أحياناً نصنع العذاب لأنفسنا بأيدينا حين نرفض أن نعوم مع التيار ونقبل الواقع كما هو ونتعايش مع الظواهر السلبية التى تسللت بخبث إلى حياتنا حتى أصبحت سمة غلبة تميز مجتمعنا وتصمه بالاتكالية والكسل ونقص المناعة الأخلاقية والانتهازية والأنانية وفقدان ذاكرة الضمير الجمعى، ولعل الصراعات الدائرة على الساحة فى مصر بعد ثورة 25 يناير تجسد ذلك العذاب وتوضح المعانى التى أقصدها: التناقض بين الفعل والعمل على الساحة السياسية وشيزوفيرينيا النضال السياسى لبعض الأحزاب التى تفعل ما لا تقول وتقول ما لا تفعل وتلون جلدها طبقاً للموضة ولما يجرى على الساحة، تتحدث عن المبادئ والثوابت والمثل وتمارس عكس ذلك تماماً لكى تصل إلى تحقيق طموحاتها السياسية بالطعن فى شرف الآخر والتخوين والإقصاء والارتماء فى أحضان الرابح أو المتوقع فوزه وإيجاد المبررات الساذجة التى لا تقنع إلا السذج ولا تنطلى إلا على من غسلت عقولهم لكى يصبحوا تابعين بالميلاد.. الانتخابات التى جرت كانت مسرحاً مفتوحاً أبطاله الأحزاب الموجودة والمرشحون الفرديون وجمهوره كل شعب مصر بجميع طوائفه والدخول مجانى فى كل شوارع مصر والمشاهدة وقوفاً لساعات دون ملل من فرط الإثارة وقدرة اللاعبين حتى دون أن يدروا على إمتاع الجمهور بألاعيب وحركات بهلوانية تأخذ بخناق اهتماماتهم ولا تفلتها خشية أن ينصرفوا عنها، وحين يغلق الستار سوف تغلق «مسارح» كثيرة أبوابها، وسوف تتغير الخريطة السياسية فى مصر، وسوف يختفى كثير من اللاعبين من على المسرح، وسوف ينفرد الشعب بكتابة المسرحية القادمة ويخرجها بنفسه ويشترك فى أدوارها. ماذا حدث للمصريين؟ هناك كتب كثيرة بالعنوان نفسه أو تتحدث عن الموضوع، ولكنها جميعاً تتناول هذا السؤال المهم من الناحية الأكاديمية والتحليل العقلانى دون أن تقدم إجابة شافية أو تعطى أمثلة واقعية لظواهر تحيط بنا تشرح المعنى عملياً فى سلوكنا وسلوك من نتعامل معهم يومياً.. فمثلاً لماذا لا يعبأ ملاك العقارات بكم المياه التى تهدر يومياً على غسيل سياراتهم وحراس العقارات يمسكون يومياً فى أيديهم بخراطيم تسهل عليهم عملهم بدلاً من استخدام الجردل والفوطة كما كانوا يفعلون من قبل؟ أصحاب السيارات يقبلون دفع فواتير المياه الفلكية عن مياه تلقى فى الشارع وتحرم منها مناطق كثيرة تعيش بلا مياه وتساعد على وصولنا إلى مرحلة كارثة العطش التى أصبحت قريبة.. ولماذا لا يرد الأطباء على تليفزيونات مرضاهم الذين سددوا قيمة الكشف المبالغ فيها ويحتاجون إلى استشارة عاجلة أو توجيه أو حتى تحديد موعد لمتابعة العلاج؟ ولماذا يعتبر الطلاب من لا يساعدهم على الغش خائناً يحرمهم من فرصة النجاح والحصول على أعلى الدرجات بعد أن تحول بعض المدرسين إلى سماسرة دروس خصوصية يعقدون صفقاتهم لجلب الزبائن فى الفصول التى يدرسون بها؟ إغراءات المنصب والمال التى تشترى الذمم وتخرس الألسنة وتخضع النفوس وتغمض العيون عما يجرى فلا ينتصر الناس للحق ولا يقاومون الفساد ولا يثورون على الطغيان والاستبداد والدكتاتورية فى أماكن عملهم.. أعرف مركزاً تابعاً لمجلس الوزراء بؤرة للفساد والمحسوبية والظلم للغالبية ممن يعملون به وقام بدور حيوى فى التكريس لفساد حكم مبارك ووضع ونفذ خطة التوريث وبدد أموالاً طائلة قدمت لمصر كمعونات أو قروض أجنبية تغير عليه أكثر من رئيس وكلهم أسهموا بدرجات متفاوتة فى زيادة رقعة الفساد وغض الطرف عما يحدث احتفاظاً بمراكزهم يغدقون فى العطاء لمن حولهم ويولون المحاسيب أرفع المناصب ولا عمل يؤدى ولا قيمة مضافة تتحقق وكل ما يفعله جيش العاملين والمستشارين تقارير تافهة تتحدث عن نسب الزواج والطلاق والأمية التى تتناولها الصحف وأجهزة الإعلام ومراكز البحوث المنتشرة فى طول البلاد وعرضها وفى الجامعات دون مقابل، كيف يستحل الناس ما يتقاضونه نظير «لا عمل» ويشتركون فى خطة خداع شعب مصر بأن هناك مؤسسات تساعد متخذ القرار على الوقوف على مشاكل مصر وأحوال شعبها وتضع أمامه الحلول للمشكلات وتبادر بتحليل الأزمات والمشاركة فى التغلب عليها؟ الحرفيون فى مصر سلوكهم عجيب فيما يختص باستخدام تليفوناتهم المحمولة.. يتبادلون أرقام التليفونات مع عملائهم ولكنهم أبداً لا يطلبونهم حتى لا يتحملوا ثمن المكالمات معتمدين على أن من يحتاجهم سوف يطلبهم ويلح فى الطلب، وحتى حين يضطرون لطلب العملاء أو الرد على رسائلهم فإنهم يعطون «رنة» حتى يعاود العميل طلبهم، ويتقاضون أتعاباً كبيرة على جهدهم ولكنهم يستخسرون بضعة قروش على مكالمة مهمة تتعلق بعملهم فى الوقت الذى يلتصق التليفون بآذانهم طوال اليوم فى دردشات خاصة وسماع أغان يدفع ثمنها العملاء فى النهاية.. الكثير منهم أصبح لا يهتم مطلقاً بإجادة عمله كما لو كان يخطط لدوام التواصل مع العملاء وتوليد أعمال جديدة تدر عليه دخلاً محترماً، ولكن المشكلة أن عدم إجادتهم لعملهم تتسبب فى كوارث أحياناً دون أن يستطيع ضحاياهم الرجوع عليهم بالتعويض كما يحدث فى الخارج، فوجئت صباح يوم بتليفون من مدير قرية سياحية أمتلك بها شاليهاً صغيراً يطلب منى سرعة الحضور، حيث تنساب المياه من الشاليه وحين ذهبت وجدت أن خرطوم سخان المياه الذى قام بتركيبه فنى يعمل بالشركة التابع لها يسرب المياه حتى أغرقت الشاليه وفاضت على الجيران.. من الذى سوف يسدد فاتورة الخسائر لى ولهم؟ العوض على الله!