أخيراً، وبعد طول انتظار، استطاع الشعب المصري الذي بهر العالم بحضاراته العظيمة على مدى آلاف الأعوام في «أم الدنيا»، أن يبهر العالم من جديد في عام واحد مرتين؛ الأولى، حين قدم أزهى صورة لثورته في يناير الماضي، والثانية، حين قدم أزهى صورة لديمقراطيته في ديسمبر الحالي، ما دعا صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أن تقول «إن المصريين اصطفوا في طابور طويل كنهر النيل تماماً ليعطوا الحياة لمصر». وعلى مدى اليومين الماضيين واصلت مصر مسيرتها الديمقراطية الجديدة بتنظيم المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية، بعد نجاح المرحلة الأولى، سيراً على خارطة الطريق التي تضمنها الإعلان الدستوري، لتسليم الحكم لسلطة مدنية منتخبة ولرئيس منتخب، بأوسع مشاركة شعبية في التاريخ المصري، في رسالة شعبية بليغة، معنونة إلى كل من يهمه الأمر في الداخل والخارج أنه شعب متحضر على الرغم من بعض شهود الزور على ثوابته الوطنية أو على ثقافته العربية والإسلامية، أو على إرادته السياسية، أو على قيمه الأخلاقية. هكذا تشهد مصر بعد بداية أول انتخابات برلمانية حرة في تاريخها بإصرار من المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تنظيمها في موعدها رغم التحديات، وبتأمين غير مسبوق من رجال الشرطة المصرية رغم الاضطرابات، وبإشراف كامل من رجال القضاء المصري رغم الحملات، بغير تزوير أو إغراء أو إرهاب، لتشكيل أول برلمان منتخب بحرية سياسية، ولصياغة الدستور الدائم بتوافق وطني، وصولاً إلى تحقيق أهداف الشعب في التنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية. يجري هذا التحول الديمقراطي مع تشكيل حكومة جديدة برئاسة رجل له رصيد كبير من الخبرة والكفاءة في التخطيط والاقتصاد هو الدكتور كمال الجنزوري، بمهمتين رئيسيتين، هما: استعادة الأمن بسيادة القانون ودفع عجلة الاقتصاد بزيادة الإنتاج. وعلى مدى أيام قليلة تحركت الشرطة المصرية بنشاط ملحوظ لتأمين المواطن المصري من كل الخارجين على القانون، وبدأت لجان العمل الوزارية في دراسة رفع معدلات الأداء الاقتصادي بما يمكن الحكومة الجديدة من الوفاء بمطالب الشعب، وهو ما يتطلب العمل وليس اللوم. وبالتوازي مع ذلك يجري توسيع قاعدة وإطار صناعة القرار مدنياً بتشكيل مجلس استشاري لإدارة البلاد العسكرية ولحكومتها المدنية لحين انتخاب رئيس للجمهورية، برئاسة رجل له رصيد كبير من الخبرة والثقافة السياسية والنزاهة الشخصية هو الأستاذ منصور حسن، وعضوية نخبة ممتازة من عقول مصر، في غير انتقاص لسلطة مجلس الشعب التشريعية والرقابية، مع الفارق الكبير بين إبداء المشورة في صناعة قرار تنفيذي، وسلطة إصدار قانون تشريعي، أوليس الأمر شورى؟، أو ليس الدين النصيحة؟ إن صناعة القرار السليم لا تتم إلا بأوسع صور المشاركة والشورى، وبالثقافة وبالعلم، وبالتوافق السياسي وبالمسؤولية الوطنية، وليست استجابة لأول صوت يرتفع ولا لأعلى صوت يرتفع، ولا لأقلية على عكس إرادة الأغلبية، ولا لصالح أغلبية على حساب مصالح أقلية، بل هي موازنة واختيار بين البدائل بشرط توافق القرار مع إرادة الغالبية الشعبية عبر الوسائل الديمقراطية ومن خلال المجالس البرلمانية المنتخبة. لقد أثبت الشعب المصري الذي عرف المجالس النيابية منذ عشرات العقود وقبل العديد من الدول الديمقراطية ذاتها أنه بمخزونه التاريخي وسلوكه الحضاري وإقباله غير المسبوق على المشاركة السياسية في الانتخابات البرلمانية أنه ليس حديث عهد بالديمقراطية، حتى وإن عاش في تاريخه تزييفا لها بإبقاء شكلها السياسي وبتفريغها من مضمونها الاقتصادي والاجتماعي، وأنه ليس بحاجة لشهادة من أحد على وعيه وأهليته ومسؤوليته، وأنه جدير بثورته الشعبية وبحريته السياسية. كما أثبت أنه الأذكى من كل المتذاكين عليه بأقلام سوداء أو بشاشات زرقاء أو بضحكات صفراء، وأنه الأكثر مسؤولية وطنية من كل الأدعياء بينما ذواتهم أهم من شعبهم، وأحزابهم أهم من وطنهم، وأنه الأكثر ديمقراطية من كل أدعيائها الذين سرعان ما ينقلبون عليها عندما يخسرون، ظهر هذا واضحاً في أهم خطوة حقيقية بعد الثورة في اتجاه التحول من الديكتاتورية إلى الديمقراطية ومن الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية ، في الطريق من ميدان الثورة إلى برلمان ما بعد الثورة. ولولا استعادة الشعب لإرادته بالثورة لما استطاعت مصر الجديدة بدء التحول من الديكتاتورية إلى الديمقراطية انطلاقا من الانتخابات البرلمانية ونهاية بالانتخابات الرئاسية لبناء المؤسسات التشريعية والتنفيذية بإشراف السلطة القضائية، تأكيدا أن إرادة غالبية الشعب هي الشرعية الحقيقية، وأن الشعب فعلاً لا قولاً هو مصدر كل السلطات، ليبقى المطلوب من أنصار الديمقراطية ومن أدعيائها على السواء، احترام الإرادة الشعبية باحترام نتائج الانتخابات البرلمانية أياً كانت، فليست هناك ديمقراطية وفق الهوى الثوري، أو على المقاس الحزبي! فرأيي أن الثورة، لابد أن تكون ديمقراطية في البداية، كما لابد أن تكون وطنية في النهاية، لأن الثورة لا تكتسب شرعيتها إلا بشعبيتها، ولا تكتسب صفتها إلا بوطنيتها، و بمشاركة غالبية الشعب، أو بتعبير طليعتها الثورية عن تطلعاته، وليس بسبقها أو التخلف عنها. وبنهاية المرحلة الثانية لهذه الانتخابات التاريخية المتواصلة أصبحت مصر على موعد مع بداية تغيير ثوري جديد منشىء لواقع جديد صنعه الشعب، وعلى مشارف صباح ديمقراطي جديد كاشف لحقائق جديدة بإرادة الشعب، ولولا استخلاص جل الشعب لإرادته بالثورة لما أمكن البدء بإعادة بناء واقعه الجديد الذي يشهده العالم باحترام باتجاه الحرية السياسية والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. بما يضمن لكل مواطن حقوق المشاركة بفرصة متكافئة في السلطة الوطنية وبنصيب عادل في الثروة القومية، وبما يحقق للجميع في وطن آمن الحقوق الإنسانية والمواطنة المتساوية أمام قانون عادل يحمي الأمن والحرية والكرامة للوطن والمواطن. فتلك هي ثورة الشعب وسلطة الشعب وفق إرادته الحرة كما أفهمها. نقلا عن صحيفة البيان الإماراتية