والمواشى والأغنام وجمع المحصول وعمل الزبدة والجبنة والسمنة، و86٪ منهن متزوجات، وتتراوح أعمارهن بين 20 إلى 49 عامًا. أما دعاء فهناك اختلاف بسيط في قصتها، فهي طالبة في الصف الثالث الإعدادي، تأتي في الصباح الباكر مع صديقتها إلى الحقل وتعمل ساعتين ثم ترتدي ملابس المدرسة لكي تحضر الحصص المقررة عليها، وبعد انتهاء اليوم الدراسي تعود مرة أخرى إلى الحقل حتى تأتي الساعة ال6 مساءً، فيحين وقت عودتها للمنزل لكي تتعشى ثم تذاكر". "نفسي أحصل على مجموع كبير يؤهلني أن أدخل ثانوي لكي أدخل الجامعة بعد ذلك وأكون حاجة كويسة يفتخر بيها اهلي".. بهذه الكلمات تبدأ دعاء حديثها، لترد عليها صديقتها منى: "وانتي تقدري على الجامعة وبنات الجامعة دول أول ما يشوفوكي هيضحكوا عليكي بملابسك دي"، لتأخذ حديثها على أنه دعابة لطيفة وترد: "وهما بنات الجامعة أحسن مني في إيه.. إأن شاء الله هأدخل أحسن كلية وهأكون حاجة كبيرة وأكيد لن أذهب إلى الكلية بهذه الملابس سأرتدي ملابس أكثر أناقة". بعد حديثهن، سألتني دعاء سؤالًا لم أتمالك نفسي من الضحك عند سماعه، وهو: "هما حقيقي بنات الجامعة يذهبن إلى الديسكو ولا يفعلن شيئًا غير اللعب؟"، فكانت إجابتي: "لأ أكيد اللي حكى لكِ هذا الحديث مش عايزك تدخلي الجامعة، لذلك يقول لك معلومات خاطئة لا أساس لها من الصحة". الحديث معهن لا ينتهيأبدأً، ولكن انشغالهن في العمل وحرص كل واحدة على أن تسرع في أداء عملها وتجمع أكبر قدر من الزرع لكي تزيد يوميتها، جعلني أنهي الحديث وأتركهن لمواصلة عملهن.